يأتي رحيل البابا شنودة الثالث يوم السبت في الوقت الذي تكتنف فيه المشهد السياسي المصري، حالة من الضباب تتزايد معها مخاوف المسيحيين الأقباط الذين تبلغ نسبتهم حوالي 10 % من إجمالي السكان.
فالبابا شنودة لم يكن مجرد رجل دين لكنه كان، وحتى قبل أسبوع من وفاته ، من الشخصيات الرئيسية في المشهد السياسي المصري وكان حضوره حيويا حتى بالنسبة لمن اختلفوا معه بقوة. دخل حروبا شرسة مع خصومه أحيانا، وقدم مجاملات سياسية أحيانا، لكنه ظل وفيا لقناعة رئيسية وهي أنه الممثل الأعلى للأقباط في مصر والمدافع عن حقوقهم.
وبالرغم من مواقفه المتشددة أحيانا، فقد ظل بتاريخه الطويل ممسكا باطراف اللعبة السياسية وموضع شبه إجماع لأقباط مصر في الداخل والخارج، كما أن مواقفه المعروفة في قضايا كثيرة مثل العلاقات مع إسرائيل اكسبته احتراما واضحا من معظم العواصم العربية.
نجح البابا على مدى أربعين عاما في إدخال تغييرات جذرية على بنية الكنيسة المصرية، وهو امر دفع كثيرين لانتقاده بأنه جعل الكنيسة 'دولة داخل الدولة'.
لكن في المقابل يرى تيار واسع بين أقباط مصر أن الكنيسة كان لابد أن تتحرك من أجل رعاياها عندما فشلت الدولة خلال العقود الأخيرة في الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها.
وُلد نظير جيد، وهو الاسم الحقيقي للبابا قبل دخوله سلك الرهبنة، في أسرة غنية بمحافظة أسيوط عام 1923 ، وينقل عنه غالي شكري في كتابه الأقباط في وطن متغير قوله 'ماتت أمي بحمى النفاس بعد ولادتي فأرضعتني مسيحيات ومسلمات كثيرات'.
عندما ارتحل إلى القاهرة لإكمال دراسته، كانت التجربة الوفدية الليبرالية، التي جسدت العصر الذهبي للمسلمين والأقباط في مصر، على مشارف الإخفاق مع انشقاق الرمز الوطني القبطي مكرم عبيد باشا عن زعامة الوفد ومعه عدد من رموز الأقباط.
درس نظير جيد التاريخ في جامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول) وتخرج منها عام 1947 ثم توجه إلى الكلية الإكليركية التابعة للكنيسة المرقسية، وما بين الفترتين كان قد انضم متطوعا إلى الجيش المصري وحصل على رتبة ضابط احتياط.
مدارس الأحد
كان البابا الراحل من المؤسيين الناشطين في مدارس الأحد، وهي حركة بعث قبطية اسسها حبيب جرجس في النصف الأول من القرن الماضي، وقد كان نظير جيد حتى عام 1949 مسؤولا عن تحرير مجلة مدارس الأحد.
تخرج في مدارس الأحد الكثير من رموز الأقباط في مصر المعاصرة، منهم من أصبحوا قادة في الكنيسة مثل الأب متى المسكين والأنبا صموئيل ومنهم من انخرط في صفوف السياسة بصفته العلمانية مثل الدكتور ميلاد حنا والدكتور وليم سليمان قلادة.
ويقول رفيق حبيب في كتابه 'المسيحية السياسية في مصر' إن البابا شنودة انتمى إلى تيار كنسي شمولي يرى ان الدين يشمل كل جوانب الحياة.
مثلت العلاقة بين الرئيس جمال عبد الناصر والبابا كيرلس السادس طوال الستينيات نموذجا لما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين الدولة والكنيسة، فالكنيسة كانت تعتمد على دولة قوية في تطبيق القانون، والدولة تعتمد على كنيسة تضمن لها الجبهة الداخلية والنفوذ الخارجي خاصة في أفريقيا التي اعتبرت الكنيسة القبطية من الكنائس الوطنية للقارة.
لكن بداية السبعينات شهدت اختفاء الرجلين معا، وقبلهما كانت القوانين الاشتراكية لعبد الناصر وإنهاء الحياة الحزبية قد قضت على نفوذ النخبة الارستقراطية العلمانية من الأقباط التي طالما زاحمت الكنيسة على تمثيل الاقباط.
وقتها كان الأنبا شنودة لا يزال أسقفا للبحث العلمي باسم الأنبا شنودة وكان نجم جيل سمي بـ'الرهبان الجامعيين' . كانت محاضراته في مدارس الاحد وكليات اللاهوت، تتجاوز احيانا الخطوط الدينية إلى الدنيوية وهو أمر لم يرق للبابا كيرلس السادس أحيانا.
البابا الجديد
كانت عملية اختيار البابا الجديد تقضي بأن يجري الاستفتاء على الأسماء المرشحة ثم توضع الأسماء التي حصلت على العدد الأكبر من الأصوات في صندوق ويختار طفل صغير الورقة التي تحمل اسم البابا الجديد، ورغم أن الأنبا شنودة لم يكن صاحب الأصوات الأعلى فقد خرجت الورقة التي تحمل اسمه، وجلس على عرش القديس مرقص باسم شنودة الثالث.
بدأ الصدام مبكرا بين البابا الجديد والرئيس السادات.. ويروي محمد حسنين هيكل في كتابه خريف الغضب أن 'الأنبا شنودة كان ممثلا لجيل الرهبان المتحمسين المصمين على إخراج الكنيسة من عزلتها'.
وتجسد الصدام بداية في أحداث منطقة الخانكة، إحدى ضواحي القاهرة، عندما احرقت مجموعة من المسلمين ما قالوا إنه كنيسة غير مرخص بها، فأصدر البابا أوامره لمجموعة من الكهنة بالتوجه إلى موقع الكنيسة المقترحة وأداء الصلاة فيه مهما كلفهم الأمر.
وتطورت الصدامات مع تزايد اقتراب السادات من التيارات الإسلامية لقمع الناصريين واليساريين، حتى وصلت ذروتها في عدد من الاشتباكات الطائفية وانتهت باعتقال البابا شنودة الثالث وتنحيته عن العرش البابوي في 1981 حتى جاء مبارك وأصدر قرار بإعادته إلى البابوية في عام 1985.
رصد كثيرون التغيرات التي طرأت على أسلوب البابا شنوده بعد عودته من الإقامة الجبرية، فأصبح أكثر استعدادا للتعاون مع الدولة ومؤزارتها. وعندما انخرط نظام مبارك في مواجهة واسعة مع المتطرفين الإسلاميين كانت الكنيسة تشعر بأنها أقرب إلى الدولة، لكن عندما ارتفعت وتيرة الدين في السياسة المصرية، تحولت الكنيسة بمرور الوقت إلى ملاذ للأقباط، ومؤسسة اجتماعية واقتصادية وسياسية.
وقد شهدت السنوات الأخيرة لنظام مبارك خروج الأقباط من داخل أسوار الكنيسة في حراك يعزز مطالب الكنيسة نفسها. وقد رأى بعض المراقبين أن هذا الحراك الذي خرج إلى الشارع هو تحد صريح لسلطة البابا من قبل جيل جديد من الشبان، في حين رأى آخرون أنه كان بمثابة توزيع الأدوار حتى لا تشعر الكنيسة بالحرج تجاه الدولة.
وكان من الملاحظ ان الكنيسة قد امتنعت عن إبداء اي موقف رسمي تجاه الانتفاضة التي أسقطت مبارك، لكن تيارات قبطية كثيرة مثل اتحاد شباب ماسبيرو والكتيبة القبطية قد تمكنت من إعلاء صوتها في الشارع عقب تلك الأحداث.
لم ينكر البابا الراحل أن جزءا من اهتماماته ان يتحدث باسم الأقباط المصريين في مطالبهم، خاصة بعدما أصبحت الكنيسة المصرية واحدة من أكثر الكنائس انتشارا في العالم ولها شعب ينتشر في حوالي سبعين دولة، لكنه قال ' ان العمل السياسي شيء والاهتمام بالسياسة شيء آخر'.
اختلف كثيرون مع البابا من داخل الكنيسة وخارجها ، فمنهم من اتهمه بفرض ولاية متشددة على الأقباط مما أدى لعزلهم عن الحياة السياسية في مصر، ومنهم من قال إنه أقصى كل خصومه- من قادة الكنيسة - ولم يمارس معهم أي رحمة.
لكن كثيرين يعزون للبابا شنودة جماهيريته وبساطته .فحتى خلال مرضه الأخير، كانت عظته الأسبوعية يوم الأربعاء مناسبة تجمع الأقباط من مختلف طبقاتهم وانتماءاتهم.
ومن المؤكد ان رحيل البابا شنودة بما مثله من تاريخ وحضور على المشهد السياسي، يضع مهمة ثقيلة على كاهل من سيجلس على الكرسي البابوي وبعده فمهمته لن تكون سهلة خاصة في ظل ما تشهده مصر من تحولات.
فالكنيسة المصرية لم تعد المؤسسة الروحية التي ورثها البابا شنودة الثالث عن البابا كيرلس السادس، لكنها أصبحت مؤسسة تلبي كل الاحتياجات الخاصة بشعبها، بقدر ما اتسعت المسافة بين المسلمين والأقباط في مصر. |