بقلم: منير بشاى – لوس أنجلوس
كتبت فى مقال سابق أننى قبطى يحب أمريكا. وفى هذا المقال أكتب عن الشق الآخر من الموضوع والذى يتعلق بحبى لمصر. وسيرى القارىء أن حبى لمصر ليس فقط لسبب ما صادفته فى مصر بل وأيضا رغم ما صادفته. الموضوع طويل، وسأحاول قدر ما أستطيع أن أختصره فأقدم مجرد لقطات سريعة عن بعض ذكرياتى فى فترة حياتى التى عشتها فى مصر.
بدأت حياتى فى مدينة أسيوط فى صعيد مصر. عشت أول ١۲ سنة من عمرى فى إحدى حارات أسيوط القديمة. هذه الحارة تحمل ذكريات طفولتى التى لن أنساها. وفى كل مرة أذهب إلى مصر أنا حريص على زيارة ذلك المكان لأستعيد ذكريات تلك الفترة من حياتى. هى حارة ضيقة ومسدودة لا تسع بالكاد سوى عربة واحدة فى الوقت الواحد وإذا دخلت العربة لا تستطيع الرجوع إلا بالوصول إلى نهاية الحارة ثم تقوم بالدوران . أعرف كل حجر وطوبة فى تلك الحارة. وهناك كطفل مارست اللعب مع أقرانى (أولاد الحتة) بما كان متاحا لنا فى ذلك الوقت من ألعاب، لا تكلف شيئا يذكر من المال، مثل النحلة والكرة الشراب والبلية والطيارة الورق وغيرها. ومع ذلك لا أعتقد أننى كنت أقل سعادة من أحفادى فى أمريكا الذين يلعبون الآن بالأجهزة الإلكترونية التى تكلف مئات الدولارات.
فى منتصف الحارة يقع بيتنا ذات البلكونة المميزة الذى ولدت فيه والذى ورثه أبى عن جدى. ومن ذكرياتى التى لا تنسى فى ذلك الوقت أننى رأيت مرة مدرسى السابق فى مرحلة الروضة (أنور أفندى) يسير فى حارتنا، وكنت أكرهه جدا، فصعدت إلى سطح المنزل ورميته بالطوب. وكراهيتى لهذا الرجل لها أسبابها الوجيهة. فعند التحاقى بالروضة أمره الناظرأن يقبلنى فى الصف الثانى بدلا من الأول على غير رغبته. وكان لهذا السبب غاضبا على. وفى ذات مرة نادانى باسم والدى وطلب منى أن أقف (كان فى جبروته يترفع عن أن ينادينى بإسمى الشخصى). فوقفت وأنا أرتعش وكنت أحس بالشرر يخرج من عينيه. ورسم على السبورة دائرة صغيرة فوقها نقطتان (ة). وكانت هذه أول مرة فى حياتى أرى شيئا مثل هذا. قال لى فى غلاظة: جوللى يا (مستعملا اسم والدى) تبجى إيه دى؟ قلت له وأنا غير متأكد أنها خمسة. رد غاضبا: لع. قلت: .تبقى... تبقى.. خمسين أو خممسمية. وهنا إشتاط غضبا وصفعنى على وجهى صفعة كادت أن تفقدنى عينى وتسببت فى ضعف عينى اليسرى حتى هذا اليوم. ولا أدرى ما هى جريمة طفل فى السادسة من عمره لم يبلغه أحد أن هناك حرف إسمه التاء المربوطة (ة) ضمن الأبجدية العربية والتى كنت أحفظها كلها (بالمعدول والمقلوب) عن ظهر قلب (طبعا فيما عدا تلك التاء المربوطة المشئومة). والآن أرى أنه ربما كانت هناك فائدة من هذا الأختبارالمرير فى هذا السن المبكر من حياتى وهو أننى أصبحت منذ ذلك الوقت خبيرا فى التاء المربوطة الشهيرة وأعرف الفارق بينها وبين الهاء والتاء، وهى أخطاء شائعة يقع فيه الكثير من الكتاب حتى من بين المحترفين.
