بقلم: سعد الدين إبراهيم |
كتبنا بتاريخ (١٤/١/٢٠١٢) فى هذا المكان نُحذر المجلس العسكرى ومجلس الوزراء من مُناورات وزيرة التعاون الدولى فى مسألة المُجتمع المدنى والتمويل الخارجى، فقد كُنا نُدرك تماماً أن هذه السيدة المُخضرمة، التى خدمت فى ثلاثة عهود مُتتالية، لا همّ لها إلا البقاء فى السلطة، والسيطرة على كل المُساعدات والمنح الخارجية، لتنفقها كما يحلو لها. وكنا نعرف من سيرتها الشخصية أنها لم تقم بأى عمل تطوعى مدنى، منذ شبّت عن الطوق، ولذلك فهى لا تعرف، ولا تستطيع أن تستوعب ماهية المجتمع المدنى، ففاقد الشىء لا يُعطيه. ولوجه الله، نُقرّب لها معنى مُنظمات المجتمع المدنى، فهى بحُكم عملها فى وزارة الخارجية، ستتقاعد عما قريب. وهناك مُنظمتا مجتمع مدنى ستؤويانها: إحداهما نادى التحرير، على ناصية شارعى طلعت حرب والبستان، والأخرى هى المجلس المصرى للعلاقات الخارجية، بعمارات عثمان، على كورنيش المعادى! ولوجه الله، نُعطيها تعريفاً بسيطاً للمجتمع المدنى: إنه الفضاء العام بين «الأسرة» و«الدولة»، فكل ما هو ليس «عائلياً» ولا «حكومياً» فهو مجتمع مدنى، وبهذا المعنى هو كل المُبادرات والتنظيمات التى تنشأ بالإرادة الحُرة (أى التطوعية) للمواطنين. ولوجه الله، نقول لهذه الوزيرة إن الذين قاموا بثورة يناير لم يكونوا موظفين لا فى وزارة الخارجية ولا وزارة الأوقاف، ولا فى أى جهة حكومية أخرى، وإنما كانوا شباباً أحراراً لم يُكبلهم بعد التفكير الحكومى الروتينى، ولا توابع المكسب والخسارة اللذين هما عماد القطاع الخاص، أى أنهم لم يكونوا من نشطاء البورصة أو الشركات التجارية (مع كل الاحترام للعاملين فيها). بتعبير آخر، إن الذين يقومون بالثورات يُخاطرون بحياتهم، ولا يخضع تفكيرهم أو سلوكهم لحسابات المكسب والخسارة، ولذلك لن يجد المُراقبون أى رجال أعمال أو أى موظفين فى عداد شُهداء الثورة، الذين ضحوا بحياتهم فى يناير ٢٠١١، والشهور التالية. بتعبير ثالث، إن الذين قاموا بالثورة هم أنفسهم الذين يؤسسون تنظيمات المجتمع المدنى، وفى مُقدمتها حركات الدعوة للتغيير، وحقوق الإنسان- مثل حركة «كفاية»، و«٦ أبريل»، و«شباب من أجل التغيير»، «ونساء من أجل التعبير» و«اتحاد عُمال مصر الحر»، و«اتحاد المحامين الليبراليين»، و«مركز ابن خلدون». إنهم السبعة عشر مُنظمة وجمعية التى اقتحمت الأجهزة الأمنية مقارها يوم ٢٩ ديسمبر٢٠١١. إن نفس هذه المُنظمات هى التى كانت تقود الدعوة لرحيل العسكر، وتسليم السُلطة للمدنيين، وربما هنا التقت الرغبات الشريرة لمُناهضى المُجتمع المدنى مع أهواء المجلس العسكرى الأعلى، أى اتحدت نزعات الموظفين ذوى النزعة البيروقراطية التحكمية، مع نزعات المؤسسة العسكرية التى تدور حول قيمة السيطرة، ولأن الجهاز البيروقراطى الحكومى والمؤسسة العسكرية يُعتبران من الأركان الركينة للدولة المصرية، فحينما تُضلل الوزيرة الحائرة المجلس العسكرى فيتخبّطان، فإن ذلك ينعكس على الدولة المصرية. من ذلك أن هذه الدولة تسعى وتتلقى مُساعدات خارجية سنوية تصل إلى ثلاثة آلاف مليون دولار، يأتى ثُلثها من الولايات المُتحدة، وثلث آخر من أوروبا، وثلث من البُلدان العربية. فلماذا تلجأ الدولة المصرية إلى الخارج لتسد العجز فى ميزانيتها، حيث لا تكفى مواردها من الضرائب ومن عائدات مؤسساتها الإنتاجية. وهذا نفسه هو سبب لجوء بعض مُنظمات المجتمع المدنى للمُساعدات والمنح الأجنبية. ويوم تستغنى الدولة المصرية عن المعونات الخارجية، سيكون هو نفسه اليوم الذى تستغنى فيه منظمات المجتمع المدنى المصرية عن المُساعدات الخارجية. فالاكتفاء الذاتى للدولة يعنى أن لديها من دافعى الضرائب وحصيلة تلك الضرائب ما يكفى لميزانيتها السنوية. وحين توجد هذه الشريحة الكبيرة من دافعى الضرائب، فإنهم أنفسهم سيكونون هم المُمولين والمُتبرعين والمؤسسين لمُنظمات المجتمع المدنى. وقد كان ذلك بالضبط هو الحال فى العصر الليبرالى فى مصر منذ إنشاء أول جمعية بالإسكندرية عام ١٨٤٠ إلى مُنتصف القرن العشرين (١٩٥٥). وكان ضمن أنشطة هذا المُجتمع المدنى الوليد إنشاء الجامعة المصرية، والهلال الأحمر، ومُستشفى المواساة، وستديو مصر، ومسرح رمسيس، والنادى الأهلى، ونادى الزمالك، وبنك مصر. أى أن المجتمع المدنى كان جامعاً مانعاً، يقوم بكل ما لا تقوم به الدولة، ويفعل ذلك بكفاءة أفضل. ولنأخذ مثلاً مجالين، هما «السينما» و«الصناعة»، ففى العصر الليبرالى (١٩٢١-١٩٥١) ازدهرت صناعة السينما، حيث كان المتوسط السنوى للإنتاج هو ثمانين فيلماً، وكانت مصر هى البلد رقم ٢، بعد الولايات المتحدة، وقبل كل من بريطانيا وفرنسا والهند فى هذا المجال. والشىء نفسه فى صناعة الغزل والنسيج، فقد ساعد إنتاج القطن المصرى طويل التيلة على ازدهار تلك الصناعة، مما حقق لمصر المركز الثانى بعد بريطانيا العُظمى (والتى كانت تستورد الأقطان من السودان والهند) ولكنها كانت أقطاناً مُتوسطة أو قصيرة التيلة. والجدير بالتنويه أن الذين بدأوا هذه النهضة الصناعية كانوا من شباب ثورة ١٩١٩، وفى مُقدمتهم طلعت باشا حرب، ومُنافسه أحمد باشا عبود، وعبد الفتاح باشا يحيى. وكان الزُعماء السياسيون، مثل سعد زغلول، ومصطفى النحاس، ومكرم عبيد، وسنيوت حنا، فى مقدمة من اكتتبوا فى هذه الشركات الوطنية الوليدة. وخلال جيل واحد نشأت طبقة رأسمالية طموحة ومُستنيرة، تحمل فى وجدانها مشروعاً شاملاً للنهضة. وربما كانت نقطة الضعف الرئيسية فى هذا المشروع هى إهمال البعُد الاجتماعى، وهو ما استتبع ثورة ثانية قامت عام ١٩٥٢. ولكن هذه مسألة أخرى تحتاج إلى مقال آخر مستقل. وعلى الله قصد السبيل semibrahim@gmail.com |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت | عدد التعليقات: ٠ تعليق |