بقلم / د. عبدالخالق حسين
دعا رئيس الوزراء العراقي، السيد نوري المالكي يوم 7/3/2009، العراقيين إلى المصالحة باعتبارها مرحلة مستمرة، وذلك بعدما أكد استعداده لمصالحة الذين "اضطروا إلى العمل مع النظام السابق" وطي «صفحة هذا الجزء المظلم من تاريخ العراق». وقد فسر البعض هذه الدعوة أن السيد المالكي قد رفع شعار الزعيم الوطني الشهيد عبدالكريم قاسم: (عفا الله عما سلف)، ذلك الشعار الذي توخى الزعيم منه بادرة خير في نشر روح التسامح في مجتمع تشرب بروح العنف والانتقام والثأر البدوي طوال تاريخه المكتوب.
ومنذ أن أطلق السيد المالكي دعوته هذه، برزت ردود أفعال متباينة من قبل أبناء الشعب العراقي، والمعلقين السياسيين، بعضهم اعتبرها بادرة شؤم لعودة البعث إلى السلطة مرة أخرى. أرى من حق العراقيين أن يتوجسوا الخوف والحذر من هذا الشعار (عفا الله عما سلف) الذي يعتبرونه مسؤولاً عن كوارث العراق، لأنه استغله البعثيون ومعهم التيار القومي العروبي في عهد الزعيم قاسم، فتمادوا في غيهم وارتكبوا المزيد من الجرائم في بث الرعب في صفوف الشعب العراقي، إلى أن تكللت جرائمهم بأبشع جريمة في تاريخ العراق ألا وهي، انقلابهم الأسود في 8 شباط 1963 وإسقاط أنزه حكم وطني عرفه العراق، الانقلاب البعثي الأول الذي أدخل العراق في نفق مظلم وسلسلة متواصلة من الكوارث الكبرى لم يتخلص منها الشعب إلى يومنا هذا.
على أية حال، ما فهمته من تصريحات السيد المالكي أنه دعا إلى المصالحة مع الذين تعاونوا مع النظام السابق من الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء الشعب العراقي. وإذا كان المقصود بالمصالحة بهذا المعنى، فكلنا معها وندعو إليها، لأن الغرض هو فعلاً طي الصفحات السوداء من تاريخ العراق وفتح صفحة جديدة، والبدء بالبناء والإعمار والاستمرار في العملية السياسية وبناء الدولة العراقية العصرية على أسس المواطنة والديمقراطية ودولة القانون، تعامل جميع مواطنيها بالتساوي في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص دون تمييز قومي أو ديني أو مذهبي أو جندري (جنسي). فنحن نعرف أن مئات الألوف من العراقيين اضطروا للانتماء إلى حزب البعث لا عن قناعة، بل ليحموا أنفسهم وعوائلهم من بطش النظام ووالحصول على وظائف أو دراسة في جامعة... الخ والعيش بسلام. وعلى هذا الأساس فكان من النادر أن تجد عائلة عراقية لم يكن أحد أبنائها منتمياً إلى حزب البعث. والغرض من إنهاء البعث والتخلص من تركته الثقيلة هو العودة إلى الحياة الطبيعية تضمن لكل مواطن الكرامة والأمن والعيش بسلام.
لذلك وحتى (قانون اجتثاث البعث) الذي يشتمه البعض، كان غرضه، وكما صرح الدكتور أحمد الجلبي، أحد دعاة ذلك القانون، أن الغرض منه كان حماية البعثيين الذين لم يسيئوا إلى الشعب، وفعلاً استفاد من ذلك القانون مئات الألوف من البعثيين السابقين لمجرد إعلانهم ترك صفوف الحزب واستعدادهم في المساهمة لدعم النظام الديمقراطي. وهذه العملية جارية ويدعمها كل عراقي يريد الخير للعراق.
أما إذا كان الغرض من دعوة السيد المالكي هو عودة البعثيين إلى العملية السياسية كحزب سياسي، فإن هذه الدعوة هي بداية إلغاء جميع ما تحقق للشعب من مكاسب منذ سقوط النظام الفاشي يوم 9 نيسان/أبريل 2003، وإهانة لأرواح الملايين من الشهداء الضحايا وذويهم، وستكون نتائجها كارثة ماحقة على الشعب العراقي وشعوب المنطقة.
ماذا يعني البعث للعراقيين؟
البعث في نظر العراقيين يعني الاغتيال السياسي والتآمر والانقلابات العسكرية والظلم والاضطهاد والقهر والاستلاب، والتعذيب وإجلاس المعارض على الخوازيق والصوبات الغازية، وهتك الأعراض، والتغييب في السجون والمعتقلات، وتذويب المعارضين في أحواض التيزاب، وزوار الفجر والاختطاف والاختفاء وإعادة المختطف بعد أشهر أو سنوات في أكياس الزبالة مهشماً، مع أوامر بعدم إقامة مراسيم العزاء، والتحذير بإنزال أشد العقوبات في حالة مخالفة هذه الأوامر الجائرة.
البعث بالنسبة للعراقي يعني القتل وحروب إبادة الجنس، والمقابر الجماعية، والمجاعة والحصار، والكيمياوي وحلبجة وعمليات الأنفال، وتجفيف الأهوار والمسطحات المائية، وتدمير البيئة، وتشريد خمسة ملايين في الشتات، وتهجير مئات الألوف من الكرد الفيلية والشيعة العرب بتهمة التبعية لإيران بعد مصادرة ممتلكاتهم، وتجريدهم من جميع وثائقهم التي تثبت عراقيتهم وشهاداتهم الدراسية، بما فيها وثيقة إجازة السياقة، وحجز شبابهم في المعتقلات وإبادتهم فيما بعد، وإلقاء المهجَّرين على الحدود العراقية-الإيرانية المزروعة بالألغام أيام الحرب العبثية،
البعث بالنسبة للعراقي يعني إرغام كل مواطن أن يتجسس على غيره من المواطنين يحصي عليهم أنفاسهم وحركاتهم، ويتجسس حتى على أفراد عائلته، كما ويعني تمزيق شمل العائلة بإرغام الأزواج تطليق زوجاتهم لأسباب طائفية قذرة بتهمة التبعية لإيران. وإذا كان هذا السلوك البعثي العنصري ليس فاشياً وعنصرياً فليت شعري ما هي العنصرية والفاشية؟
البعث بالنسبة للعراقي يعني تفتيت النسيج الاجتماعي وتخريب الإنسان وتدمير الاخلاق، والردة الحضارية وإحياء القبلية وقيمها البدوية، وتحويل العراق من أكبر بلد فيه غابات النخيل ومصدِّر للتمور إلى محرقة لهذه الغابات، ومن بلد عائم على بحر من النفط إلى أفقر بلد في العالم.
وهناك قائمة طويلة من المفردات السوداء التي بمجموعها تعطي المعنى الحقيقي، وترسم الصورة الحقيقية لحزب البعث في مخيلة الإنسان العراقي عندما يتذكر اسم هذا الحزب الفاشي المجرم.
لذلك أعتقد جازماً أنه إذا كان القصد من المصالحة هو مشاركة البعثيين كحزب سياسي، فهذه ليست مصالحة بل دعوة لإنقلاب 8 شباط جديد وإعادة مسلسل الكوارث مجدداً في العراق لدورة دموية جديدة أشد وأدهى وأبشع من جميع الكوارث الماضية.
من المسؤول عن جرائم البعث؟
يحاول البعض تبرئة حزب البعث من جميع الجرائم التي وقعت على الشعب خلال الخمسين سنة الماضية، وإلقاء تبعتها على صدام حسين فقط. وهذا خطأ. لقد ذكرت مراراً وتكراراً أن صدام حسين هو نتاج هذا الحزب. فالصراع الذي جرى بين صدام حسين وأتباعه في الحزب من جهة وبين الجناح الآخر المنافس له من جهة أخرى، لم يكن صراعاً بين الخير والشر، بل كان صراعاً بين الشر والشر، وفي هذه الحالة ينتصر الجناح الأكثر شراً. ألم يكن فؤاد الركابي هو من خطط عملية محاولة اغتيال الزعيم عبدالكريم قاسم عام 1959 وصدام كان مجرد مشارك فيها؟ وهل البعث في انقلاب 8 شباط 1963 كان بقيادة صدام حسين؟ وهل ذلك البعث الذي قاده المجرم علي صالح السعدي وأرتكب أبشع الجرائم بحق الوطنيين العراقيين عام 1963 كان أفضل من الحزب الذي قاده صدام حسين بعد انقلاب 1968؟ وهل كان ناظم كزار يمثل عنصر خير في حزب البعث لأن قتله صدام حسين؟
كلا أيها السادة. البعث هو حزب الجريمة المنظمة منذ تأسيسه عام 1947، وصدام هو نتاج أيديولوجية البعث العنصرية الإجرامية المعادية للإنسانية والديمقراطية، وتؤمن باستلام السلطة عن طريق التآمر والانقلابات العسكرية فقط. لقد انتصر صدام على منافسيه في حزب البعث لأن سايكولوجيته وشخصيته وطبيعته الإجرامية كانت الأقرب والأكثر انسجاماً وتماهياً وتطابقاً مع أيديولوجية حزب البعث وتوجهاته. ولذلك أيده مؤسس الحزب، المقبور ميشيل عفلق إلى آخر يوم في حياته.
أما جناح البعث المنشق عن صدام والمؤيد للبعث السوري، فهو لا يقل شراً عن الجناح المؤيد لصدام حسين، بدليل أن البعثيين المؤيدين للنظام السوري مازالوا يمجدون انقلاب 8 شباط 1963 الأسود. وإذا ما تظاهروا بتأييدهم للديمقراطية الآن، فذلك لأنهم خارج السلطة وخارج العراق وأنهم ضعفاء، وما أن يعودوا إلى السلطة، أو حتى مجرد مشاركة بسيطة في الحكم، فسرعان ما يعودون إلى طبيعتهم الإجرامية وديدنهم في الدس والتآمر والاغتيالات السياسية، والانقلابات العسكرية، وسيعملون كالخلايا السرطانية في تدمير الجسد العراقي، وسينقلبون على السلطة الديمقراطية ويتنكرون لها، لأنهم لا يؤمنون بالديمقراطية من الأساس، وتاريخهم حافل بالإجرام.
المصالحة مع من؟
كما بينا مراراً وأشرنا أعلاه، أنه من المفيد إعادة جميع البعثيين الذين لم يتورطوا بالجرائم الكبيرة بحق الشعب بعد أن يعتذروا للشعب ويتعهدوا بدعم الديمقراطية، كما عملت مئات الألوف منهم، وهم الآن مواطنون مسالمون. ولكن قبولهم كحزب سياسي منظم فدعوة لكارثة جديدة ودليل على أن القادة السياسيين الجدد لم يتعلموا من تاريخ العراق الحديث وكوارثه.
ولكن المشكلة ليست فيما إذا يُسمَح لحزب البعث بالعمل العلني والمشاركة في العملية السياسية في العراق الديمقراطي، بل ومن حسن حظ الشعب العراقي، أن حزب البعث هو الذي يرفض الحوار والعمل السلمي في ظل نظام ديمقراطي، لأنه يعرف جيداً أن لا مستقبل له في النظام الديمقراطي، ولا يمكن أن يأتِ للحكم إلا عن طريق التآمر والانقلابات العسكرية، وإذا ما اغتصب السلطة، لا يمكنه الاحتفاظ به إلا عن طريق القمع والاضطهاد وإعلان دكتاتورية الحزب الواحد، وإلغاء التعددية، وخلق المشاكل للشعب ولدول الجوار. فهذا هو تاريخ البعث منذ أن سمعنا به بعَيْد ثورة 14 تموز 1958 وإلى الآن، سواء في العراق أو في سوريا.
ووفق تصريحاتهم، يعتبر البعثيون جميع مؤيدي العراق الجديد عملاءً لأمريكا، وأن الحكومات المتعاقبة المنتخبة منذ 9 نيسان/أبريل 2001، هي حكومات عميلة لا بد من إبادتها، وأن أي انتخاب يجري بوجود القوات الأجنبية هو انتخاب باطل. بينما التاريخ يؤكد أن أنزه الانتخابات في البلاد العربية هي تلك التي أجريت في ظل الاحتلال الأجنبي، سواء في العراق أو في مصر عام 1924، وما أن استلم الثورجية السلطة بالقوة حتى قاموا بتزييف هذه الانتخابات وسنوا رقم الفوز الدائم 99.99% للرئيس وحزبه الحاكم. ووفق منظور البعثيين ومن يؤيدهم، يمكن اعتبار جميع الانتخابات التي جرت في اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول الديمقراطية التي تتواجد فيها قوات أمريكية أو أجنبية أخرى، هي غير شرعية وباطلة وضد مصالح شعوبها.
ما انفك يطالب معظم السياسيين العراقيين، وبعض الجهات الأجنبية، بما فيها الإدارة الأمريكية الجديدة، السيد نوري المالكي بإبداء المزيد من المرونة وتقديم المزيد من التنازلات للمعارضين، السلميين والمسلحين، من أجل التعجيل في تحقيق المصالحة، والرجل يستجيب لهذه النداءات. ولكن من الجانب الآخر، نرى كلما قدم المالكي المزيد من التنازلات والتسهيلات، أمعن البعثيون ومن لف لفهم في المزيد من العنتريات والعنجهيات ضد الحكومة، وإظهار الرفض للمصالحة والإدعاء بأن رفضهم هو من منطق القوة!!
وتأكيداً لهذا الكلام وكما جاء في الأنباء: [" أعلن قيادي بارز في حزب البعث رفضه لأي حوار مع حكومة نوري المالكي، مؤكداً أن الحزب ينطلق في موقفه إزاء الحكومات المتعاقبة باعتبار أنها " تم تنصيبها من قبل المحتل ولا تمثل بأي حال من الأحوال إرادة الشعب العراقي ومصالحة الحقيقية". وأضاف المتحدث الرسمي خضير المرشدي في تصريح للجزيرة نت أن "الحزب يرى في هذه الحكومات أدوات لتنفيذ مشروع الاحتلال الطائفي التقسيمي"] (كذا).
