CET 00:00:00 - 09/08/2009

مساحة رأي

بقلم: سهيل أحمد بهجت
إن الإنسان لا يملك تعريفا كاملا شاملا يعرف به ذاته، و هو كان و لا زال يطرح الأسئلة الفلسفية المعهودة منذ القدم "من أين جئت ؟ و لماذا جئت ؟ و إلى أين أذهب ؟" و هي أسئلة يجيب عنها كل دين إجابة مختلفة، بل إن الأديان نفسها تتنوع بتنوع الإنسان و ظروفه الاجتماعية و الاقتصادية و البيئية، ففكرة الله مثلا تختلف من المسلم إلى اليهودي و المسيحي و الهندوسي و هي تختلف مرة أخرى بين المسلم الشيعي و السني و المعتزلي و كل واحد من هؤلاء يمتلك منهجا مختلفا كليا عن الآخر، و الأسوأ أن هذا الاختلاف يؤدي إلى نتائج عنفية سلبية و الماضي و الحاضر الإسلامي خير مثال لها، بالتالي فإن الأسباب المادية للمعالجة "حسب ما نقل المسيري عن هوليوك، هي حصيلة تناقض الإجابات و الحلول التي طرحها المتدينون، و كان حريا بنا أن لا نلوم الألمان حينما فصلوا الدين عن الدولة بعد حرب كـاثوليكية ـ بروتيستانتية أهلكت ثلث السكان في القرن السابع عشر، هذا عدا الثمن الاقتصادي و النفسي الذي دفعه السكان نتيجة مسألة تتعلق بـ"الخلاص الآخروي".
و لعل السؤال الصحيح حول ماهية الإنسان تتعلق بسؤال آخر هو (ماهية العقل)؟ و في جواب هذا السؤال يكمن الحل، و لعل أفضل إجابة حول هذا الموضوع نجدها عند المرحوم الدكتور علي الوردي، فتحت عنوان "طبيعة الإنسان" و هو الملحق الثاني في الجزء الثاني من كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" يرى الوردي أن الإنسان هو "حيوان" قبل أن يكون إنسانا بمعنى العاقل، و أن التفكير هو الاختلاف الوحيد الذي يملكه عن أخيه الحيوان ـ حسب تعبير الوردي ـ بالتالي فإن هذا العقل نفسه تتحكم به رغبات و شهوات و طموحات قد تتفاوت من إنسان إلى آخر، و القدماء من مسلمين و غير مسلمين أخطأوا حينما جعلوا وظيفة العقل هي البحث عن الخير و الشر، و أن الحقيقة هي أن الله جعل العقل ليحمي الإنسان به نفسه و إن هو إلا عضو كسائر أعضاء الإنسان ـ حاله حال الخرطوم للفيل و المخلب للأسد و السقان السريعة للفرس ـ ليساعده في صراع البقاء و بعبارة أخرى أن العقل ليس المقصود به اكتشاف الحقيقة، أو التمييز بين الخير و الشر كما توهم الأقدمون، بل وظيفته هي أن يحمي به الإنسان نفسه و يضرّ خصمه.
فالعقل حسب طرح الوردي و إن كان مخلوقا إلهيا إلا أن وظيفته أداتية ـ و هو ما ينتقده المسيري في نقده التفكيكي للعلمانية ـ و حسب الوردي، و هو ما يقره الواقع، فإن الإنسان يدّعي دوما حب الحق و الحقيقة، و أنه يضحي في سبيلها، و أن هذا وهم يتوهمه الإنسان أحيانا بل و يتفاخر به، و لكن الواقع هو أن الإنسان في الغالب ـ و الشاذ عن القاعدة نادر ـ يحب الحقيقة حينما تكون في جانبه و تنفعه و كل زادت المنفعة زاد هو دفاعا عنها، و لكن ما أن تصبح الحقيقة في جانب خصمه و تضره حتى يلعنها و يبحث عن الحجج لإظهار أنها باطل، و لكي نفهم العقل البشري يطرح لنا الوردي ثلاث أمثلة جديرة بالإنتباه و هي:
أولا: أن الإنسان إبن البيئة التي ينشأ فيها و المجتمع يلقنه التقاليد و المعتقدات فيتشربها منذ نعومة أظفاره،  و أن العقد التي ينشأ عليها الإنسان قد تكون "سخيفة" جدا و لكنها في نظره "معقولة" جدا و هي الحق كله، و هو يتعجب كيف لا يؤمن بها المخالفون مثلما هو مؤمن بها، و لا يدري أن المخالفين يتساءلون مثله كيف لا يعتقد اعتقادهم.
ثانيا: الإنسان حينما يتنازع مع خصم على مصلحة له مادية أو معنوية نراه يتخذ كل وسيلة للتغلب على خصمه. و هو مؤمن أن الحق معه و الباطل مع خصمه، و يريد من الناس أن يؤيدوه، فإن هم وافقوه كانوا في نظره منصفين و أن خالفوه كانوا من المبطلين، و من الصعب أو المستحيل أحيانا إقناع إنسان برأي لا يكون في مصلحته.
ثالثا: إذا أحب الإنسان شخصا أو شيئا تحيز في تفكيره كليا نحوه، فصار يبالغ في ذكر محاسنه و يبغض النظر في مساؤه. و هو يتحيز ضده تماما إذا كره ذلك الشخص أو الشيء بحيث لا يرى له فضلا أو نقطة إيجابية.
و هنا ينتقل الوردي الذي نقلنا كلامه هنا بتصرف إلى الرد على سؤال إذا ما كان العقل بهذه المنزلة فما بال المخترعات و الآلات العجيبة التي اخترعها العقل؟. و الوردي هنا لا ينكر عظمة العقل البشري ـ رغم أنه ألف مهزلة العقل البشري ـ و لكن هذا العقل لا يخلو بالتأكيد من تحيز و حب لذاته، و هنا أذكر أن الشهيد الصدر الأول أيضا يقرر في كتاب اقتصادنا أن "حب الذات" هو محور التاريخ البشري و أنه حتى ذلك الذي يضحي بنفسه في سبيل قضية يؤمن بها فهو يفعل ذلك ليصل إلى مرتبة أسمى و أفضل، و لا أستبعد أن يكون العلامة الصدر تأثر بالوردي في هذه النقطة تحديدا، و هنا يصل الوردي إلى قمة الاستنتاج فيقول:
إن العقل البشري لا يبدع إلا إذا كانت لديه مشكلة يريد حلها." ـ لمحات اجتماعية ج 2 ص 308 و بالتالي فإن معظم المخترعات الحديثة غالبا كان هدفها مغالبة الخصوم على وجه من الوجوه حتى توصل اليوم إلى الأسلحة النووية كما يقول الوردي، و من المهم الرجوع إلى بحثه للمزيد من الاطلاع.       
و إذا كان الإنسان قائما بذاته، بمعنى أنه حتى في الفلسفة الدينية هو محبوب الله و غاية الكون، إذا فعلى الإنسان أن يوجد بيئة سليمة تتيح له العيش بسلام أولا و تتيح له البحث الشخصي عن الخلاص و الخلود بعد الخروج من عالم حتميته الموت، و العلمانية كتجربة لا تخلو من الأخطاء و المناطق المظلمة التي يراد لها أن تستكشف إما عبر البحث النظري الفلسفي أو عبر الممارسة الفعلية لعملية الوعي اليومي الذي يرى الأخطاء و السلبيات و الإيجابيات خلال كل مرحلة و أخرى، فالتطور الغربي نحو الدولة الحديثة لم يخلو من قباحات و جرائم و أخطاء و لكنها أيضا تجربة حققت في الوقت نفسه استكشافا لوعي جديد لحقوق الإنسان و الاستخدام الآمن و المفيد للعلم، كما أننا رأينا كيف أن تجربة فعلية هي الحرب العالمية الثانية أدت إلى تحطيم الدولة القومية التي تضخمت على حساب الحرية و الحقوق الفردية و العامة، و العلمانية كأي تجربة أخرى تستفيد ن أخطاءها فهي لا تدعي العصمة و لا الكمال، فإذا كان المسيري في كل مؤلفاته ـ بدءا من موسوعة اليهود و اليهودية و حتى في نقده العلمانية ـ يلزم الصمت أزاء التجربة الإسلامية الدينية و لا يطرح السؤال المهم "هل القرآن مسؤول عن تعدد المذاهب و الآراء و هل هذا إيجابي أم سلبي"؟ إنه يتجاهل كل النماذج و التجارب و يتغافل عن تاريخية التجربة نفسها كونها عملية تراكم خبرة و ممارسة و انتاج استنتاجات متواصلة، فإذا ولدت العلمانية تجربة كاملة لا نقص فيها و لا لبس و كانت تمتلك كل الأجوبة عن كل الأسئلة فإنها بالتأكيد ستكون دينا أكثر من كونها منهج تعايش و تطور، و الشيوعية الماركسية تصدت لكل سؤال بجواب فكانت النتيجة أن سقطت و حالت إلى دين آخر بلا إله.
من هذا المنطلق تجد أن المسيري حكم بالسلب المطلق على العلمانية، و يكفي لها سلبا أنها نتاج غربي مادي لا علاقة له بالروح فالروح شرقية كما يبدو، لكننا سنتجاوز الاختصار لنمضي في التفصيل الممكن مع نقد المسيري (الناقد الأبرز للعلمانية) و الذي يُنظِّر من طرف خفي للدولة الدينية مخلوطة بنزعة "قومية". يقول الدكتور المسيري:
إن المصطلح الذي تصور هوليوك أنه محايد، ليس محايدا تماما، فهو يشير من طرف خفي إلى رؤية شاملة للكون "أنظر العلمانية الشاملة ج 1 ص 54"، و إلى منظومة قيمية انسلخت عن الإيمان الديني و تبنت الطرق المادية، فهل تبنى هوليوك نموذجا ماديا شاملا دون أن يدرك هو نفسه ذاك، مع أنه تصور أنه سيترك الإيمان الديني و شأنه؟ (و هو أمر ـ بطبيعة الحال ـ مستحيل في هذا الإطار الشامل)" المصدر نفسه ص 14
إن النظرية الشاملة التي يحدثنا عنها المسيري لا يمكن أن تكون كذلك في ظل منظومة الغرب القائمة على حرية الاختيار، فالعلمانية كونها شأنا دنيويا محدودة بحدود الدنيا و هذا العالم و هي لا تدخل ضمن الفلسفة الماركسية مثلا التي أستطيع أن أصفها بالدين المادي، فالعلمانية الغربية تتسم باعتراف بالدين كون الدين يُمارس ضمن إطار الحرية و جعله جزءا من الإسهام في المجتمع و بناء الفرد و الأسرة، و لا مجال لإنكار الدور الكبير الذي تقوم به الكنيسة في الدول الغربية كأمريكا و بريطانيا، لكن طرح هوليوك لا يتعدى الجانب المادي من الإنسان و لا أحسب أن أحدا يستطيع أن يزعم أن الإنسان ليس مادة بالدرجة الأولى، فمشكلات الحياة و توفير حاجات الإنسان الغريزية و الاجتماعية و مستلزمات العيش الكريم كلها أمور تتعلق بالجانب المادي، تبقى مسألة المباحات و المحظورات التي تختلف من دين إلى آخر، و المسيري منذ البداية يطرح العلمانية كـ"نقيض" لما يسميه "الدين" و كأن الدين كائن متكامل واضح المعالم و الحدود و أنه وحدة واحدة، و هذا طبعا ليس صحيحا.
 
Email: sohel_writer72@yahoo.com
Web: www.sohel-writer.i8.com

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق