بقلم: القس رفعت فكري
في المقال الماضي استعرضنا دساتير جمهورية مصر العربية ورأينا أن الوثائق الدستورية التي عرفتها مصر في بداية إطلالها على التنظيم الدستوري خلت من أي إشارة إلى دين الدولة أو إلى الشرائع الدينية كمصدر للتشريع وأن المادة الثانية أدخلت إلى الدستور المصري لأول مرة في دستور 1971 وعدلت في 22 /5 /1980 لتصبح الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع بدلا من كونها مجرد مصدر رئيسي دون أداة التعريف , والدستور كما يقول جان جاك روسو هو تسجيل لعقد يحول رغبات الأمة إلى مبادئ محددة للعمل . لذا لا يصلح أبداً أن نفترض حسن نية المشرع وهو يضع المادة الثانية في صدر الدستور المصري، لماذا؟ لأن الدول _ وهي تضع دساتيرها _ قصدت أن تكون لغة الدساتير واضحة، قاطعة، جامعة، مانعة، لا تحتمل لبساً، أو غموضاً، ظاهرها كباطنها، لكون الدستور _ في الواقع _ هو مجموعة من القواعد القانونية العامة والمجردة التي يجب أن تنطبق على كل إنسان – كل وليس بعض أو فئة - داخل الوطن الواحد، بصرف النظر عن أية اعتبارات أو عوامل أخرى، وعليه، فكل الدول "المتقدمة" نأت بنفسها عن هذا المنزلق الطائفي الخطير عند وضع دساتيرها، ولم تبق دساتير طائفية _ تميز بين المواطنين على أساس عرق أو دين _ إلا دساتير دول قليلة جداً، من المؤسف والمخجل أن تكون من بينها مصر !!
ويظن الكثيرون أن الحكم الديني يعني قيام رجال الدين بالحكم مباشرة لكن التعريف الصحيح للدولة الدينية هو في الواقع الذي يكون فيه الجهد الأساسي موجها نحو تطبيق قوانين إلهية. وبالتالي فهو يعني أي نظام حكم يستند بصورة أو بأخرى إلى مرجعية دينية ومن ثم فالدستور المصري يؤسس لنظام حكم ديني ثيوقراطي. ومفهوم الدولة الحديثة ككيان سياسي اجتماعي يستند إلى الشعب مصدرا للسلطات يتنافى بصورة مبدأية مع شكل ومفهوم الدولة الدينية , فالدولة الحديثة لا تستلهم السلف الصالح على حساب الخلف الطالح . الدولة الحديثة تتعامل مع النسبي والواقعي وليس مع المطلق والغيبي . الدولة الحديثة عقلانية ولا تزعم إنها دولة الكمال لكنها دولة السعي المستمر نحو الأفضل.
يقول الأستاذ عادل جندي في كتابه القيم (الحرية في الأسر)"عندما استخدم مصطلح ( دين الدولة الرسمي ) في بعض الدول الأوروبية حتى عهود قريبة فهذا لم يكن يعنى أكثر من تنظيم إداري بحت مثل أن يقوم جهاز الدولة بتحصيل تبرعات مع الضرائب من المواطنين الراغبين لصالح المؤسسة الدينية الرئيسية في البلاد مع ضمان حق باقي المواطنين في دفع تبرعاتهم التي تتمتع بنفس المميزات الضريبية لمؤسسات دينية أخرى بحسب اختيارهم ولم يكن المصطلح يعني بأي شكل معاملة تفضيلية ولا أن تتأثر الدولة في سياستها أو قوانينها بتوجهات تلك المؤسسة أو الدين الذي تتبعه " فالتمتع بكافة الحقوق والحريات المدنية لا يتوقف على المعتقدات الدينية للفرد. وبدراسة الكثير من دساتير الدول المتقدمة لايمكن أن نجد دولة متقدمة تضع لنفسها مادة تقول "أن الدين الرسمي للدولة هو الدين المسيحي"، ومن ثم فإن تلك المادة لا تضيف إلى الدولة شيئا ، ولكنها على العكس تزيد من انعزالها وانعزال مواطنيها في الداخل الذين لا ينتمون إلى ذلك الدين.
أسباب موضوعية تؤكد تنافي المادة الثانية مع المواطنة :-
1 - ليست الدولة شخصاً طبيعياً، بل هي شخص اعتباري، والشخص الاعتباري كائن معنوي لادين له فهي لا تصلي ولا تصوم ولاتحج ولاتدفع الزكاة لذلك فالقول بأن للدولة دين رسمي هو قول غريب وغير مفهوم. فالدولة مهمتها الوحيدة (ينبغي أن تكون) تنفيذ عقد اجتماعي وسياسي مع مواطنيها هنا على الأرض، وليس محاولة إدخالهم إلى جنة النعيم في العالم الآخر فليس من مهام الدولة إدخال الناس للجنة. إن الدين والشريعة كما يقول المستشار محمد سعيد العشماوي معنيان بالإنسان لا بالنظم , بالضمير أكثر من القواعد القانونية كما أنه بالنص على وجود دين للدولة "يصبح هناك دينا مميزا للدولة وبالتالي ينقسم المواطنون إلى فريقين أولهما يتبع ذلك الدين وبالتالي فهو صاحب الحقوق والامتيازات والثاني من أتباع الديانات الأخرى ينتظر المنح والهبات، مما يكرس مفهوم "الذمية" دستوريا ويجعل الدولة مدافعا وحاميا للدين لا للوطن" والنتيجة هي "مجموعة من القوانين والقرارات والأعراف المذلة والمنقوصة لحقوق من لايدينون بدين الدولة ." ومن هنا فإن نص المادة الثانية بوضعه الحالي يثير اللبس ويرتب نتائج قانونية غير متفق عليها .
2 - تتناقض المادة الثانية مع إدعاء أن "مصر دولة مؤسسات ديمقراطيةّ"، فأسس المبدأ الديموقراطي هو المساواة الكاملة بين المواطنين، فما بالنا بحق المواطنة الذي ينفيه الدستور المصري عن بعض المواطنين لأنهم خارجون عن الدين الرسمي للدولة؟!! فهذه المادة تعلن بوضوح أن الدولة تمارس حمايتها ورعايتها لدين قسم من رعاياها وتخلع مظلة الحماية عن الآخر فالقارئ للمادة الثانية حتماً سيفهم أن في البلد أدياناً أخرى غير الإسلام، يدين بها مواطنون غير مسلمين. ثم لا بد أن يستنتج أن الدولة لا تعترف بأديان أخرى لأبنائها، لأنها لا تعتبرها رسمية وماحدث مؤخرا في العديد من الأحكام القضائية يؤكد هذا فالدولة تنفي بعضاً من مواطنيها، ليس بسبب تقصيرهم في واجبات المواطنة، وإنما بسبب عقيدتهم !! إذاً الدستور يفرق ويميز رسمياً بين أبناء الوطن الواحد، ويصنفهم درجات في المواطنة حسب الدين، وليس حسب ولائهم للوطن أو جذورهم الوطنية. إن إعلان الدولة بأن الدين الرسمى هو الإسلام يشكل انتهاكا وتمييزا وتحقيرا للديانات الأخرى وبصفة خاصة للمسيحيين مما يؤدى إلى إعاقة تمتعهم وهم أبناء وشعب مصر بأي حق من الحقوق المنصوص عليها في الوثيقة الدولية بالحقوق المدنية والسياسية بما في ذلك المادة 18 الخاصة بحرية الديانة والمادة 27 الخاصة بحقوق الأقليات الدينية. والحرية الدينية جزء لا ينفصل عن حرية الرأي والتعبير وطبعا يرتبط بهما حرية أداء الشعائر الدينية، وهي حرية مكبلة بالقيود على الرغم من ادعاءات المساواة فلا تبني كنيسة جديدة إلا بقرارات صعبة ومعقدة . ولا تجري فيها إصلاحات إلا بقرار إدارية وبيروقراطية أكثر صعوبة. والأخطر من هذا كله أن الحرمان من المواطنة الكاملة يبيح ولو بشكل مستتر تعرض أصحاب الأديان الأخرى للعدوان على أرواحهم وممتلكاتهم. وهذا ما حدث ولا زال يحدث. !! إن الدستور هو أبو القوانين وأن الدولة المدنية تعني ببساطة فصل السلطتين الدينية والسياسية مع ضمان احترام المعتقدات الدينية والهويات الثقافية والروحية للشعوب والمجتمعات. انها تعني أن الدولة هي دولة قانون واحد يطبق على جميع المواطنين سواسية حقوقاً وواجبات بغض النظر عن الدين. انها "دولة المواطنة" لا دولة مواطنين .
أما عن مبدأ لهم مالنا وعليهم ماعلينا الذي يراد به الإيحاء بنوع من المساواة بين المسلمين وغير المسلمين فهو يحتاج إلى تفسير واضح في ضوء بعض الأمور مثل دفع الجزية وإنه لاتقبل شهادة غير المسلم ضد المسلم , ولا يقتل مسلم بكافر , لايرث غير المسلم في المسلم , وبينما يصرح بزواج المسلم من الكتابية بينما العكس -أي زواج الكتابي من المسلمة - محرم برغم عدم وجود نص قرآني صريح يحرم هذا الأمر وذلك لأن الفقهاء استندوا ببساطة إلى مبدأين في آن واحد وهما لا مساواة بين المسلم وغير المسلم الذي يستند بدوره إلى مبدأ الاسلام يعلو ولا يعلى عليه ومبدأ الرجال قوامون على النساء . ومن هنا فالارتكان إلى مبدأ لهم مالنا وعليهم ما علينا لايؤكد من قريب أو بعيد على المساواة التي ينبغي أن يكون النص الدستوري حولها قاطعا وحاسما وبدون التواء . فنص المادة الثانية بصورته الحالية في حد ذاته هو تمييز للمسلمين عن أتباع الديانات الأخرى أو اللادينيين. وسيكون حجة لتيارات سياسية لتفرض رؤيتها ومصالحها وتقيم دولة دينية يكون رأيها في كل أمور الوطن هو رأى السماء الذي لا يقبل النقاش والقبول والرفض.
وللحديث عن تنافي المادة الثانية مع المواطنة بقية في الأسبوع المقبل
راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا
refatfikry@hotmail.com |