بقلم: ماجد الراهب
بمناسبة الاحتفال بالعيد الخامس والخمسون لرهبنة قداسة البابا شنودة وما أثير مؤخرًا عن الرهبنة أقدم هذه الورقة عن الرهبنة القبطية.
الشخصية المصرية والرهبنة القبطية:
يقول عالم المصريات جان اسمان (إن الاختلاف بين العقلية اليونانية "الغربية" والمصرية يرجع إلى الاختلاف في رؤية الكون... فالفلسفة اليونانية ترى الكون كنظام مستقر وثابت بدون الله "Cosmos" أي نظام بديع وصار هذا المصطلح وسيلة للتأمل العقلاني.
بينما المصري لا يرى الكون شيئًا مستقلاً قائمًا بذاته، إنما يخضع لقوتين، قوة عليا تحفظه وتنظمه وهي الآلهة وقوة على الأرض تتابع هذا العمل الإلهي ممثلة في سلطة مدبر الدولة الفرعون، وثابت تاريخيًا عن المصريين لم يكونو يهتمون بقضايا معقدة وغير نافعة للناس.. بل على العكس كان كل ما يثير اهتمامهم هو ما يعود بالنفع على النفس.
القديس أنطونيوس أب الرهبان:
هو أبو الرهبنة المصرية، ويقول د/ عزيز سوريال في موسوعته (أن أنطونيوس يعتبر الدور الحق من أدوار تاريخ الرهبنة المصرية بشكلها المألوف، ذلك لأن ما سبقه في الواقع يعتبر بمثابة مقدمات مرتبطة مهدت لهذا النظام الجديد.. ويسميه العلماء الرهبنة النصف توحدية).
يرجع الفضل لمعرفة سيرة أنطونيوس إلى القديس أثناسيوس الرسولي البطريرك العشرون في عداد البطاركة الاقباط (326 م – 373 م) الذي كتب سيرته وترجمها إلى اللاتينية ايفاغريوس وقد ساهمت هذه الترجمة في نشر الرهبنة وانشارها بالغرب.
وتأثر بها أيضًا الفليسوف أغسطينوس وأقتبس منها في كتابه الهام "اعترافات أغسطينوس"، وذكر أحد المؤرخين الألمان "هارناك" لا يوجد نص أثر في مصر وآسيا وأوربا مثل سيرة أنطونيوس.
ولم يكن الرهبان الأقباط هم أول النساك بل كان هناك نساك يونانيين ويهود وهنود وعرف النسك في أنحاء كثيرة في العالم، ولكن هم أول من أدخل مضمون إنساني خرستولوجي، ولهذا فإن هذه السيرة مع رسائل أنطونيوس وأقواله تعتبر مصدرًا هامًا لفهم الرهبنة.
مفهوم جديد للتوحد:
لم يكن التوحد عند أنطونيوس هدفًا في حد ذاته، بل هو وسيلة للاتحاد بالله والصلاة لأجل الكنيسة والعالم... والصلاة هي فعل إيجابي، وهناك مثالاً يوضح ذلك.. فعندما اشتد الاضطهاد في عهد مكسميانوس ولما اقتيد القديسون إلى الاستشهاد بالإسكندرية كان أنطونيوس يتبعهم، يصلي من أجلهم، يشد من أزرهم ويخدم المعترفين بالإيمان والذين في السجون ويتبعهم إلى المحاكم، ولما رأى القضاة تأثيره عليهم أمروا بألا يظهر أحد من الرهبان في المحاكم وألا يبقوا في الإسكندرية من أصله.
مفهوم جديد للحوار:
بعد ذياع صيته رغب الفلاسفة في الإسكندرية في محاورته فذهبوا إليه وتعاملوا معه بتعالي وسخروا منه لأنه لم يكن على قدر كبير من الثقافة، ولكنه تعامل معهم بكل احترام وحاورهم بما اكتسبه من حكمة الصحراء وما اكتسبه من حكمة في دراسة الكتاب المقدس فكان متوازنًا معهم وأذهلهم من بساطته وحكمته في نفس الوقت.
