CET 00:00:00 - 02/07/2009

مساحة رأي

بقلم: د. محمد مسلم الحسيني - بروكسل
جنون العظمة مصطلح تاريخي مشتق من الكلمة الإغريقية (ميغالومانيا) وتعني وسواس العظمة، لوصف حالة من وهم الإعتقاد حيث يبالغ الإنسان بوصف نفسه بما يخالف الواقع فيدعي امتلاك قابليات إستثنائية وقدرات جبارة أو مواهب مميزة أو أموال طائلة أو علاقات مهمة ليس لها وجود حقيقي. أستخدم هذا المصطلح من قبل أهل الإختصاص في وصف حالات مرضية يكون جنون العظمة عارضًا فيها كما هو الحال في بعض الأمراض العقلية. إلاّ أن إستخدام هذا المصطلح تعدى استعماله الطبي فأصبح شائعًا في المجتمعات بحيث امتد استخدامه إلى وصف حالات تكون للأمراض النفسية والإجتماعية دورًا فيها مما يجعل الباب مفتوحًا لتصنيف هذه الحالة وحسب مسبباتها إلى الأقسام التالية:

أ- جنون العظمة عقلي المنشأ
هو عارض لمرض عقلي صرف كمرض الإضطراب الوجداني ثنائي القطب، الذي يكون المريض فيه مرتفع المزاج، كثير الحركة والضحك والفكاهة يصرف ما في جيبه ويدعي بقابليات ليس لها وجود. كما يعتبر جنون العظمة عارضًا وعلامة من علامات مرض فصام الشخصية (الشيزوفرينيا)، أو قد يكون مرض مستقل بحد ذاته وليس عارض لمرض. المريض عادة يعتقد بشكل قاطع بامتلاكه صفات غير واقعية وعظمة وهمية ولا يقتنع بمخالفة الآخرين له في هذا المضمار.
في مرض فصام الشخصية يعاني الفصاميون من جملة من الأوهام والضلالات تكون عادة (حسّية) و(إعتقادية). ففي الوهم الحسّي قد يسمع المريض أصوات غير موجودة أو يرى أشياء غير واقعية أو يشم ويلمس ويتذوق ما لا حقيقة له. ترى البعض يتكلم مع السماء أو يتلاكم مع الهواء أو يبكي ويلطم بدون سبب أو قد يضحك ويقهقه حسبما يرى ويسمع ويحس من أمور لا واقع لها. وقد تكون الضلالة في الإعتقاد، كـ "الإعتقاد الإضطهادي" حيث يتصور المريض أن من يضحك مع زميله إنما يضحك عليه ومن يتهامس فإنه يتهامس عليه وأن الناس حوله منهمكون في صنع المؤامرات ضده.
كما تشمل ضلالات الإعتقاد أيضا ما يعرف بـ "جنون العظمة" أي وهم الإعتقاد بالعظمة، فيعتقد المريض وبشكل قاطع بأنه حالة إستثنائية فوقية تختلف عمّا سواها وتتفوق بقدرات ومواهب قد تكون خارقة. فقد يتصور نفسه -على سبيل المثال وليس الحصر- بأنه مسؤول سياسي مهم أو قيادي في الحزب من الدرجة الأولى أو أنه من أقارب رئيس الوزراء أو من المقربين له، أو أنه تاجر ثري يملك الكثير من الثروة والمال أو أنه فيلسوف في عصره وحكيم في زمانه وأديب لا يضاهى أو أمير للشعراء أو أحد علماء الكون ومنظريه أو رجل من رجال الدين المنزهين حتى قد تقوده الهلاوس والضلالات إلى أن يدعي النبوة أو الإمامة في بعض الأحيان.
عارض جنون العظمة هنا سهل التشخيص لأنه يتلازم عادة مع عارض الوهم في الحس والإعتقاد ويكون المريض بحالة واضحة تستدعي العناية والعلاج. إلاّ أن المشكلة تكمن في أولائك الفصاميين الذين هم في حالة مستترة لا تظهر فيها الضلالات على السطح حيث يمارسون حياتهم العادية ولا يبدو عليهم المرض. قد تجد بينهم الأطباء والمهندسين والأدباء والسياسيين الذين ربما يظهر عليهم المرض بعارض واحد وهو وهم الإعتقاد بالعظمة فيدعون ما لا يملكون ويصدقهم البسطاء بسبب إختصاصاتهم ومراكزهم الوظيفية والإجتماعية.
جنون العظمة المنبعث عن أسباب عقلية هو عارض بسبب خلل عقلي حقيقي وليس بسبب حالة نفسية أو ردة فعل إجتماعية تدفع المرء بشكل شعوري أو لا شعوري إلى إيهام نفسه أو إيهام الآخرين بعظمة خيالية غير موجودة. من أجل التفريق بين الحالتين أحبذ إستخدام "وهم العظمة" في المجال النفسي والإجتماعي وأجعل كلمة جنون العظمة خصوصية للأمراض العقلية الصرفة فقط.