إنتقلنا للسكن فى أسيوط الجديدة مع دخولى فى المرحلة الثانوية. وما زلت أذكر وكيل المدرسة الثانوية (الأستاذ جودة) وهو رجل كان يحب المزاح ونادرا ما كنت تراه جادا. وكان ينادى كل طالب مسيحى باسم (ياد يا إبن حنونة). ومع أننا كنا نعتبر هذا (هذار بايخ) لكننا كنا نتحمله منه على مضض لأننا نعرف شخصيته. وما يزال عالقا بذهنى هذا الحادث عندما تعرض فصلى ذات مرة للعقاب الجماعى. كان مدرس اللغة الفرنسية (مسيو لبيب) وهو رجل بدين للغاية، وكان عندما يدخل الفصل لا يستطيع الوقوف. فكان يجلس ويطلب من أحد الطلبة اسمه حسن ويناديه باسم حثن (لأنه كان ألدغ اللسان) أن يقف ويكتب على السبورة ما يطلبه منه. وفى ذات يوم قبل دخول مسيو لبيب الفصل كتب طالب مشاغب على السبورة عبارة "نام يا فيل". رأى مسيو لبيب هذه الكلمات عند دخوله فثار وطلب حضور الناظر ولكن لم يعترف أحد من التلاميذ بارتكاب الجريمة، وكنا مهددين جميعا بالطرد واحضار أولياء أمورنا. ولم ينقذنا من المطب غيرالمدرس المشرف على الدور وكان يشك فى طالب معين، فطلب منه أن يكتب نفس العبارة على السبورة. وتطابقت طريقة الكتابة وعرف الجانى وخرجنا من هذه الأزمة بسلام.
مرت سنوات الدراسة الثانوية وسافرت إلى العاصمة للإلتحاق بجامعة القاهرة. وكانت مرحلة الدراسة الجامعية جميلة أعطى لنا فيها لأول مرة قدرا من الحرية والإستقلال والمعاملة الكريمة. وتخرجت وكانت الخطة أن أرجع إلى مدينة أسيوط للعمل بها فهذا قرارالأسرة ولم أكن أجرؤ على عصيانه.
وكانت جامعة أسيوط توشك على الإفتتاح وكنت أظن أنه مكان جيد للعمل. قدمت إليه أوراقى ولكنى علمت بعدها أن مدير الجامعة د. حزين كان قد زود بتعليمات من ناصر شخصيا بعدم تعيين مسيحيين بالجامعة كمحاولة لكسر شوكة المسيحيين بمدينة أسيوط. كان ترتيبى التاسع على دفعتى ورفضونى دون إبداء الأسباب. والغريب أن يعين فى الوظيفة زميل مسلم كان ترتيبه السبعين ومن مواليد دمياط. ولكنى شكرت الله وقلت فى نفسى جت منك يا جامع فلم تكن رغبتى الحقيقية أن أعمل فى أسيوط. وإستطعت أن أجد عملا فى أحد معاهد وزارة التعليم العالى بمدينة القاهرة. والطريف أن زميلا مسلما من سكان القاهرة من الذين عينوا فى جامعة أسيوط جاء بعدها يتوسل لى أن أقبل البدل معه فأذهب إلى جامعة أسيوط ويأخذ هو وظيفتى فى القاهرة. وقال لى إن عنده شخصية على مستوى رفيع تستطيع أن تنفذ هذا البدل إذا أنا قبلت. وطبعا كان ردى بالرفض، ومع رفضى أحسست بعودة كرامتى التى أهدرت عندما رفضونى دون سبب.
كانت فترة عملى فى القاهرة هى التى غيرت مجرى حياتى والتى شكلتنى إلى ما أنا عليه. فى القاهرة تعددت إتصلاتى ودراساتى وخبراتى ونشاطاتى وركزت بالذات على الكتابة والطباعة والنشروالعمل الصحفى والإشراف على تحريرالمجلات الدينية، هذا بالإضافة إلى عملى الأصلى. وفى مكان عملى أعطانى الله نعمة فى عينى المدير المسلم فكان يثق بى ويحبنى. وعندما تقدمت بطلب للترقية لرئيس قسم وافق على الفور. ثم سألنى لماذا لم أطلب ذلك من قبل؟ قلت له بسبب وجود موظف آخر أكثر أقدمية منى (كان مسلما ثم نقل من المعهد). وكانت مفاجأة لى عندما قال أنه لم يكن ممكنا أن يوافق على ترقية ذلك الموظف لأنه كان حرامى. وفى القاهرة إلتقيت بشريكة حياتى التى ما تزال فى عينى هى نفس الفتاة التى عرفتها وأعجبت بها وتزوجتها منذ ٤٤ عاما. .
