يتناول الباحث المتخصص في الشأن القبطي هاني لبيب في كتابه "الكنيسة المصرية.. توازنات الدين والدولة" الصادر عن دار نهضة مصر للنشر تفاصيل العلاقة بين الكنيسة كواحدة من أهم مؤسسات الدولة المصرية، وبين الدولة المصرية التي تقع هذه الكنيسة تحت مظلتها الوطنية والسياسية.. فيناقش العديد من القضايا الخلافية السياسية على غرار: جماعات الضغط السياسي، والعلمانيين المسيحيين المصريين، والقضايا الجدلية المسيحية – المسيحية على غرار:الطوائف المسيحية، والمنشقون، والقضايا الجدلية الطائفية على غرار: بناء الكنائس، وحرية العقيدة. فضلاً عن تلك العلاقة الملتبسة بين التيارات الإسلامية والمواطنين المسيحيين المصريين. لينتهي برؤية حول بعض القضايا المستقبلية مثل المشاركة السياسية للمواطنين المسيحيين المصريين، وقضية البابا القادم.
ويدعم الكاتب رؤيته بالعديد من الشهادات والملاحق ذات الدلالة حول علاقة الكنيسة بالدولة، بالإضافة إلى العديد من الوثائق الهامة.. التي ينشر الكثير منها للمرة الأولى، حيث تطرق إلى الروايات التي تتردد حول أن البابا كبرلس عمل معجزة مع الرئيس عبد الناصر وأيضا الرواية التي تقول عن شفاء البابا كبرلس لابن أو ابنة عبد الناصر، مشيرا إلى أنه إلتقى المتنيح الانبا غريغوريوس، أسقف البحث العلمي، وحكى له كيف بدأت العلاقة بين البابا كبرلس وعبد الناصر، من خلال مقابلة الإمبراطور هيلاسلاسى للبابا كبرلس وانحنائه له وهو ما جعل "عبد الناصر" يدرك قيمة البابا ودور الكنيسة المصرية في علاقة الدولة بأثيوبيا. وجاءت فترة الرئيس السادات وحدث الصدام بينه وبين البابا شنودة وحدد إقامته في الدير، وتميزت هذه الفترة كونها علاقة شخصية بين البابا والرئيس وليست علاقة بين الكنيسة والدولة، فعندما تتوتر العلاقة بين الرئيس والبابا تتوتر العلاقة بين الدولة والأقباط في مصر. فالكنيسة المصرية مع بداية عصر السادات تم اختزال المواطنين المسيحيين في الكنيسة، وتم حصر المسيحيين في شخص البابا، وبالتالي فأي مسيحي مصري يواجه مشكلة أصبح لديهم قناعة أن مشاكلهم لن تحل إلا عن طريق الكنيسة وهو ما أدى إلى قوقعتهم
وأشار لبيب إلى أنه في عهد الرئيس السابق مبارك، تحول الملف القبطي إلى شكل مؤسسي ولكن تديره مباحث أمن الدولة، وليس ملف وطني أو سياسيي للتعايش المشترك، وشدّد على أن مشاكل المسيحيين بعد الثورة مازالت تحل كونهم رعايا وليسوا مواطنين ولازالت تحل المشاكل بجلسات "التهريج العرفي"، مشيرًا إلى أنه لو ثبت اتهام اى رجل دين في التوترات الطائفية وتم معاقبتهم لم تكن تتطور الأمور.
وأكد لبيب الحاجة الماسة إلى دولة قانون ناجز وعادل يطبق على الجميع وتوعية على المدى الطويل.
يطرح لبيب مواصفات البابا القادم الخاصة والعامة من واقع الدور المنوط القيام به في ظل زخم الميراث التاريخي الهام والضخم للبابا شنودة الثالث، وذلك على النحو التالي: أولاً المواصفات الخاصة: أهمية أن يكون البابا القادم من الشخصيات المعروفة ليس في الداخل فقط، بل وفي الخارج أيضاً.. خاصة بين المهاجرين المسيحيين المصريين.. ليكون بمثابة نقطة الالتقاء التي تجمع كافة الأطراف. ولكي لا يبدأ عهده بتحفظات وافتراضات تحكمها عدم المعرفة به. وهو ما حدث مع البابا شنودة الثالث نفسه حيث كان ضمن عدد من الشخصيات الشهيرة بجوار البابا الراحل كيرلس السادس.. فكان هناك الراحل الأنبا غريغوريوس والأنبا صموئيل (الذي اغتيل في حادث المنصة مع الرئيس أنور السادات سنة 1981). مما كان له أثر كبير في دعمه ومساندته من قبل العديد من المواطنين المسيحيين المصريين.
أعتقد في أهمية أن يسبق ما سبق التأكيد على صعوبة وخطورة أن يأتي على كرسي البابوية راهب من الصحراء غير معروف لدى المجتمع، ومنقطع ليس فقط عن أحوال الدنيا، بل والدين أيضاً، في تفاعله مع القضايا التي ترتبط بشكل مباشر بالحياة اليومية، وأن يكون مطلعاً على الخريطة السياسية في الداخل من تيارات فكرية وسياسية ومجتمع مدني لكي يكون للكنيسة دوراً وطنياً في دعم نهضة هذا الوطن. بالإضافة لمعرفته بسير العلاقات الدولية خاصة في القضايا التي تعد محط اهتمام وأولويات النظام المصري على غرار القضية الفلسطينية أو قضية تدويل هموم المواطنين المسيحيين المصريين ومشاكلهم أو قضية علاقة الكنيسة بالمهاجرين المسيحيين المصريين، وأن يكون صاحب منطق فكري في قدرته على الفهم الديني للقضايا الاجتماعية ذات الدلالات الدينية، وذلك على غرار: علاقة الكنيسة بالدولة أو بالحديث عن قضايا: الأحوال الشخصية، والعولمة، والاستنساخ.
أما المواصفات العامة فتتمل في أن يكون له توجه ملحوظ نحو الارتقاء بالمستوي العلمي لرجال الدين المسيحي.. ليس فقط من حيث كونهم حاصلين علي شهادات جامعية. فهذا في اعتقادي غير كافي الآن، ولابد من العمل علي زيادة درجة وعيهم واستيعابهم للمتغيرات الحديثة وموقف الدين منها، وعلي سبيل المثال: العولمة، والإنترنت، والاستنساخ، والهندسة الوراثية. أضف إلى ذلك الوعي بالقضايا السياسية على مستوى العالم، وهو ما ينسحب على الاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا المعاصرة. وبالتالي، أعتقد إننا أصبحنا في أمس الحاجة لتفعيل دور أسقفية التعليم وأسقفية الدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي علي أسس منهجية من جانب، وعلى أساس استقلاليتهم عن مسؤوليات البابا من جانب آخر، لأنه من خلالهما يمكن الارتقاء بالكنيسة بما يتناسب مع العصر ودون التخلي عن الثوابت الروحية والمعتقدات الإيمانية أو إهمالهما.
* أن يعمل على تفعيل ومساندة كوادر من العلمانيين (أي من غير رجال الدين) داخل الكنيسة وهو ليس موجوداً الآن بالشكل الذي نتصوره. وهذا أمر هام لأن الكنيسة تقوم علي ركيزتين، هما: رجال الدين والعلمانيين، ولا يوجد تعارض بين مهام كل منهما أو عمله. بالإضافة إلى أن هذا يساعد علي تجديد حيوية الكنيسة وفاعليتها.. خاصة في ظل التحديث الإداري لها كمؤسسة دينية. وهو ما يترتب عليه – أيضاً - تفعيل دور المجلس الملي في الفترة القادمة بعد تغيير اسمه الذي يعود إلى مفاهيم السلطنة العثمانية.
* أن يقوم بالتأكيد علي أن الكنيسة هي المؤسسة الدينية والروحية الرسمية للمواطنين المسيحيين المصريين، ولكنها لا تمثلهم سياسياً. بمعنى أن الدور الروحي والوطني للكنيسة هو أمر ضروري وفائق الأهمية (وعلي سبيل المثال موقفها من: قضية القدس وقضية الحماية الدينية). ولكن الدور السياسي للكنيسة هو أمر غير مقبول ومرفوض، ولكنه مقبول لأبنائها من العلمانيين كمواطنين مصريين.. أي بمعنى أشمل فصل الدين عن الدولة تماماً.
* ويترتب على ما سبق، أن يكون البابا وبالتبعية الكنيسة هي المساند والداعم الذي يربط الفرد بالوطن والدولة، وعليه يتحدد مفهوم الانتماء ومعانيه. وهذا لا يعنى بالطبع إننا ننكر هنا الأهمية القصوى للانتماء للدين وللمؤسسة الدينية، لأن هذا الانتماء يمثل واحداً من أهم مرتكزات العقل الجمعي المصري في منظومته الفكرية. غير إن الخطر الشديد أن تكون المؤسسة الدينية سواء كانت مسيحية أو إسلامية هي الوسيط بين المواطن المصري والدولة. وما يمكن أن ينتج عن هذا من حدوث خلل أو شرخ في منظومة انتماء الفرد لوطنه، بحيث نجد أنفسنا في مأزق وطني حينما تصبح المؤسسة الدينية هي البديل الشرعي للوطن والدولة.
* وبناء على ما سبق، أكرر على اعتقادي في أهمية التأكيد على أنه لا يوجد شخص محدد يتكلم باسم المواطنين المسيحيين في مصر لأنه في المسيحية يمثل البابا رأس الكنيسة حيث يعاونه العديد من الأساقفة الذين يشكلوا في مجملهم "المجمع المقدس" الذي يقوم بدور السلطة الدينية العليا للكنيسة وللمواطنين المسيحيين المصريين، وبالتالي فالسلطة هنا هي سلطة دينية فقط، وليست سلطة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية (وهو دور غير مطلوب).. مع تأكيدنا علي التمييز بين كل من: الانتماء السياسي والوطني، وبين الموقف والعمل السياسي أي الفصل بين الموقف السياسي الناتج عن فهم مجريات أمور الوطن والعمل السياسي كرد فعل للفهم السياسي.
* وإذا كنا نؤكد على أهمية أن يكون هناك موقفاً رسمياً وطنياً للمؤسسة الكنسية المسيحية في مصر.. غير أننا نرفض تماماً الرأي الذي يؤكد عليه البعض باعتبار البابا هو الممثل للأقباط عند كل منعطف يمس الوحدة الوطنية.. على اعتبار أن التعامل مع فرد - ممثلاً لجماعة – يجنب الكثير من متاعب التعامل مع القاعدة العريضة، وهو ما يكرس – الأمر الجلل – بأن يتحول البابا إلى زعيم سياسي. وأعتقد أنه أمر يرفضه البابا نفسه قبل غيره.. لما يترتب عليه من تسييس الدين والمصالح. وهو ما يجعلنا نؤكد على فصل الدين عن السياسة، وعدم التداخل بينهما. وهذا لا يعني مطلقاً أن يعتزل الدين المجتمع.. فسيظل الدين بمثابة الحصن الأول لكل ما يهدد القيم والمبادئ الإنسانية السامية.. بالتنبيه لإقرار الحق والعدالة.
* على هذا النحو، تترك الكنيسة للمواطنين المسيحيين المصريين الحرية الكاملة في قيامهم بأعبائهم الوطنية، دون أن توحي لهم بالتزام اتجاه سياسي معين، فيتحرك المواطن المسيحي المصري بحرية تامة حسب نشأته الفكرية والثقافية وتوجهاته السياسية، ومن ثم تظل الكنيسة فوق كل ذلك تعمل في اختصاصها الروحي والديني فقط.
*الاهتمام بالدور الرائد لمدارس الأحد لأنها كانت بمثابة البوتقة التي أفرزت جيل الجامعيين الذي صار فيما بعد يتولى قيادة الكنيسة (بداية من البابا شنودة الثالث نفسه)، وهو ما يحتم علينا الآن أن يكون هناك نوعاً من التقييم لهذه التجربة الهامة والفريدة، لتطويرها للأفضل في ظل الدور المفترض أن تقوم به مدارس الأحد في التنشئة التربوية والدينية والوطنية على قيم الولاء والانتماء والمشاركة.
ويتسم الكتاب بمعالجته لقضية خطيرة، وهي صناعة القرار المتعلق بالتوترات الطائفية .. هو أمر شائك جداً لما يراعيه من أبعاد كثيرة متشابكة ومتداخلة ومتباينة.. ربما يكون أبسطها هو الحل الأمني السريع. إن ملف العلاقات المسيحية – الإسلامية.. كان في الكثير من الأحوال مجرد ملف أمني في مصر حسب تأكيد الكتاب.
