بقلم: سهيل أحمد بهجت
إن الإنسان لا يملك تعريفا كاملا شاملا يعرف به ذاته، و هو كان و لا زال يطرح الأسئلة الفلسفية المعهودة منذ القدم "من أين جئت ؟ و لماذا جئت ؟ و إلى أين أذهب ؟" و هي أسئلة يجيب عنها كل دين إجابة مختلفة، بل إن الأديان نفسها تتنوع بتنوع الإنسان و ظروفه الاجتماعية و الاقتصادية و البيئية، ففكرة الله مثلا تختلف من المسلم إلى اليهودي و المسيحي و الهندوسي و هي تختلف مرة أخرى بين المسلم الشيعي و السني و المعتزلي و كل واحد من هؤلاء يمتلك منهجا مختلفا كليا عن الآخر، و الأسوأ أن هذا الاختلاف يؤدي إلى نتائج عنفية سلبية و الماضي و الحاضر الإسلامي خير مثال لها، بالتالي فإن الأسباب المادية للمعالجة "حسب ما نقل المسيري عن هوليوك، هي حصيلة تناقض الإجابات و الحلول التي طرحها المتدينون، و كان حريا بنا أن لا نلوم الألمان حينما فصلوا الدين عن الدولة بعد حرب كـاثوليكية ـ بروتيستانتية أهلكت ثلث السكان في القرن السابع عشر، هذا عدا الثمن الاقتصادي و النفسي الذي دفعه السكان نتيجة مسألة تتعلق بـ"الخلاص الآخروي".
و لعل السؤال الصحيح حول ماهية الإنسان تتعلق بسؤال آخر هو (ماهية العقل)؟ و في جواب هذا السؤال يكمن الحل، و لعل أفضل إجابة حول هذا الموضوع نجدها عند المرحوم الدكتور علي الوردي، فتحت عنوان "طبيعة الإنسان" و هو الملحق الثاني في الجزء الثاني من كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" يرى الوردي أن الإنسان هو "حيوان" قبل أن يكون إنسانا بمعنى العاقل، و أن التفكير هو الاختلاف الوحيد الذي يملكه عن أخيه الحيوان ـ حسب تعبير الوردي ـ بالتالي فإن هذا العقل نفسه تتحكم به رغبات و شهوات و طموحات قد تتفاوت من إنسان إلى آخر، و القدماء من مسلمين و غير مسلمين أخطأوا حينما جعلوا وظيفة العقل هي البحث عن الخير و الشر، و أن الحقيقة هي أن الله جعل العقل ليحمي الإنسان به نفسه و إن هو إلا عضو كسائر أعضاء الإنسان ـ حاله حال الخرطوم للفيل و المخلب للأسد و السقان السريعة للفرس ـ ليساعده في صراع البقاء و بعبارة أخرى أن العقل ليس المقصود به اكتشاف الحقيقة، أو التمييز بين الخير و الشر كما توهم الأقدمون، بل وظيفته هي أن يحمي به الإنسان نفسه و يضرّ خصمه.
فالعقل حسب طرح الوردي و إن كان مخلوقا إلهيا إلا أن وظيفته أداتية ـ و هو ما ينتقده المسيري في نقده التفكيكي للعلمانية ـ و حسب الوردي، و هو ما يقره الواقع، فإن الإنسان يدّعي دوما حب الحق و الحقيقة، و أنه يضحي في سبيلها، و أن هذا وهم يتوهمه الإنسان أحيانا بل و يتفاخر به، و لكن الواقع هو أن الإنسان في الغالب ـ و الشاذ عن القاعدة نادر ـ يحب الحقيقة حينما تكون في جانبه و تنفعه و كل زادت المنفعة زاد هو دفاعا عنها، و لكن ما أن تصبح الحقيقة في جانب خصمه و تضره حتى يلعنها و يبحث عن الحجج لإظهار أنها باطل، و لكي نفهم العقل البشري يطرح لنا الوردي ثلاث أمثلة جديرة بالإنتباه و هي:
أولا: أن الإنسان إبن البيئة التي ينشأ فيها و المجتمع يلقنه التقاليد و المعتقدات فيتشربها منذ نعومة أظفاره، و أن العقد التي ينشأ عليها الإنسان قد تكون "سخيفة" جدا و لكنها في نظره "معقولة" جدا و هي الحق كله، و هو يتعجب كيف لا يؤمن بها المخالفون مثلما هو مؤمن بها، و لا يدري أن المخالفين يتساءلون مثله كيف لا يعتقد اعتقادهم.