ولكن حدث فى يوم من الأيام عندما رجعت إلى منزلى من العمل أننى فوجئت بورقة من مخبر متروكة لى مع بواب العمارة تطلب منى أن أذهب إلى أمن الدولة فى ميدان التحرير لمقابلة أحد الضباط. كان فى تلك الفترة من حكم عبد الناصر أن من يذهب لأمن الدولة أحيانا لا يعود، وقد لا يعرف مكانه، وربما يقال عنه أنه ذهب إلى ما وراء الشمس. ذهبت وتقابلت مع الضابط لإستفسرعن الأمر. وعلمت أنه كان نتيجة نشاطى الدينى الزائد. كان الضابط مؤدبا ولطيفا معى للغاية وأخذ معلومات مفصلة عن كل نشاطاتى ودقائق حياتى. وفى النهاية قال لى: أنت طبعا راجل وطنى؟. قلت له: بالتأكيد. قال لى بطريقة دراماتيكية: وطنك محتاج لمساعدتك يا أستاذ منير. رديت عليه بطريقة أكثر دراماتيكية: وأنا مستعد لمساعدة وطنى. ثم طلب منى أن أصبح جاسوسا أمد الأمن بتقارير لنشاطات الجمعيات والكنائس التى أتردد عليها. صعقت لهذا الطلب ولم أعرف كيف أرد عليه، فبالتأكيد لن أصبح جاسوسا ضد أهلى ولو كان الثمن رقبتى، ولكننى أيضا لم أرد أن أدخل فى مواجهة معه. ثم أعطانى الله الرد المناسب. قلت له: ربنا يعمل ما فيه الخير.. وانصرفت. وطبعا لم أمده بأى معلومات لأنه أساسا لا توجد أى معلومات أمنية فى أى مكان كنت أذهب اليه. ولكن بعد تلك المقابلة أحسست بأن حياتى مهددة فى مصر لأننى لن أقدم لهم ما يريدوه. وبدأت فكرة الهجرة تختمرفى ذهنى. .
كان فى ذلك الوقت باب الهجرة لأمريكا مفتوحا على مصراعيه نتيجة تصنيف مصر على أنها دولة إشتراكية فقدمنا طلب هجرة الى أمريكا وأستراليا وكندا وقبلت هجرتنا فى جميع هذه الدول الثلاثة. وإستقر رأينا على إختيار أمريكا.
كل ما يعمل هو للخير. وأنا فى الواقع مدين لعبد الناصر لإجبارى على هجرتين الأولى من أسيوط إلى القاهرة والثانية من القاهرة إلى أمريكا. فلولا هذا لما هاجرنا ولما أتيحت لنا الفرصة أن نصبح ضمن المشاغبين المعروفين باسم أقباط المهجر، وكنا قد حرمنا من شرف العمل الحقوقى لمساعدة أخوتنا فى مصر والمتعة المصاحبة لهذا كله.
والآن وبعد غيابى عن مصر لمدة تقترب من أربعة عقود ما يزال قلبى يهتز كلما سمعت كلمة مصر وما زلت أعشق كل ماهو مصرى. ما زلت أتكلم لغتها، وتعجبنى خفة دم شعبها، وتطربنى موسيقاها، وأقرأ لأدبائها، وتشدنى بالذات أفلامها القديمة من أيام الزمن الجميل. حوارى أسيوط القديمة لا تقل جمالا فى نظرى عن روديو درايف، وطبق الفول المدمس بالخلطة أحسن من البوفتيك، والباذنجان أبو خل أشهى جميع المشهيات، والملوخية بالطشة أطعم من أى شوربة، والبسبوسة بالقشطة أحلى من أرقى الجاتوهات. أما الطرشى البلدى، الذى أنا خبيرفى صناعته، فلا يستطيع طبيب أن يمنعنى عنه مهما كان ضغطى عاليا. هل سال لعابكم؟!
أيام وليالى..هى مجمل عمرنا.. تظهر وتغيب مثل ومضات البرق..ثم تطوى مع الزمن..ولا يتبقى منها غير.. الذكريات.
Mounir.bishay@sbcglobal.net |