بقلم: فرانسوا باسيلي
من الهوس الديني إلى التردي الحضاري:
مصر بلد شديد الخصوصية لا يشبه أي بلد آخر على الأرض ولا أي بلد عربي مجاور، والمصريون شعب فريد مدهش تذهلك خصائصه وأحواله وتصرفاته حتى أنني أصبحت واثقًا أن المصريين هم أعجب شعب في العالم، فهناك أحوال وتصرفات لا تصدر إلا عن المصريين وحدهم وهي أحوال وتصرفات غريبة مدهشة تجمع بين الطرافة وخفة الدم والحكمة الجماعية المخزونة واللا معقول، ومتناقضات أخرى تتعايش في طبيعة المصريين وفي سلوكياتهم جنبًا إلى جنب في سلام ووئام، معطية في النهاية شخصية مصرية مميزة تجذب إليها الآخرين بما تشعه من دفء وعاطفة إنسانية صادقة وساحرة تتوهج محبة للناس وعشقًا للحياة وللمرح والسخرية، لا تتعجل أي شيء، الصبر مفتاح أساسي من مفاتيحها السحرية سبكته القرون الطويلة التي شهدت مجدها الباهر في مفتتح التاريخ الحضاري وانكسارها البائس في الألفيتين الأخيرتين. والذي يعين المصري على أحواله الصعبة خاصتان أساسيتان من خصائص طبيعته النفسية - التاريخية هما التدين والمرح.
أظهر استطلاع للرأي قامت به مؤسسة "جوبل" العالمية أن المصريين هم أكثر شعوب الأرض تدينًا. وسيتأكد لديك هذا بسهولة إذا ما مشيت في أي شارع بأي حي شعبي بأية مدينة في مصر إذ ستجد المظاهر الدينية حولك في كل مكان من الآيات القرآنية المكتوبة على الحوائط في المحلات التجارية والمكاتب، والمسموعة من المذياع والميكروفانات من عشرات المساجد والزوايا في كل حين، إلى ملابس المصريين أنفسهم من الرجال المجلببين الملتحين إلى النساء المحجبات والمنقبات، إلى كلام المصريين الذي تتخلله عبارات (إن شاء الله) و(كله على الله) وغيرها بين كل جملة وأخرى، والأقلية القبطية في مصر لا تقل تدينًا في المسلك والمظهر، واهتمام الأقباط بالجانب الديني في حياتهم وخاصة ما يتعلق منه بالإيمان بالمعجزات التي أصبح البعض يراها ويتوقعها بشكل يومي في حياتهم هو اهتمام لا يضاهيه اهتمام أية طائفة أو جماعة مسيحية أخرى في العالم من المذاهب المعروفة، وبهذا يمكننا أن نقول أن المصريين اليوم -وهكذا كانوا منذ فجر التاريخ- هم اشد شعوب الأرض تدينًا وانشغالاً –واشتغالاً– بالدين في كافة مناحي حياتهم، والمصريون هم مَن ابتكروا الأبدية وقالوا بالحياة بعد الموت وبالروح والخلود والحساب والعقاب قبل الظهور هذه كلها في الأديان السماوية بعد ذلك بقرون عديدة.
كما أن المصريين هم أول من أعطوا الكهنة –أي رجال الدين- منزلة عالية تناطح منزلة الفرعون نفسه الذي أضطر إلى أن يعلن نفسه نصف إله حتى يعلو قليلاً على منزلة الكهنة، لكن المصريين كانوا دائمًا يعطون الكهنة منزلة أعلى من الملوك لأنهم آمنوا بأن في أيدي الكهنة مفاتيح الروح في الدنيا والآخرة معًا. وإلى يومنا هذا نرى المصريين -مسلمين وأقباطًا- يلجئون إلى رجال الدين طالبين عندهم إجابات لكل كبيرة وصغيرة في حياتهم اليومية بشكل لا يفعله شعب آخر على الأرض بل وبشكل يكاد أن يشي بنوع من الطفولة الجماعية وعدم النضج.
في إحصائيات عديدة في السنوات الأخيرة تجئ مصر في مؤخرة دول العالم في الكثير من مؤشرات الحضارة مثل الجامعات (لم تعد الجامعات المصرية بين أفضل مائة جامعة في العالم كما كانت جامعة القاهرة من قبل) ومستويات الصحة والنظافة والإنتاجية، وفي دراسة حديثة أخرى نجد أن المجتمع المصري يتصدر مجتمعات الأرض في مدى استفحال الفساد والمحسوبية والرشوة في كافة مناحيه. أما أعجب استطلاعات الرأي مؤخرًا فكانت تلك التي أعلنتها الحكومة المصرية والتي تقول أن المصريين هم من أكثر شعوب الأرض سعادة!! فإذا بدا لنا كل هذا متناقضا فعلينا أن نعرف أن المصريين هم أغرب شعوب الأرض وأن لديهم القدرة الفائقة على التعايش مع حزمة من المتناقضات التي تقيم بداخل ذواتهم ومجتمعاتهم بلا قلق أو مساءلة أو رفض.
ولنا أن نتساءل أمام هذا: كيف يكون المجتمع المصري اليوم على درجة عالية من التدين (الأعلى في العالم) وفى نفس الوقت على درجة عالية من الفساد (الأسوأ في العالم)؟ أليس المفروض في التدين الشديد أن يؤدي إلى انعدام الفساد؟ وكيف مع كل هذا الفساد وكل هذا الفقر والبؤس والجهل وانعدام أبسط مستويات الحياة الإنسانية السليمة الصحية الجميلة الكريمة أن يكون المصريون أسعد خلق الله؟
هذه التي تبدو على السطح متناقضات لا تتلازم هي في الواقع من طبيعة الأشياء إذا ما كان لدينا بعض الإدراك لسيكلوجيات الشعوب. وقد أكتشف علماء النفس منذ زمن أن الإفراط في تصرف معين كثيرًا ما يكون نوعًا من التعويض عن نقيصة يستشعرها الإنسان. فالإفراط في مظاهر التدين السطحية من شعائر وعبادات احتفالية يراها الجميع هو تعويض عن نقص في الالتزام بجوهر الدين من صدق ونظافة روحية ومعاملة إنسانية والتزام بالشرف والخلق القويم في كل تصرف. فالفقر والعوز والقهر الذي يدفع الكثيرين إلى قبول الرشوة أو الظلم أو السرقة أو الكذب والنفاق وعدم الأمانة بشكل يومي يضطر صاحبه إلى البحث عن تعويض كل ذلك بالإفراط في التدين المظهري لعل الله يغفر له ما يفعله من إثم من ناحية ولكي يرمم -في نظر نفسه وفي نظر الناس– ما تصدع من شخصيته التي انهار احترامها ومكانتها تحت ضغط الحاجة اليومية إلى قبول الانغماس فيما يهين النفس لتأمين لقمة العيش للأولاد.
لذلك اعتبر كثير من المفكرين والمصلحين أن الفقر هو أعظم الآثام الاجتماعية لأنه أساس كافة الشرور الأخرى. وكلما اشتد الفقر وضغط الحاجة أندفع البعض إلى الجريمة العلنية كالسرقة والقتل، واندفع الكثيرون إلى الجريمة المقنعة كالرشوة والتحايل والكذب والنفاق وارتكاب الظلم وقبوله والصمت عليه.