ثانيا: الإنسان حينما يتنازع مع خصم على مصلحة له مادية أو معنوية نراه يتخذ كل وسيلة للتغلب على خصمه. و هو مؤمن أن الحق معه و الباطل مع خصمه، و يريد من الناس أن يؤيدوه، فإن هم وافقوه كانوا في نظره منصفين و أن خالفوه كانوا من المبطلين، و من الصعب أو المستحيل أحيانا إقناع إنسان برأي لا يكون في مصلحته.
ثالثا: إذا أحب الإنسان شخصا أو شيئا تحيز في تفكيره كليا نحوه، فصار يبالغ في ذكر محاسنه و يبغض النظر في مساؤه. و هو يتحيز ضده تماما إذا كره ذلك الشخص أو الشيء بحيث لا يرى له فضلا أو نقطة إيجابية.
و هنا ينتقل الوردي الذي نقلنا كلامه هنا بتصرف إلى الرد على سؤال إذا ما كان العقل بهذه المنزلة فما بال المخترعات و الآلات العجيبة التي اخترعها العقل؟. و الوردي هنا لا ينكر عظمة العقل البشري ـ رغم أنه ألف مهزلة العقل البشري ـ و لكن هذا العقل لا يخلو بالتأكيد من تحيز و حب لذاته، و هنا أذكر أن الشهيد الصدر الأول أيضا يقرر في كتاب اقتصادنا أن "حب الذات" هو محور التاريخ البشري و أنه حتى ذلك الذي يضحي بنفسه في سبيل قضية يؤمن بها فهو يفعل ذلك ليصل إلى مرتبة أسمى و أفضل، و لا أستبعد أن يكون العلامة الصدر تأثر بالوردي في هذه النقطة تحديدا، و هنا يصل الوردي إلى قمة الاستنتاج فيقول:
إن العقل البشري لا يبدع إلا إذا كانت لديه مشكلة يريد حلها." ـ لمحات اجتماعية ج 2 ص 308 و بالتالي فإن معظم المخترعات الحديثة غالبا كان هدفها مغالبة الخصوم على وجه من الوجوه حتى توصل اليوم إلى الأسلحة النووية كما يقول الوردي، و من المهم الرجوع إلى بحثه للمزيد من الاطلاع.