ب- وهم العظمة نفسي المنشأ
وهو حالة تنطلق من دواعي نفسية المنشأ تجعل المريض يعاني من هذا الداء الذي قد ينشأ في منطقة اللاشعور ويكون لأسباب أذكر منها:
1- عقدة الشعور بالنقص: بسبب الحرمان والفقر والجهل تحصل عقدة الشعور بالنقص التي تبقى تبحث عن تعويض في منطقة اللاشعور. قد يكون وهم العظمة أحد مظاهر عقدة الشعور بالنقص، حيث يدعي الفرد بما ليس لديه لإيهام نفسه أولاً وإيهام الآخرين سعيًا في الشعور باللذة والسعادة الوهمية التي تتأتى من اختلاق كفاءات أو مواهب أو مميزات غير موجودة أو مبالغ فيها. نفس هذه العقد تحصل عند من فقد الحنان أثناء الطفولة أو من عانى من إضطهادات وصدمات خلالها، فهؤلاء في إحتياج دائم للتعويض عن هذا النقص، الذي تظهر علاماته عندما تجدهم يسبحون في فضاء الخيال بوصف النفس بما ليس فيها من أجل الإستمتاع بلذة الوهم.
2- تقمص الشخصية: قد يتقمص الطفل أثناء طفولته أو من خلال مراحل بلوغه شخصية أبويه أو أحد أفراد عائلته ممن يشكون من حالة وهم العظمة أو قد يتقمص شخصية ذات مميزة يتأثر بها وبسلوكياتها كشخصية قائد عسكري بارز أو سياسي معروف أو شاعر متألق أو طبيب حاذق أو ممثل نجم أو مطرب مشهور أو رجل دين كبير أو ما إلى ذلك من أمثال، حيث تعيش الشخصية المتأثر فيها داخل لا شعوره مما تجعله يسعى ويجهد إلى أن يسلك نفس طريق من تأثر به سياسيًا أو دينيًا أو علميًا أو فنيًّا ويحاول تقليده في حياته العملية مما يظهر وبشكل أو بآخر أسلوب التقمص وعلاماته التي قد يشخصها الناس بصورة جنون عظمة.
3- الشخصية السايكوباثية: وهي شخصية مفترسة تستخدم كافة الأساليب والطرق في تسخير الآخرين والسيطرة عليهم، تفتقد الشفقة والرحمة وتستأنس بعذابات الآخرين. من أجل تحقيق ما يسعى اليه المريض فأنه قد يستخدم الطرق الملتوية والخداع اللفظي وإظهار النفس بما ليس فيها من أجل التمويه ومن ثم الإنقضاض على الفريسة.