وفي نفس الوقت اندفع الجميع إلى الإفراط في التمسك بمظاهر التدين العلنية في محاولة لتضميد النفوس الجريحة والضمائر النازفة واسترداد الكرامة المحطمة. إلا أن الإفراط في التدين لا يحل أيًا من المشاكل التي يعانيها الفرد أو المجتمع، إنه يمنح نوعا من التعويض المؤقت والضماد اليومي، لكن الجرح يظل ينزف باستمرار من تحت الضماد، فالتدين لا يحل مشاكل الفقر وضرورات المعيشة والأدهى أن الإفراط في التدين يزيد من المشكلة، إذ أن مظاهر التدين والعبادات ومنظوماتها من شعائر ومتطلبات تخلق عالمًا كاملاً من الاشتغال والانشغال بالتدين ومحاولات تفسير كل شيء تفسيرًا دينيًا والاضطرار إلى اللجوء إلى رجال الدين (وهم رجال فقط بالطبع وليس بينهم نساء في احتكار ذكوري فاضح لمفاتيح السماء!) لاستفتائهم في كل كبيرة وصغيرة في أمور الدنيا، وهكذا يقضي المصري –مسلمًا كان أو قبطيًا- جزءًا لا يستهان به من وقته منشغلاً بتساؤلات وإجابات وتفسيرات ومحاضرات ومناظرات ومحاورات تدور كلها حول قضايا دينية بحتة كان يجب أن تكون هي شغل رجال الدين والباحثين والأكاديميين وحدهم وليس كافة الناس. وهكذا ينشغل المجتمع المصري عن بكرة أبيه بقضايا بيزنطية لا تفيد المجتمع ولا الإنسان في شيء على الإطلاق وبدلاً من الانخراط في عمل جاد مفيد مثل الإنتاج أو تحسين الأوضاع التعليمية أو الصحية أو السكانية أو الثقافية في البلاد يشتغل المصريون بقضايا وهمية تلبس مسوح الدين فتبدو بالغة الأهمية وهي في الواقع غير قادرة على رد خطر بعوضة عن الناس.
ولكي أعطي مثالاً على ذلك أحدثكم عن جماعة الكترونية تقول عن نفسها إنها لشباب إحدى جامعات مصر كلية العلوم شعبة الفيزياء أو الكيمياء وعندما دخلت إلى موقعهم متوقعا أن أقرأ آخر أبحاث وأفكار شباب مصر في هذا المجال صدمت عندما لم أجد سوى مناقشات فقهية –سطحية– في شئون إسلامية!! وقضايا وهمية محزنة على شاكلة بأي قدم المفروض أن يدخل المؤمن الحمام؟! هؤلاء شباب جامعيون هم ثروة مصر الحقيقية لصنع المستقبل لا ينشغلون بصنع أي مستقبل ويهربون هروبًا فاضحًا نحو عالم الغيب والغيبوبة!!
مثال آخر أشد بؤسًا ما شاهدته في برنامج البيت بيتك مؤخرًا، حيث جاء أستاذ مصري قال أنه حاصل على الدكتوراه في الفيزياء النووية (على ما أذكر) من إحدى جامعات أمريكا، لكنه ترك العمل في التدريس الجامعي والبحث العلمي وتفرع للحديث عن الإعجاز العلمي للقرآن، وقال أن دراساته العلمية العليا تجعله مؤهلاً لكي يتخصص في هذا المجال بعد أن أخذ شهادة أخرى من كاليفورنيا في الدراسات الإسلامية، وجاء أبلغ رد على هذا من الشيخ خالد الجندي الذي حضر اللقاء مع محمود سعد، إذا قال للضيف العالم النووي ما معناه إننا نحتاج إليه في مجال الأبحاث الكيماوية والنووية أكثر بكثير من حاجتنا إليه محدثًا عن الإعجاز العلمي في القرآن، وقال أن للفقه دعاته ولدينا منهم الكثير ولكن ليس لدينا كثيرون في الأبحاث النووية، ودعا الضيف أن يفيد أمته الإسلامية أكثر بالأبحاث العلمية وليس بخلط الدين بالعلم.
الانشغال إلى حد الهوس بالأمور الدينية الثانوية الذي يحدث في المجتمع المصري اليوم يشغل الإنسان المصري عن العمل الجاد والإنتاج والتعليم والتطور والدفع بعجلة الحضارة والإبداع في كل مكان.
إن الإيمان الديني يعتمد على الإتباع –إتباع السلف الصالح وإتباع أوامر الدين ورجاله- وهذا ينقلب إلى ضد المطلوب منه إذا ما زاد وطغى على كل شيء آخر، إذ أنه يخمد في الإنسان طاقة الإبداع أي ابتكار كل ما هو جديد لضمان تطوير النفس والمجتمع والمسيرة الحضارية. وفي مصر قد طغى الإتباع على الإبداع ووأده، وهكذا يزداد المجتمع الفقير البائس فقرًا وبؤسًا وينحدر إلى قاع الأمم في مستوياته الحضارية والإنسانية والأخلاقية.
أكتب هذا في اليوم الذي مات فيه الإعلامي الأمريكي الشهير "والتر كرونكايت" الذي كان ملقبًا بأنه الإنسان الأكثر مصداقية في أمريكا، ومن مآثره أنه خلال حرب فايتنام وبعد جولة له هناك عاد ليقول في نشرته الإخبارية أن هذه حرب لا يمكن الانتصار فيها وأن الأشرف لأمريكا أن تنهج منهج المفاوضات لتترك فايتنام لأهلها، وقال الرئيس جونسون يومها: "ما دمت قد خسرت تأييد "والتر كرونكايت" فقد خسرت تأييد أمريكا كلها". وهو ما حدث فعلا حين تحول الرأي العام الأمريكي ليصبح ضد تلك الحرب العبثية. وهكذا استطاع إعلامي مسئول أن يقول ما يجب أن يقال للشعب الأمريكي وللحكومة الأمريكية في وقت كانت تخوض فيه حربًا عنيفة. وما يحتاجه الشعب المصري هو رجال ونساء في مواقع المسئولية الثقافية والسياسية يقولون للشعب المصري أن حالة الهوس الديني التي تعتريه اليوم هي نوع من المرض النفسي والمجتمعي الخطير الذي عليه أن ينفض نفسه منها ليدخل إلى مصاف المجتمعات العصرية الجادة المنتجة للحضارة في العالم كله.
إن النظام الحاكم في مصر اليوم قد كف عن قيادة البلد والمجتمع وأصبح تابعًا -لا قائدًا- لمجتمعه، يقوم برد الفعل فقط كلما أفرزت الحالة السرطانية للمجتمع المصري بعض البثور هنا أو الانفجارات والتقيحات هناك فيقوم بالقبض على بعض الأفراد، وإطلاق سراح البعض الآخر في عمليات أمنية لا تنتهي ولا تقدم علاجًا ناجحًا للورم السرطاني المتفشي في جسد المجتمع المصري، لقد فقد النظام دور القيادة واكتفى بشعارات مضحكة عن الريادة، ولم يعد لمصر دور قيادي في المنطقة في أي مجال سواء كان سياسيًا أو ثقافيًا أو علميًا أو حضاريًا أو فنيًا، أنظر إلى حال مصر اليوم لكي تبكي حزنًا على بلد كان حتى الستينات من القرن الماضي يقود المنطقة بسياسة وثقافة متوهجة محلقة رائدة فعلاً وفي كافة المجالات.
إن النظام المصري الحاكم يلعب لعبة السير على الحبل، محاربًا كل محاولة للتغيير الحقيقي ومطاردًا كل موهبة جديدة تمثل خطرًا على الأمنيات البائسة في توريث الحكم، محبطًا بذلك قوى الشباب الصاعدة الراغبة في مستقبل أفضل لها ولبلدها.
إن النظام الحالي مسئول عن التردي الحضاري الذي يعانيه المجتمع المصري والإنسان المصري اليوم، وعليه أن يفسح المجال لغيره لإنقاذ مصر الكنانة من أمراض الهوس الديني والفساد الاجتماعي والسياسي والعشوائية السلوكية التي أوصلت المصريين إلى قاع الأمم.
بدون تغيير أساسي-سياسي وفكري معًا- لا أمل في مستقبل مزهر قريب لمصر. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|