و إذا كان الإنسان قائما بذاته، بمعنى أنه حتى في الفلسفة الدينية هو محبوب الله و غاية الكون، إذا فعلى الإنسان أن يوجد بيئة سليمة تتيح له العيش بسلام أولا و تتيح له البحث الشخصي عن الخلاص و الخلود بعد الخروج من عالم حتميته الموت، و العلمانية كتجربة لا تخلو من الأخطاء و المناطق المظلمة التي يراد لها أن تستكشف إما عبر البحث النظري الفلسفي أو عبر الممارسة الفعلية لعملية الوعي اليومي الذي يرى الأخطاء و السلبيات و الإيجابيات خلال كل مرحلة و أخرى، فالتطور الغربي نحو الدولة الحديثة لم يخلو من قباحات و جرائم و أخطاء و لكنها أيضا تجربة حققت في الوقت نفسه استكشافا لوعي جديد لحقوق الإنسان و الاستخدام الآمن و المفيد للعلم، كما أننا رأينا كيف أن تجربة فعلية هي الحرب العالمية الثانية أدت إلى تحطيم الدولة القومية التي تضخمت على حساب الحرية و الحقوق الفردية و العامة، و العلمانية كأي تجربة أخرى تستفيد ن أخطاءها فهي لا تدعي العصمة و لا الكمال، فإذا كان المسيري في كل مؤلفاته ـ بدءا من موسوعة اليهود و اليهودية و حتى في نقده العلمانية ـ يلزم الصمت أزاء التجربة الإسلامية الدينية و لا يطرح السؤال المهم "هل القرآن مسؤول عن تعدد المذاهب و الآراء و هل هذا إيجابي أم سلبي"؟ إنه يتجاهل كل النماذج و التجارب و يتغافل عن تاريخية التجربة نفسها كونها عملية تراكم خبرة و ممارسة و انتاج استنتاجات متواصلة، فإذا ولدت العلمانية تجربة كاملة لا نقص فيها و لا لبس و كانت تمتلك كل الأجوبة عن كل الأسئلة فإنها بالتأكيد ستكون دينا أكثر من كونها منهج تعايش و تطور، و الشيوعية الماركسية تصدت لكل سؤال بجواب فكانت النتيجة أن سقطت و حالت إلى دين آخر بلا إله.
من هذا المنطلق تجد أن المسيري حكم بالسلب المطلق على العلمانية، و يكفي لها سلبا أنها نتاج غربي مادي لا علاقة له بالروح فالروح شرقية كما يبدو، لكننا سنتجاوز الاختصار لنمضي في التفصيل الممكن مع نقد المسيري (الناقد الأبرز للعلمانية) و الذي يُنظِّر من طرف خفي للدولة الدينية مخلوطة بنزعة "قومية". يقول الدكتور المسيري:
إن المصطلح الذي تصور هوليوك أنه محايد، ليس محايدا تماما، فهو يشير من طرف خفي إلى رؤية شاملة للكون "أنظر العلمانية الشاملة ج 1 ص 54"، و إلى منظومة قيمية انسلخت عن الإيمان الديني و تبنت الطرق المادية، فهل تبنى هوليوك نموذجا ماديا شاملا دون أن يدرك هو نفسه ذاك، مع أنه تصور أنه سيترك الإيمان الديني و شأنه؟ (و هو أمر ـ بطبيعة الحال ـ مستحيل في هذا الإطار الشامل)" المصدر نفسه ص 14
إن النظرية الشاملة التي يحدثنا عنها المسيري لا يمكن أن تكون كذلك في ظل منظومة الغرب القائمة على حرية الاختيار، فالعلمانية كونها شأنا دنيويا محدودة بحدود الدنيا و هذا العالم و هي لا تدخل ضمن الفلسفة الماركسية مثلا التي أستطيع أن أصفها بالدين المادي، فالعلمانية الغربية تتسم باعتراف بالدين كون الدين يُمارس ضمن إطار الحرية و جعله جزءا من الإسهام في المجتمع و بناء الفرد و الأسرة، و لا مجال لإنكار الدور الكبير الذي تقوم به الكنيسة في الدول الغربية كأمريكا و بريطانيا، لكن طرح هوليوك لا يتعدى الجانب المادي من الإنسان و لا أحسب أن أحدا يستطيع أن يزعم أن الإنسان ليس مادة بالدرجة الأولى، فمشكلات الحياة و توفير حاجات الإنسان الغريزية و الاجتماعية و مستلزمات العيش الكريم كلها أمور تتعلق بالجانب المادي، تبقى مسألة المباحات و المحظورات التي تختلف من دين إلى آخر، و المسيري منذ البداية يطرح العلمانية كـ"نقيض" لما يسميه "الدين" و كأن الدين كائن متكامل واضح المعالم و الحدود و أنه وحدة واحدة، و هذا طبعا ليس صحيحا.
Email: sohel_writer72@yahoo.com
Web: www.sohel-writer.i8.com |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|