ج- وهم العظمة إجتماعي المنشأ
قد ينبعث هذا العارض من منطقة اللاوعي بحيث يكون المريض إجتماعيًا غير واع على وهم إدعاءاته. أو قد يكون المصاب بهذا الداء واعيًا على زيغ إدعائه ويستخدم هذا الإسلوب لغرض محسوب يندرج في سياق الإفتراء أو التضخيم... أسباب وهم العظمة الإجتماعي كثيرة ومتشعبة أذكر منها ما يلي:
1- الوهم المكتسب: قد يلعب المجتمع دورًا كبيرًا في بناء ظاهرة وهم العظمة عند بعض الأشخاص. الإطناب والمديح المبالغ به لشخص ما، له سلطة دينية أو سياسية أو إجتماعية أو علمية أو أدبية قد تدفع به إلى الوهم في الإعتقاد حيث يبدأ بملاحظة نفسه بشكل مضخم تجعله ينزلق بهوّة وهم العظمة دون أن يدرك ذلك. نفس الأمر يصح عند بعض العوائل التي تكيل المديح والإطراء والوصف الوهمي لولدها المدلل فتوهمه بعظمة غير حقيقية، فينشأ معتقدًا بقدرات وخواص قد لا تكون موجودة عنده لكنه يعلنها أمام محيطه الذي ينشأ فيه وهو معتقد بصورته المرسومة له من قبل أهله.
2- إزدواج في الشخصية: وهم الإعتقاد بالعظمة قد يكون عرض من أعراض إزدواج الشخصية بنوعيه النفسي وهو الـ "نادر" والإجتماعي وهو الـ "شائع". حيث يعيش المريض عادة في عالمين متناقضين بالمبدأ والإسلوب، فيستدعي أحد أطراف الشخصية المزدوجة إظهار النفس بما ليس فيها وإبتداع مواهب وصفات غير موجودة، تتناسب مع لوازم تلك الشخصية ومتطلباتها.
3- حب الظهور: من نزعات الإنسان وطبائعه هو أن يحب إظهار نفسه أمام الغير وهذه صفة إنسانية طبيعية وغريزية لا يحق لأحد أن ينتقدها أو أن يتسامى عليها. قد يختلف الناس بهذه الرغبة من حيث الدرجة حيث تكون واضحة وملحة عند البعض دون البعض الآخر، لكنها طالما بقيت في حدود المعقول من دون أن تدفع بالإنسان إلى أن يدعي أكثر مما لديه فإنها حق إنساني لا غبار عليه.
المشكلة تظهر حينما تتحول ظاهرة حب الظهور إلى داء إجتماعي حيث يحاول المرء أن يصف نفسه بما ليس فيها من أجل البروز المبرمج لدواعي خاصة أو لتعويض عن نقص. فقد يختلق المرء مواهب وهمية أو يسرق تراث الآخرين أو ينتحل صفات غير موجودة فيه من أجل البروز وإظهار الإسم.
أسباب حب الظهور كثيرة ومتنوعة فقد تكون مرسومة من أجل الإرتقاء بالسلم الوظيفي أو الحزبي أو الإنتخابي أو الإجتماعي أو غير ذلك من غايات عملية يستفيد منها من يحب إظهار إسمه بطريقة غير شرعية أو بالإفتراء. أو قد تكون نزعة مضخمة تعتبر ملاذًا ومتنفسًا لمن يشكو من عقدة نقص بسبب حرمان أو عدم تحقيق غاية أو القصور عن الوصول للهدف.
4- ردّة الفعل المعاكسة: يعاني بعض الناس خلال العمل وفي الحياة العملية من التهميش والإهمال وعدم الإكتراث فيهم في مجتمعاتهم رغم توفر الكفاءة والقدرة. غض النظر عن هؤلاء وعن كفاءاتهم قد تولد ردة فعل تنعكس علاماتها على إنزلاق هؤلاء في التضخيم بأنفسهم والإطراء بمواهبهم إلى درجات مبالغ فيها من أجل لفت النظر وتنبيه الآخرين على قدراتهم.
ردة الفعل المعاكسة ونزعة حب الظهور تتضخمان وتزدادان في حالات معينة خصوصًا بعد تناول الخمور والعقاقير المخدرة التي تؤثر على مراكز التحكم في مخ الإنسان مما قد تجعله يركب البساط الطائر بسهولة فيتلذذ ويستمتع في الإطناب بنفسه وبقدراته الجبارة خصوصًا بوجود من يهتم بالتباهي أمامه!
النرجسية وحب الأنا والغيرة الشديدة والمنافسة الحادة قد تكون من المحفزات على تبنّي الفرد سلوك الوهم والضلالة سواء كان إزاء نفسه أو إزاء الآخرين مما يزيد من ساحة وهم العظمة الإجتماعي.

يصعب في بعض الأحيان وضع حدود فاصلة بين وهم الإعتقاد بالعظمة الناشئة من خلل عقلي وبين وهم العظمة النفسي أو الإجتماعي، ففي الكثير من الأحيان لا تظهر علامات المرض العقلي الأخرى خصوصًا في الحالات المستترة أو عند أولئك الذين هم في مرحلة ما قبل المرض (مرحلة قبل الشيزوفرينيا) مثلاً، مما يجعل عملية تشخيص المنشأ أمرًا صعبًا حتى عند الإختصاصيين. كما أنه من الممكن أن تختلط عدة أسباب معًا في صنع ظاهرة جنون العظمة عند الأشخاص الذين ربما يعانون من مشاكل عقلية ونفسية وإجتماعية في آن واحد. الأنفة والكبرياء والتعالي هي سلوكيات فردية لا تعتبر ضمن حلقات وهم العظمة الإجتماعي إذا لم تختلط بهوس تضخيم الذات ووصفها بما ليس فيها.
وهم الإعتقاد بالعظمة وبكل صنوفه وأنواعه موجود في كل المجتمعات إلاّ أن هذه الحالة تستشري وتزداد في المجتمعات الفقيرة وتلك التي تتعرض الى ظروف خاصة وقاهرة ولفترات طويلة كالمجاعات والحروب والإضطهاد السياسي والنفسي والإجتماعي. المصابون بهذا الداء يشكلون خطورة على مجتمعاتهم وكلّ حسب موقعه وأهميته بالمجتمع، إذ أن مآسي كثيرة في العالم حصلت جراء قيادات مصابة بداء جنون العظمة أودت إلى صنع الكوارث والحروب في تاريخ البشرية.

وأخيرًا فما لي إلاّ أن أنصح القرّاء بأن يكونوا حذرين عند إظهار حقيقة الوهم الذي يدعي به مجنون العظمة وكشف ذلك أمامه، إذ أن ردود الفعل قد تكون قاسية وعنيفة قد تصل إلى حد الجريمة!

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٤ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق