بقلم- كمال غبريال
إذا حاولنا رصد ولو عناوين المراحل الرئيسية التي مر بها الأقباط خلال التاريخ المصري الممتد لعشرين قرناً، لنرى كيف كنا وكيف أصبحنا، لكي نستطيع تبين مواقع أقدامنا بوضوح، وبعدها يمكن لنا أن نحدد ماذا علينا أن نفعل، وأي وجهة ينبغي نتجه، لكي نكون مسايرين لركب الحياة المتغيرة أبداً، ونغادر كهوفنا التي نتحصن فيها، حتى صرنا كمن سقط من عربة الزمن والحضارة. . إذا ما حاولنا وضع أيدينا عن النقاط والمحطات الرئيسية في تاريخ الأقباط، فلابد أن نكتشف أن أغلبها، وربما أهمها وأشدها تأثيراً، لا يختص به الأقباط بمعنى مسيحيي مصر وحدهم، وإنما هي تلك المراحل التي مر بها الشعب المصري ككل، وفي القلب منه أقباطه. . ولأننا لا نعتزم في هذه العجالة مقاربة التاريخ المصري المديد، ولخروج هذا المهمة الجليلة عن هدفنا المحدود هنا، فإننا سنقصر تركيزنا على ما يخص الأقباط وحدهم بصفتهم الدينية، في وطن تعددت أحواله بتعدد المراحل التاريخية والحضارية.
المرحلة الأولى من تاريخ الأقباط هي ما بين دخول مرقس الرسول إلى مصر، وحتى إعلان الملك قسطنطين المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، وتميزت تلك المرحلة بالاضطهاد والقمع الشديد للأقباط، بما يستحق أن يلقب بعصر الشهداء. . ترتب على هذا أن مارس الأقباط عبادتهم سراً، وكانت الوشاية بأحدهم كفيلة بسوقه إلى التعذيب ثم القتل، فقد اعتبرت المسيحية والمسيحيين في هذه المرحلة خطر على "أمن الدولة"، التي هي الإمبراطورية الرومانية، دون أن يستند هذا التصور أو الادعاء بالطبع إلى أي حقائق واقعية ميدانية، فقد كانت هذه الديانة الجديدة (وقتها)، لا تدعو لأكثر من المحبة والسلام، وللإيمان بيسوع الفادي مخلص البشرية. . رغم هذه الحقيقة الأكيدة، فقد كان هناك من يتنطع بالادعاء أن المسيحيين "خطر على أمن الدولة"، ولنا أن نتصور بمفاهيم عصرنا، أن الأقباط صاروا منذ ذلك التاريخ المبكر شأناً من شئون "جهاز أمن الدولة"، وملف هام بين ملفات ذلك الجهاز الرهيب في كل أشكال عصور الاستبداد والقهر.
لنا أن نتصور والأمر هكذا أن أجدادنا في ذلك العصر، لم يكن أمامهم سوى الاختباء عن عيون العامة، وليس فقط الانعزال عن المجتمع والحياة العامة، إلا بالحد الأدنى، الذي يحتمه السعي لكسب العيش. . فقد كان الظهور العلني بأكثر من هذا الحد، هو بالفعل إلقاء بالنفس إلى التهلكة.
تلت هذه المرحلة حقبة الاعتراف بالمسيحية كديانة رسمية، وتنفس فيها الأقباط بالفعل الصعداء، وبدءوا يظهرون بقوة على ساحة الأحداث. . لكنهم مع ذلك دخلوا في مرحلة الانشقاقات العقائدية، وما صاحبها في أحيان ليست بقليلة من صدامات دموية. . نستطيع هنا أن نتصور أن الإنسان القبطي وجد مجالاً أرحب للحركة والنشاط العام، أي الذي يتجاوز حدود السعي لكسب العيش، ومع ذلك لم يكن خروجه هذا للساحة العامة يخلو من مخاطر. . أي أن هذه المرحلة لم تحمل من الملامح، ما يقنع القبطي العادي ورب الأسرة، بأن يغير من طريقة حياته واهتماماته، وأن يخرج من الكهوف التي يختبئ فيها، اللهم إلا أن يخرج من الكهف، إلى قوقعة تحميه شر المخاطر الخارجية، حتى وإن كانت ظاهرة للعيان. . بعبارة أخرى نستطيع أن نقول أن القبطي في هذه الفترة تحول من حالة الاختفاء إلى حالة الانعزال، الذي هو أقرب للسلامة في عالم مضطرب وحافل بالمخاطر.
المرحلة الثالثة هي مرحلة الاجتياح العربي لمصر، ليس الاجتياح العسكري فقط، بل اجتياح جحافل الجياع الحفاة من بدو شبه الجزيرة العربية، لمصر الخضراء العامرة بالحياة والحضارة. . في هذه المرحلة لم يعد القبطي مستهدفاً في حياته فقط، كما كان الحال في المرحلة الرومانية الأولى، بل صار مستهدفاً في قوت أولاده، الذي كان ينهب منه، لتقتات عليه جحافل القادمين، علاوة على ما يُرسل إلى المنتظرين هناك في صحارى شبه الجزيرة العربية القاحلة، وما يجدر بالذكر هنا هو تساوي جميع المصريين في حالة البؤس والجوع والاستنزاف هذه، سواء من اشهر إسلامه منهم، أو من بقى متمسكاً بدينه، كما لو كان قابضاً على الجمر!!
هي مرحلة عصيبة ومهلكة لأبعد مدى، نستطيع أن نزعم ولو بقدر يسير من عدم الدقة، أنها امتدت من النصف الثاني من القرن السابع، حتى بداية القرن التاسع عشر، حين تولى محمد علي الحكم، واتجه لتأسيس دولة حديثة على النمط الغربي، في معرض طموحه لتأسيس إمبراطورية، ترث الإمبراطورية أو الخلافة العثمانية، التي كان قد آن أوان زوالها من على خريطة العالم السياسية.
ليس من المنطقي أن نتوقع من أجدادنا الأقباط في هذه المرحلة، بأن يهتموا بأكثر من البقاء على قيد الحياة، ومعه البقاء على المسيحية ما أمكن ذلك. . فقد كان ما وضع أنف أجدادنا في التراب ليس التهديد بالقتل، فمن السهل أن يختار المرء الاستشهاد، إذا ما خُيِّر بين الموت وبين ترك دينه أو مبادئه، وقد كان هذا خيار الأقباط بالفعل في عصر الاستشهاد الروماني، والذي أرخوا له بداية السنة القبطية، وأطلقوا عليها اسم سنة الشهداء، بل ويعلمنا تاريخ الكنيسة القبطية أن الكثيرين كانوا يسعون بأنفسهم لنيل إكليل الشهادة. . لكن الخيار كان ما بين ترك القبطي دينه أو تجويعه هو وأولاده. . هكذا كان شبح الجوع هو الذي ركع أمامه الكثيرون من أجدادنا، والقلة فقط هي التي استطاعت بالتحايل والهروب والمثابرة، أن تنجو بالاثنين، الدين والبقاء على قيد الحياة.
هي ثلاثة مراحل متتالية إذن، امتدت لحوالي سبعة عشر قرناً، كانت جماهير الشعب القبطي فيها كما الحبوب بين شقي رحى لا ترحم، بما كان كفيلاً بمحو واندثار أي شعب آخر، لكن الأقباط بصلابتهم وبتمسكهم بالحياة، استطاعوا أن يعبروا تلك القرون المظلمة، وليحققوا هذا الإنجاز الأسطوري، كان عليهم أن يتكيفوا ويتأقلموا مع ظروفهم، ونستطيع أن نقول أن أهم معالم ذلك التأقلم هو ما يمكن أن ندعوه بحيلة التشرنق، أو التقوقع على الذات، وهو ما تفعله العديد من الكائنات الحية، إذا ما وجدت الظروف المحيطة غير مناسبة لنشاطها.
إلى هنا نستطيع أن نقول أن منحنى اضطهاد الأقباط كان قد وصل إلى ذروته، ولابد بعد ذلك أن يبدأ ذلك المنحنى في النزول، وهذا ما سوف نقاربه فيما بعد.
|