بقلم: هشام منور
في الوقت الذي أساءت فيه سياسة جورج بوش الابن إلى تاريخ العلاقات بين الأمم والشعوب والحضارات إبان فترتي ولايتيه السابقتين، وحولت العالم إلى معسكرين منقسمين متصارعين في مواجهة بعضها، ناسفة جميع الأسس والمبادئ والقيم المشتركة بينها والتي عمرت لمئات السنين لصالح هيمنة استراتيجية الصدام الحضاري والتنافس العسكري على مناطق النفوذ في العالم، تبدو الظروف الآم مهيأة أكثر مما مضى لبعث تراث تاريخي وحضاري لشعوب الأرض ودولها مع قدوم إدارة أمريكية جديدة تضع نصب أعينها تصحيح الأخطاء القاتلة لسلفها العنجهي، مع الاعتراف بتلك الأخطاء ومحاولة تلافيها وعدم تكرارها.
ويأتي في هذا السياق التاريخ المشترك بين العرب وأوروبا، والذي يمتد لأكثر من ألفي عام، كما تبين ذلك بعض الدراسات الأوروبية المختصة لتسهم في ترجيح كفة التواصل والتعاون بين الأمم والشعوب، وتصحيح مسار العلاقة بين الشرق والغرب، بكل ما يعنيه ذلك وعلى جميع المستويات والأطر.
ففي دراسة أكاديمية قام بها المستشرق الألماني (الفريد شليشت) حول نمط وطبيعة العلاقات التاريخية بين العرب والأوروبيين، يؤكد الباحث أن التاريخ المشترك بين العرب والأوروبيين ينطوي على محطات مشرقة ومحطات تفاعلية مختلفة، وإن كانت لا تخلو من بعض "المطبات" والصراعات أحياناً.
فالباحث المتخصص في الدراسات الشرقية والمستشار الثقافي في وزارة الخارجية الألمانية، قام في كتابه "العرب وأوروبا"، والذي نشرت مقاطع منه في موقع (قنطرة)، بتحليل العلاقات المتبادلة بين العرب وأوروبا، والتي لم تخل من الصراعات واختلاف الرؤى على مدى ألفَي عام. مفتتحاً ذلك بدراسة الاحتكاكات الأولية بين الجانبين في العصور العربية والأوروبية القديمة، وأتبع ذلك بالفتوحات الإسلامية التي وصلت حتى إسبانيا. مركزاً على تحليل الحروب الصليبية والمواقف التي لا تتفق مع رؤى "الدين". كما وصف العلاقة بين "الشرق" و"الغرب" ابتداء من فترة الخلافة العثمانية حتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
وركزت الدراسة على تاريخ الإسلام في إسبانيا، مبينة الآثار السيئة التي خلّفتها الفتوحات الإسلامية وحروب ما يسمى باسترداد إسبانيا بعد ذلك على العلاقة بين الجانبين، وسلطت الضوء على آثار الحكم العربي الإسلامي الطويل على التاريخ الأسباني المليء بالصراعات والتبادل الثقافي. وكيف استلهم (كريستوفر كولومبس) رحلاته الاستكشافية من العرب المسلمين في إسبانيا. محاولاً أن يبدي نوعاً من التوازن بين الدوافع العربية والأوروبية.
ويرى الباحث الألماني أن تطور العالم العربي بعد ذلك لا يمكن فهمه دون الأخذ بعين الاعتبار التأثير الأوروبي على سياقه ومساراته. فمن خلال التأثير الأوروبي يمكن أن ندرك كيف ترقّى الضابط الصغير (محمد علي) ليصبح أهم رجل في مصر، والذي كان على قناعة أن الشرق لا بد أن يتعلم من الغرب. وكيف استطاع أن يتخلص من المعايير والتقاليد المألوفة وأن يشق طريقاً جديدة لتحقيق نوع من السيادة والاستقلال لمصر إبان الحقبة العثمانية.
ثم يلتفت المستشرق الألماني لدراسة فترة الاستعمار وتأثيراتها على العلاقة بين الشرق والغرب بوجه عام، والعرب وأوروبا على نحو خاص. فبينما كان مصطلح الاستعمار يُفسر تلقائيا بالرقابة والسيطرة الأجنبية، حاول الكاتب تبيين الآثار الايجابية الأولية، على حد زعمه، والتي منها الاندماج في السوق العالمية والازدهار الاقتصادي والتقدم الثقافي. بيد أن ذلك سرعان ما تبدل، وأصبحت أوروبا تنظر إلى العالم العربي على أنه مسرح لمصالحها الشخصية فحسب، لأن "أوروبا تعني بالنسبة للعالم العربي تحدياً وارتباكاً وخطراً وفرصة لإنعاش الفكر والاستفزاز الثقافي". كما يقول المؤلف.
وقام المستشرق الألماني بدراسة الصراع الشرق أوسطي بوصفه "عبءاً" كبيراً على العلاقات الأوروبية العربية في القرن العشرين. وأكد أن الصراع الشرق أوسطي لم ينتج بأي حال من الأحوال من الصراع الديني أو العقائدي، ولكن من الصراع حول الأرض بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وفي هذا السياق انتقد (ألمانيا) بوصف أن "الظلم الذي وقع على اليهود الألمان أدى إلى ظلم الفلسطينيين بعد ذلك، ويرى أن سياسة (ألمانيا) الخارجية استطاعت مع الوقت أن "تتخلص من قيودها"، وأصبح النقد يُوجّه إلى السياسة الإسرائيلية دون التفكير الدائم في شبح الماضي النازي.
ثم يقدم الباحث توصيفاً دقيقاً للعلاقات الحالية بين العرب وأوروبا، فيرى أنها خليط من التعاون والمواجهة. وأن "الحوار الثقافي" و"الإرهاب" و"الأصولية الإسلامية" والبحث عن الهوية أضحت اليوم موضوعات تحدد معالم الشرق والغرب وعلاقاتهما المشتركة، مبيناً أن "الرجوع إلى الإسلام نتج كرد فعل تجاه النفوذ الأمريكي الأوروبي". وأن العلاقة بين العرب والأوروبيين تتسم بالمتناقضات بين تعاون وشك، وبين حروب وتحالف، وبين تبادل ورفض. وفي هذا السياق، حاول المؤلف ألا يبني على الماضي المضطرب وحده أو الصورة النمطية المتوارثة لإعادة وصل ما تم فصله بين الطرفين (العرب وأوروبا)، بل تبنى صورة مغايرة تثبت تغاير الحقيقة التاريخية وتنوعها وأن "الإسلام والمسيحية ليسا أخوين وحسب، بل هما توأمان".
فهل تنجح الدراسات الأوروبية المتناسلة حول نبش تاريخ طويل من العلاقات المتميزة بين العرب وأوروبا في تحسين الصورة النمطية التي هيمنت على العلاقة بينهما منذ العصر الاستعماري وحتى اليوم؟ وهل تفضي مثل تلك الدراسات الأكاديمية في التخفيف من وطأة العنصرية المستفحلة في أوروبا تجاه الأقليات العربية المتناثرة في أرجاء القارة العجوز؟.
كاتب وباحث فلسطيني |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|