المجتمع والإبداع

بقلم: سامح سليمان
الإبداع هو كسر النسق القائم والخروج على الموروثات القديمة للسير في الدرب الطبيعي للحياة، وهو درب التقدم والتطور. الدرب الذي يزداد ابتعادنا عنه يومًا فيوم لأسباب عديدة، أهمها أن مجتمعنا العربي مجتمع اعتقادي غير مفكر تحكمه العديد من المسلمات وقوائم من المحرمات توحد معها بدون فحص أو مراجعة، وأصبحت مع الوقت محل تقديس وشكلت له قالبًا فكريًا غير مسموح بتجاوزه أو حتى تعديله مما أدى إلى أن نتخلف تخلفًا شديدًا في كافة المجالات، فالتصميم على التمسك بالمحرمات الثقافية معناه التصميم على اغتيال العقل الناقد وهو أساس الإبداع، فإذا اغتلناه اغتلنا الإبداع والتطور وأصبحنا خارج مسار الحضارة الإنسانية.

فالتنوير يتطلب قدر من الحرية يمكن الإنسان من استعمال عقله استعمالاً طليقًا جهيرًا.
(الإبداع لا يعرف شيء يدعى إجماع القدماء أو ثوابت المجتمع، الإبداع لا يعرف محظورات أو خطوط حمراء)، فالحرية هي روح الإبداع وأرضه الخصبة، فكيف يمكن للإنسان أن يبدع وينتج وهو محاط بالرقباء والأوصياء وخائف من مصادرة أفكاره وربما حياته أيضًا؟!
ولنا في (طه حسين، فرج فودة، نوال السعداوي، نجيب محفوظ) وغيرهم كثيرين عظة وعبرة.

طارق حجي: (في ظل تواري قيمة قبول النقد وعدم التدرب على النقد الذاتي والإيمان بنظرية المؤامرة وجد مناخ ثقافي قتل فيه فرج فودة وطعن في عقله أحد أكبر أسباب فخر مصر وهو الأديب الفذ نجيب محفوظ....، وصودرت كتب يشعر الإنسان بالعار عندما يكون من بينها كتاب النبي لجبران خليل جبران..... إلى أخر الأمثلة العديدة لقروح في حياتنا الثقافية ما هي إلا ثمار مباشرة لشيوع قيم سلبية مثل عدم قبول النقد والتكوين الفكري بمعزل عن قيمة النقد الذاتي ثم الوصول إلى الإيمان المطلق بالمؤامرة والذي يجعل البعض يمسك في يديه الحجارة بدلاً من القلم) (الثقافة أولاً وأخيرًا).
خالد محمد خالد: (إن العقل في بلادنا مشرد محروم، تطارده الحكومات والجماعات فهو مشبوه سياسي تارة، ومشبوه ديني تارة أخرى، فماذا بعد أن تظل عقولنا مسلمة هذا الاضطهاد؟ فماذا بعد أن نظل أمة بلا عقل)     (مواطنون لا رعايا).

بكل أسف أقول إننا نعاني من مرض القطعنة والسير حيثما تشير العصا، لا نعرف البحث والاختيار عن قناعة بل أصبحنا مجموعة من النسخ المكررة والمشوهة بلا فكر أو رأي أو هوية، واقفين بالمرصاد لكل من يحاول أن يختلف أو يناقش مسلماتنا التي توارثناها عن الأولون لنمارس تجاهه كافة أنواع القهر والضغوط لكي يصب في قالبنا الفكري ويفقد تفرده واختلافه، فإن رضخ أصبح المخلص والبار وإن صمد أصبح خائن أو كافر أو مجنون!!
عبد العزيز قباني: (فالذات الجماعية تنسب إلى المفكر الثوري لكي تحبط من حركة فكره ونشاطه من أن تؤول إلى التغيير، استيراد فكرة أو معاداته للدين أو الوطن. أو تنسب إليه صفة مرفوضة كالتهور والإلحاد والخيانة من أجل تنفير الناس منه وإلحاق الهزيمة به)  (العصبية بنية المجتمع العربي).
وما أكثر الراضخين المنقادين في مجتمعنا!!

فالشرقي ميال إلى التوحد بالجماعة بسبب فقدانه للإحساس بالأمان وعدم اعتياده على النقد والتحليل والاستقلال بالرأي وحياته في ظل مجتمع لا يعرف سوى النقل والتلقين والتوريث لقيمه وأحكامه وعاداته وأفكاره التراثية الذكورية المتخلفة والعفنة المستمدة من كتب أوراقها مهترئة من فعل الزمن (قام بكتابتها شخصيات مشكوك في صحة ما قد تم تدوينه عن حياتهم بل وأيضًا مشكوك في نسبة هذه الكتابات إليهم بل وحتى مشكوك في وجودهم التاريخي من الأصل)!!
والتي تحتوي على كم من العقم والبلاهة والسفه واللا منطقية يفوق بكثير ما تحتويه من قيمة نتيجة مراحل عديدة من التشويه والتدمير لنفسيه الإنسان الشرقي وعقله من جانب العديد من المؤسسات التي شكلت شخصيته وقامت بتكوين  قاعدته الفكرية ابتداء من أول وأهم مؤسسة على الإطلاق في حياة أي إنسان وهي مؤسسه الأسرة.

* مؤسسه الأسرة وقانون الغابة:
الأسرة في مجتمعاتنا العربية ذكورية أبوية عشائرية قائمة على تسلط الوالدين (خاصة الأب لأنه صاحب القوة الاقتصادية ورب الأسرة!!) واعتبار الأبناء ملكية خاصة يحق لآبائهم تشكيل حياتهم والتحكم فيها بحكم ما لهم من فضل وتضحيات، فتقاليدنا الأسرية تحرم علينا مناقشه ذوينا أو الاختلاف معهم وتروج للنموذج الخانع المطيع على أنه المثل والقدوة أما المختلف صاحب الرأي فهو مارق وعاص ونهايته جهنم وبئس المصير!!
د.فؤاد زكريا (منذ سنوات العمر الأولى تعمل الأسرة على أن تكون العلاقة بين الأباء والأبناء علاقة طاعة، وتقدم طاعة الوالدين على أنها قمة الفضائل الأخلاقية.... ويعمل تراث شعبي كامل على ترسيخ فكرة الطاعة بين الأباء والأبناء وكأنها هي النموذج الأعلى للسلوك الأسري المثالي وحين يتكرر هذا النموذج عبر عشرات الأجيال تكون النتيجة هي جمود المجتمع بأكمله وانعدام التجديد فيه)  (خطاب إلى العقل العربي).
خالد محمد خالد: (يبدأ قانون الغابة في البيت سالكًا مع الطفل أحد طريقين أو كليهما، الأمر الصارم الذي تسكته الطاعة السريعة أو العقوبة التي تبدأ بالضرب وتنتهي بإحداث عاهة جسمية وعاهة نفسية) (كتاب: لكي لا تحرثوا في البحر).

* المؤسسة التعليمية وتدمير العقل:
ولن نستطيع أن ننكر الدور الكبير للمؤسسات التعليمية في تدمير الروح الفردية ومسخ الكيان الإنساني للفرد، وتشويهه فكريًا ونفسيًا وربما أيضًا جسديًا في مختلف المراحل التعليمية بأساليبها المتخلفة القائمة على الحفظ والتلقين وتقديس صنم ملعون يدعى (الإجابة النموذجية) واعتبار المناهج التعليمية وحي مُنزّل والمعلم نبي مرسل كفر كل من تجرأ على مناقشته واستحق العقاب بكافة أشكاله التي يجيدها أغلب المعلمين إجادة تامة!
(فكانت النتيجة عقولاً عاجزة خانعة تتبع ولا تبدع ترث ولا تنتج).
د.فؤاد زكريا (تعمل المؤسسة التعليمية على توطين فيروس الطاعة في خلايا الأدمغة الفتية الغضة، فإذا بمعاييرها لتقييم أداء التلاميذ ترتكز كلها على الترديد الحرفي للمعلومات المحفوظة وتعطي أعلى درجات التفوق للتلاميذ المجتهدين، وهي في قاموسنا التعليمي لا تعني إلا الحافظين وتعاقب كل من يبدي رأيًا ناقدًا أو مخالفًا فتنزله أسفل سافلين) (خطاب إلى العقل العربي).
ذلك بخلاف أن سياسة الضرب والاستهزاء بالطلاب وتحقيرهم أصبحت مبادئ مهيمنة داخل المدارس الحكومية المصرية!
وسوف اذكر بعض المواقف من كتاب (ثقافات التعليم في مصر) للدكتورة ليندا هيريرا: (وهو دراسة ميدانية هامة): طالبة من المدرسة (ى): بيضربونا على جسمنا وعلى خدودنا، والشتيمة بألفاظ قبيحة مثل يا كلبة يا بنت الكلاب، يا جزمة يا سافلة..... اهلك مش عرفوا يربوكي، وشتائم أخرى لا استطيع أن اذكرها.
مدرس يوجه حديثه إلى الطلاب أثناء طابور الصباح: سنة تالتة شوية زبالة وشوية عيال، بتحسب نفسك راجل، أنت عيل، ولا حصلت حتى عيل، مش عايز تتعلم وتحترم نفسك أثناء الحصة ماتخشش من باب المدرسة تقف في الطابور زي الألف زي الكلب، هنا خلاص بقى سوق غنم ممنوع أي طالب يطلع برة لأي سبب، مش عايز أشوف كلب برة الفصل).

* الهروب من الواقع المؤلم إلى الوهم والغيبيات:
وأمام تخلفنا في العديد من المجالات وإحساسنا الدفين بالضآلة والجهل والعجز عن المواجهة والسعي نحو الندية، لم تجد مجتمعاتنا الشرقية ما يشعرها بالقيمة والأفضلية أمام الغرب المتقدم المبدع سوى اتهامه بالكفر والإلحاد، وأن تنسب لنفسها التقوى والإيمان وصار منطقنا في الحياة إن كان لهم العلم فلنا الدين وإن كانت لهم الدنيا فلنا الآخرة، فلم يعطهم الله العلم إلا لكي نتفرغ نحن للعبادة!!
ويؤيد هذا الرأي المفكر سيد القمني في كتابه الأسطورة والتراث (مع الإحساس المتنامي بالدونية والتقزم واليأس المطبق عن اللحاق بعالم اليوم تنعكس المشاعر الدونية إلى الطرف المقابل لإيجاد نوع من التوازن النفسي، فتتضخم الذات والثقافة القومية والأصل والماضي حتى نصل إلى أقصى الطرف الآخر بنرجسية واضحة بل وفصامية، فنستخدم أحدث المنتجات العلمية الغربية ثم نبرر لأنفسنا الوجه الآخر من الفصام العاجز بالأزمة الروحية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها العالم المتقدم والتي لابد وأن ترجع أسبابها وفق هذا المنطق المريض لأخذ الغرب بالعلم البشرى وحدة،مع التشكيك الملح في قيمة ما أنتجه العلم البشري وإمكانات هذا العقل..، ولا نرتاب لحظة في شكنا في نوايا التوجهات الإعلامية الرسمية وسعيها الدءوب لوضع الدين على قمة الهرم الفكري لمنتج الأمة الثقافي). فعشنا في هوس التدين والنفاق وتاليه القيادات الدينية
كفرنا بالشك وآمنّا بالنقل والتسليم، قدسنا الجهل والخرافة واحتقرنا العقل والعلم! وصارت علاقتنا بالله علاقة فرائض وقشور، علاقة استغلالية تعويضية!!
وأيضًا قمنا بتديين كل شيء في الحياة من علم وفكر وسلوك، فصرنا لا نأكل أو نشرب لا نقبل أو نرفض إلا بعد أخذ الإذن والتصريح!! وأصبحنا عبيدًا لمدعى العلم والمعرفة ببواطن الأمور واستطاع كل جاهل ومتسلط وباحث عن الشهرة أن يركب ظهورنا ويسوقنا بعصاه بعد أن تنازلنا عن إنسانيتنا وألقينا عقولنا في سلة القمامة.

خالد منتصر (الشعب المصري يعيش حالة من التوهان والدروشة المزيفة والشكلية المقيتة والاهتمام بالقشور واعتناق التفكير الخرافي وإدمان الدجل والغرق في الغيبيات وهجران أرض الحياة انتظار لحل السماء).  (صوت الأمة 7/1/2008) وهذا نتاج طبيعي لمجتمع مغيب العقل أحادي الرؤية والفكر.
وأخيرًا لست أجد ما يعبر عن ما وصلنا إليه سوى أمثولة الكهف لأفلاطون وهي تدور أن ثمة أفراد وضعوا في كهف من الطفولة وأوثقوا بسلاسل فلا يستطيعون منها فكاكًا وأديرت رؤؤسهم إلى داخل الكهف فلم يعد في إمكانهم الرؤية إلا أمامهم، فيرون على الجدار ضوء نار وأشباه ناس، فيتوهمون أن العلم الحق هو معرفة الأشباح!!

إن النهضة المرجوة لن تحدث أبدًا بدون صانعها وهو الإنسان الفرد، إن أوروبا لم تتقدم وتتخلص من خرافات العصور الوسطى إلا بإعلاء قيمة الإنسان ورفض كل سلطة إلا سلطة العقل، فالنهضة هي بالإنسان وللإنسان وليس بمشروعات وشعارات وهمية هلامية وغير مكتملة الصياغة.
النهضة لن تحدث إلا بإنسان يعطي الأولوية للعقل، إنسان ذو إرادة حرة خلاقة، إنسان مؤمن بثقافة الحياة وليس بثقافة الموت، إنسان يشعر بانتمائه إلى وطنه ومجتمعه، إنسان مؤمن بقيمته ودورة في الحياة ويسعى إلى اكتشاف نفسه وطاقاته وتطوير قدراته ومعرفه ما خفي عنه من أسرار الكون وتحقيق حياه أفضل له ولغيره ولمن يأتي من بعده، إنسان يثق في ذاته ويعتمد على ذاته في تحقيق نجاحات مادية ملموسة على أرض الواقع من صنع يديه، لا عن طريق أي قوة خفية.

(وليس بإنسان عبارة عن ببغاء، مقيد صاحب ثقافة محفوظاتية، مازوشى يتلذذ باحتقاره لذاته، عاشق للموت  يطلبه ويتمنى اقترابه، إنسان مدمن للغيبيات والميتافيزيقيا، إنسان يستمع بحروب وانتصارات دونكيشوتيه في عوالم وهمية).
لذا يجب أن نسعى بجديه لنتحول من مجتمع سلبي غير منتج لا يقوم سوى بإصدار الأحكام في ظل معتقداته.
مجتمع تحول أبناؤه إلى بصاصين وحاملي مباخر وأصحاب فتاوى!
مجتمع يحتقر العقل ويقدس الخرافة، مجتمع يخاف من الحرية ويهتف بحياة كل محتسب! إلى مجتمع ناضج مفكر مبدع، قادر على التقييم والتحليل والتعبير عن الرأي بحرية دون خوف من وصي أو رقيب. مجتمع يحترم الإنسان ولا يقتل فيه الإبداع.