في الحقيقة إن قادة حزب البعث يطلقون هذه التصريحات العنترية الرافضة كتغطية لعجزهم ولحماية ماء الوجه، لأنهم يعرفون مسبقاً أنهم مرفوضون من الشعب العراقي، وأنهم إذا قبلوا بدعوة المالكي فسوف يُفضحون ويكشفون حجمهم الحقيقي أمام الشعب والعالم. ولذلك صرح أحدهم في إحدى الفضائيات أنه ليس هناك ضمان لسلامتهم (من الشعب طبعاً) فهم يعرفون مسبقاً أنهم مرفوضون ومنبوذون من الشعب وخاصة من قبل ذوي الضحايا الذين سوف ينتقمون لضحاياهم. وعلى هذا الأساس ليس بإمكان أية قوة أو جهة ضمان سلامة البعثيين في العراق. ولذلك يعلن البعثيون رفضهم لدعوة المالكي والعودة إلى العراق للمشاركة في العملية السياسية.
فحزب البعث بالمعنى السياسي الحقيقي ليس حزباً سياسياً بل هو عصابة للجريمة المنظمة وقد سخر جميع الأفكار الشريرة من تراث عربي وإسلامي وعالمي لما يخدم أغراضه الشريرة. ولذلك أطلق البعثي السابق حسن العلوي على نظام حكم البعث (دولة المنظمة السرية) وهي أصدق تسمية لهذا التنظيم. ولذلك يفضل حزب البعث العمل السري في جميع الأحوال وحتى وهو في السلطة. لأنه لا يمكن للبعثيين أن يقبلوا بالعمل بسلام مع بقية الأحزاب السياسية في نظام ديمقراطي. فالديمقراطية و أيديولوجية البعث متضادتان على طول الخط.
كما ويطالب البعض عن حسن نية أو بسوئها، الاستفادة من تجربة جمهورية جنوب أفريقيا بعد انهيار النظام العنصري والتعامل مع حزب البعث والجماعات الإرهابية الأخرى بنفس الطريقة التي جرت في بريتوريا. أقول ليس هناك أي مجال للمقاربة والمقارنة بين البلدين للأسباب التالية:
الحزب الحاكم في النظام العنصري في بريتوريا بقيادة ديكلارك، وتحت ضغط النضال الوطني بقيادة نيلسون مانديلا، استجاب لمتطلبات المرحلة واعترف بأخطائه، واعتذر للشعب وطلب الغفران منه، وتحول من نظام عنصري إلى نظام ديمقراطي. بينما حزب البعث لم يبادر بأي تغيير، بل رفع السلاح عندما حصل التغيير عنوة، ومازال يقود الإرهاب والتخريب بالتحالف مع جماعة القاعدة الإرهابية ضد الشعب العراقي، ويعمل على إلغاء جميع ما تحقق لهذا الشعب من مكتسبات ديمقراطية، ويحاول إفشال العملية السياسية عن طريق الإرهاب ونشر الذعر والرعب بين الشعب وإثارة الفتن والحرب الطائفية وتدمير المؤسسات الاقتصادية لوضع الشعب أمام الأمر الواقع بأن أما أن يحكمه البعث أو الفناء. ولحد الآن يرفض قادة البعث أي سلام مع الشعب العراقي. ولذلك لا يمكن استنساخ تجربة جنوب أفريقيا أو حتى التجربة الأيرلندية في العراق. فحزب البعث هو حزب فريد من نوعه، بفاشيته وجرائمه وأيديولوجته وتاريخه الدموي.
خلاصة القول: أود أن أطمئن جميع الأصدقاء الذين راسلوني معربين عن قلقهم الشديد من احتمال عودة البعث للسلطة، وأنه قد تسلل إلى مرافق الدولة كتمهيد للعودة...، وأن مبادرة المالكي بادرة شؤم لعودة البعث إلى السلطة... الخ. أقول لهؤلاء الأصدقاء الأعزاء أن الجنِّي الديمقراطي العراقي قد خرج من القمقم، والشعب العراقي قد ذاق طعم الحرية والحياة بلا حزب البعث، لذلك نؤكد أن حزب البعث، وبسبب تاريخه الدموي ومعرفة العراقيين له على حقيقته المرعبة، أنه بالنسبة لهم يمثل الشر المطلق، ومرفوض بالمطلق، ولا يمكن له العودة في أي نشاط سياسي، ومحكوم عليه تاريخياً أن ينتهي، وقد انتهى فعلاً وسقط في أقذر مزبلة للتاريخ وإلى الأبد. |