وعلى الرغم من أن الحلين "الأمني والديني" يبقيان أبعد الحلول ملائمة.. فالأول "الأمني" يعيد السيطرة على اللحظة (فيقي ويعفي) المجتمع من المصادمات؛ غير أنه يبقى حلاً مؤقتاً طالما ظلت أسباب الأزمة وجذورها كما هي دون حل أو تحليل.. لأنه غير معني بالمستقبل البعيد بقدر حرصه على استقرار الأحوال في لحظتها . أما الثاني (الديني) يظل حلاً محفوفاً بالمخاطر.. لأنه يملك حلولاً عملية، بل قد يسعى لتأكيد التمايز بما يقدمه من تبريرات تعزف على أوتار القيم، والنصوص الدينية أحياناً.
وقد شهدت الفترة الأخيرة من خلال خبرة التعامل مع التوترات الطائفية طيلة الربع قرن الأخير بوجه خاص.. ما يؤكد على أهمية أن يكون الحل دائماً قائم على حلول وطنية.. وهي صمام الآمان الأساسي ضد الطائفية البغيضة. فالتوترات والأزمات الطائفية في العلاقات المسيحية – الإسلامية تحتاج لرؤية وطنية تهتم بالحفاظ على مستقبل هذه العلاقات في ظل كل ما يدور حولنا داخلياً وخارجياً.
ويطرح الكتاب بوضوح أن المشكلة الأساسية لكل هذه النوعية من الأزمات هي الأمية الدينية التي لا يعاني منها المصريين مسيحيين ومسلمين فحسب، بل العديد من رجال الدين من المسيحيين والمسلمين أيضاً. وذلك بعد أن غابت هيبة الدولة في كثير من المواقف والأزمات.. بل أنها في بعض الأحيان تغاضت عن أخطاء كثيرة وغابت في أوقات أخرى.. إن الخلافات الصغيرة يمكن أن تكبر حين يغيب الحسم.. والتجاوزات الصغيرة يمكن أن تصبح أزمات أكبر بالتهاون والإهمال.. ولهذا ينبغي أن تكون الدولة المصرية أكثر حسماً في مواجهة هذه القضايا. يضاف لذلك أن الدولة في معظم الأحيان تلجأ إلى حلول أمنية في قضايا هي أقرب للفكر، وكان ينبغي أن يكون الحوار - وليس الأمن - هو وسيلة الإقناع والاقتناع.
وفي هذا الصدد، يطرح الكاتب العديد من الخطوات لبناء الثقة بين المواطنين المسيحيين المصريين وبين وطنهم مصر، وذلك على غرار:
- كود بناء دور العبادة "المسيحية والإسلامية".
- قانون منع التمييز.
- قانون حرية العقيدة "تغيير الدين".
- قانون الأحوال الشخصية الموحد للطوائف المسيحية.
- تطوير التعليم، وضبط الأداء الإعلامي.
كما يمكن الاستغناء عن كل ما سبق، من خلال صياغة دستور مدني ليبرالي مصري جديد. وذلك على اعتبار أن التسامح الحقيقي هو أساس صناعة القرار المتعلق بالتوترات الطائفية، وهو ما يعني أن يلتزم الجميع السماح لبعضهم بممارسة مختلف عباداتهم الدينية باعتبارها حقاً خالصاً لهم.. وليس تفضلاً عليهم من أحد. أما خارج هذا الإطار.. فينبغي أن يسود بين الجميع العدل ومجموعة القيم المرتبطة بالتسامح، ومنها: الاحترام والصدق والسلام والتعاون والأمانة. وذلك على غرار: نموذج نقل الكنيسة الإنجيلية بمحافظة الأقصر من مسار طريق الكباش الأثري إلى مكان آخر بالاتفاق التام بين رئاسة الكنيسة الإنجيلية والمحافظة التي خصصت الأرض لبناء الكنيسة الجديدة، كما تحملت تكلفة البناء.
تأتي أهمية هذا الكتاب الذي تجاوزت صفحاته الخمسمائة صفحة بالكثير من الأحداث والمواقف التاريخية التي تؤرخ لعلاقة الكنيسة المصرية بالدولة منذ ثورة يوليو 1952 وإلى الآن. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت | عدد التعليقات: ٠ تعليق |