رؤية كنسية للرهبنة:
أحد الإنجازات الكبيرة التي حققها القديس أثناسيوس في علاقته بالراهب أنطونيوس تكمن في علاقة الوحدة والإنسجام بين الرهبنة والكنيسة، فصارت الرهبنة على يد أثناسيوس خط الدفاع الأول عن الكنيسة من خلال صلوات الرهبان وكتاباتهم الدفاعية عن الإيمان بالمسيح ومؤازراتهم خلال الاضطهاد، وبخلاف ذلك نعلم أنه كتب كثير من أعماله اللاهوتية في البرية، وتعانقت ثقافته اليونانية مع تراثه القبطي الذي اكتسبه من البرية وأنتجت لنا تراثه الضخم الذي ما زلنا ننهل منه إلى الآن وخاصة كتابه "تجسد الكلمة".
الرهبنة القبطية والتراث المصري:
التراث المصري الذي اكتسبه الشباب الذي نزح إلى البرية لم يكن بمعزل عن ما اكتسبوه في البرية، فعند دخول المسيحية مصر وجد فيها المصريون كثير من تعاليمهم وأفكارهم التي تنادي بالمحبة الفائقة لكل البشر وروح الوداعة السلوكية والتسامي عن الانتقام حتى من الأعداء، وفى البرية أحسوا بعمق ذلك وتولدت فيهم شهوة النظرة الطويلة نحو الله القدوس القريب من كل إنسان، ونرى باخوميوس تحول إلى الإيمان وهو القائد الروماني وصار من أقطاب الرهبنة المصرية بعدما رأى محبة أهل الصعيد للأعداء وكيف كانوا يشفقون على الجرحى والعطشى من الرومان بالرغم من أنهم غزاة.
المنهج القبطي عملي تطبيقي:
هذا المنهج العملي الذي اكتسبه الراهب القبطي الذي يسمع ليحيا ويصير بالكلمة موقفًا حيًا هو من مكونات النفس المصرية، حتى أن النصوص والوثائق التي لدينا عن الحياة العامة في مصر القديمة ليس بها أي دراسات نظرية ولكن تشتمل على أمور الحياة الواقعية اليومية... وفي مجال الدين لم يتركوا لنا نظريات في اللاهوت بل نصوص أخلاقية ومبادئ للتعاملات الإنسانية، كما تركوا لنا ميراثًا كبيرًا في التأمل في الخالق وعظمته مثل ترانيم أخناتون.
مكانة القلب في التراث المصري:
القلب في التراث المصري "حسب دراسات علماء المصريات" هو قاعدة الفكر والإرادة والمعرفة والإحساس، والحكيم بتاح يقول (اتبع خلجات قلبك طول أيام حياتك) والإنسان الذي لا يتبع قلبه لا يمكنه التواصل مع الآخرين والاحتفاء بهم ويتغرب عن واقعه ويصير جشعًا ونهمًا وهذا الجشع يؤدي إلى زعزة العلاقات الإجتماعية، ويقول الحكيم بتاح أيضًا (أن الجشع ليس له قبر).
لذا فإن الرهبنة القبطية عندما تشير إلى القلب والعقل فهي كلمة واحدة "heat"، وهذا يقودنا أن فصل العقل والقلب هو نتاج حضارة مادية وقد قال أحد شيوخ الرهبنة (إذا صرختم إلى الله في الصلاة بقلب نقي فلن ترجع إليكم صلواتكم فارغة).
وهناك مصادر كثيرة عن التراث الرهباني لمن يحب أن يستزيد نجدها في السيرة الكاملة لحياة القديس أنطونيوس للقديس أثناسيوس، كتابات القديس جيروم عن القديس بولا أول السواح والقديسة هيلارية، سيرة القديس باخوميوس وقد نشرها عالم بلجيكي، بستان الرهبان والتاريخ اللوزكي والذي كتبه بلاديوس، مناظرات يوحنا كاسيان، وهذا طبعًا بخلاف عديد من العظات والرسائل للآباء الرهبان.
|
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|