بقلم: كمال غبريال
المفهوم الحديث لمعنى الوطن، لابد وأن ينطلق من قاعدة علمانية، ومنه بالطبع يشتق معنى المواطنة والوطنية، فالمفاهيم القديمة للتجمعات البشرية، على أسس عرقية أو دينية، لم تعد صالحة في العصر الحديث لتأسيس دولة أو كيان يتناسب مع العصر، ويتوافق مع المعايير الحديثة لحقوق الإنسان. . فنحن نعيش في عصر الفرد، كنواة أولى للمجتمع، بعد أن سقطت الأيديولوجيات الشمولية، التي كان الفرد فيها مجرد رقم أو كم لا اعتبار له، حيث كل الاعتبار للمجموع، الذي يسمى في الأيديولوجية الماركسية مثلاً "الشعب" أو "البروليتاريا"، ويسمى في الأيديولوجيات الدينية "جماعة المؤمنين"، بل وغالباً ما يتم تصدير الدين ذاته، ليصير "الإسلام" أو "المسيحية" هي الهدف، وليس مصالح الناس العاديين والبسطاء، الذين هم في الحقيقة الأحوج للرعاية، فأبسط مبادئ الإيمان هي أن "للدين رب يحميه"، وفي التجمعات العرقية يمكن أن يطلق على الكيان لفظ "الأمة" أو ما شابه، وكلها مفاهيم تتجاهل الفرد، بل وغالباً ما تتوجس منه، وتعتبره خطراً على المجموع ومصالحه.
في مثل تلك المفاهيم العتيقة والمهيمنة للدولة أو الكيان السياسي، تكون اللافتة أو الشعارات المرفوعة هي حماية المجموع من النزعات الفردية الأنانية، المتعارضة مع صالح الجماهير، لكن ما يحدث بالفعل مخالف لهذا تماماً، إذ تؤول الأمور حقيقة ليس لصالح الجماهير، وإنما لصالح الطغمة الحاكمة والمتحكمة برقاب الجميع، فلقد عرفنا في المرحلة الناصرية مثلاً شعار" "الحرية كل الحرية للشعب، ولا حرية لأعداء الشعب"، ولقد لمسنا جميعاً التطبيق العملي لذلك الشعار، والذي لم يكن يعني أكثر من خنق كل صوت يعلو بالاعتراض على توجهات وممارسات الحاكم، فالاتهام جاهز ومقبول ومعترف به، هو العداء للشعب، وليس مناهضة أو معارضة الحاكم الفاشل أو الظالم.
مفهوم الوطن أو الوطنية من أهم المفاهيم التي تختلف إذا ما تناولناها بمنهج الفكر المثالي العتيق، عنها إذا ما تم مقاربتها بنهج علماني وفقاٌ للتفكير المادي الحديث، فالوطن طبقاً للمفهوم المثالي العتيق، قيمة عليا متسامية، ينتسب إليها الإنسان الفرد، ويستمد منها كيانه الأدبي، فضلاً عن مقومات وجوده الفيزيقي، ولا أظن أن كثيرين يمكن أن يروا في هذا المفهوم ما يستدعي التغيير أو المراجعة، لكن الحقيقة أن كثيراً مما يترتب عليه من تطبيقات على المستوى العملي، قد أصبح غير مقبول ومن مخلفات الماضي، فتلك المكانة المتسامية للوطن، قد تلقفتها الدولة بصفتها ممثلة للوطن، لتصبح مع الوقت هي الوطن ذاته، لتتوالى من هذه النقطة سلسلة من الأخطاء والمغالطات، تحتاج للمراجعة على ضوء التفكير العلماني.
أولها قضية الانتماء، فوفقاً للتفكير المثالي يكون انتماء الإنسان الفرد للوطن أو بالأصح للدولة، فهو الكيان الواحد الذي يجمع الأفراد في وحدانيته، ويعني هذا منطقياً وعملياً أن يكون الإنسان الفرد جزءاً من كل، كسراً عشرياً من مجموع أبناء هذا الوطن، وله ذات النسبة من الحقوق لدى الوطن (الدولة)، وهذا هو الجذر الفكري للدول الشمولية، التي تسحق الفرد والأقليات باسم الأغلبية والمجموع، فعلى الفرد والأقلية أن ترضخ لما تقره الأغلبية، ولا بأس أن يتم القهر تحت مسمى الديموقراطية، إذ يتوجب على الأقلية القبطية مثلاً، أن ترضخ لرغبة أغلبية تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع العلاقات والقوانين بالوطن، في مغالطة وخلط فادح للمفاهيم، يهدر الديموقراطية المزعومة من أساسها.
لكن في ظل المفهوم العلماني للوطن، فإن الانتماء يكون هو انتماء الوطن للمواطن وليس العكس، فالمواطن الفرد هو الواحد الصحيح وليس كسراً عشرياً من مجموع، فالوطن كله ملك للمواطن الواحد الفرد، بالطبع الملكية الكاملة للوطن ليست حكراً على فرد واحد أو طائفة واحدة، مهما كبر عددها أو صغر، ولكنها ملكية كاملة لكل فرد من أفراد الوطن، كل منهم لدية وطن كامل، لا يحق لأغلبية أو أقلية أو حاكم فرد، أن تنتقص من حقوقه فيه، مادام لن يفسد بممارساته حقوق باقي أفراد الوطن في امتلاك ذات الوطن كاملاً، كمجال حيوي لتحقيق الجميع لذواتهم والاستمتاع والانتفاع بما يمتلكون.
يترتب على هذا المفهوم العلماني للمواطنة أيضاً بطلان دعاوى عديدة، راجت في ظل المفاهيم المثالية، منها قهر الشعب لصالح حكومة قوية تحقق قوة الوطن وسيادته في مواجهة الأوطان الأخرى، رغم الهوان والقهر الذي يرزحون تحت نيره.
لكن هذا المجد المدعى يصبح ادعاءات فارغة في ظل المواطنة العلمانية. . هنا تكون دواعي المجد والعز والحرية، هي ما يعود على الإنسان الفرد بهذه الأوصاف، ويكون الشعب الروسي الآن يعيش عصراً ذهبياً، مقارنة بحياته خلال ثلاثة أرباع قرن مضت، رغم أن دولته لم تعد مرهوبة الجانب، كما لم تعد قوة عظمى أو إمبراطورية اشتراكية ممتدة باتساع الكرة الأرضية، ونفس هذا يقال عن الشعب العراقي، الذي يتجه الآن وإن ببطء وصعوبة، نحو الحرية والمجد الحقيقي، بامتلاك مصيره بين يديه. . لا يعني هذا بالطبع عدم الاكتراث باحتلال الوطن من قبل قوى أجنبية، لكننا في معرض المقارنة بين نقيضين، كمثال لتوضيح الفكرة، فالمهم من وجهة النظر العلمانية أن يكون معيار السيادة هو أفراد الشعب، وليس الكيان المتسامي المزعوم.
العلاقات بين أفراد الشعب وطوائفه وأعراقه وأحزابه، علاقات التنافس في الساحة السياسية والاجتماعية بين كافة القوى باختلاف تصنيفاتها، هذه تختلف في المفهوم المثالي عن المفهوم العلماني، أي بانتماء الشعب للوطن أو انتماء الوطن لكل فرد من أفراده، فهي في الأولى علاقة صراع للسيطرة، فكل فئة تسعى بقوتها المادية أو العددية، لكي يتمثل فيها الوطن دون باقي الفئات، لكي تقول كما كان يقول ملوك أوروبا قبل عصر التنوير "أنا الدولة"، وكما تصور كل طغاة الشرق، ويكون والحالة هذه على باقي الفئات الضعيفة أن تحيا تحت جناح الفئة المسيطرة، وأن تقبل ما يقدم لها على سبيل الصدقة أو من قبيل التسامح، باعتبارها "أهل ذمة"، أو قل ماشئت من تسميات، يتحنن بها القاهر على المقهور. . وينعكس ذات المفهوم أيضاً على أداء الفئات الأقل قوة، إذ تسعى هي الأخرى إلى الصراع، إن لم يكن للسيطرة، لامتلاك أكبر قدر ممكن من كعكة الوطن، ليتحول الوطن إلى ساحة نزاع وشد جذب، وليس ساحة للتعاون والتكامل بين كل مكوناته.
أما في المفهوم العلماني، فإن الجميع أفراداً وجماعات يسعون لصالحهم، بشرط عدم تجاوز الحدود، إلى ما يهدد أو ينتقص من حقوق ومصالح الآخرين، دون ادعاء لأولوية رغبة مجموع على فرد أو أقلية. . وهكذا يتقدم كل فرد من حسن إلى أحسن، وبالتالي لابد أن يشكل هذا تقدماً للمجتمع، الذي ينتمي إلى هؤلاء الأفراد الناجحين.
kghobrial@hotmail.com
Kamal Ghobrial
Alexandria- Egypt |