بقلم: كمال غبريال
"إذا كان النور الذي فيكم ظلاماً، فالظلام كم يكون؟"
الدستور هو الوثيقة الأولى أو الأساسية، التي تقوم عليها حياة أي أمة حديثة، فهو بمثابة عقد اجتماعي، بما يتضمنه من أسس وخطوط عريضة اتفق عليها الجميع، لتقوم عليها حياتهم المشتركة، وبقدر الإجماع على الرضى على بنود الدستور، بقدر تماسك المجتمع، بما ينعكس مباشرة على فاعليته وحيويته، وعلى كفاءته في توفير نوعية الحياة المنشودة لأفراده وسائر مكوناته، سواء كانت مكونات عرقية أو ثقافية أو دينية أو اقتصادية. . ويحتاج الدستور إلى التعديل أو التغيير، إذا تضاءل الإجماع أو الاتفاق حوله، نتيجة للتطورات والمتغيرات في معالم الحياة والحضارة الإنسانية، أو في حياة الوطن وظروفه المختلفة، تلك التغيرات التي تجعل الثوابت والقواعد التي مكنتنا في الماضي من الفاعلية والتقدم تغدو اليوم معيبة، ومعوقة لنا في حياتنا وسعينا.
الدستور إذن يصف الحالة النموذجية التي من المفترض أن تكون عليها حياة أي شعب، وهو معيار القياس لأي تجاوزات أو انحرافات عن ذلك النموذج المثالي. . عليه تقاس شرعية ما يسن من قوانين، وشرعية أي إجراءات أو قرارات رسمية، بالإضافة بالطبع إلى شرعية كل ما يجري من ممارسات في البلاد عموماً. . ليكون الدستور هكذا، هو الملجأ والملاذ لكل من تنتهك حريته وتهدر حقوقه الوطنية والإنسانية. . فإذا كانت هذه الوثيقة المرجعية هي متناقضة في ذاتها، رغم أن عملها هو الفصل في تنقية ممارساتنا العملية من التناقضات والتجاوزات، نكون هنا بإزاء حالة هزلية ومأساوية معاً.
المادة (1) من الدستور تنص على: "جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة, والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل علي تحقيق وحدتها الشاملة."
وهذا جميل رغم إلحاق وصف "العربية" باسم مصر، ونسبة شعبنا إلى أمة مزعومة يقال لها "الأمة العربية"، الأمر الذي لا نستطيع أن ندرجه إلا في سياق الادعاء والتضليل، لشعب هو أقدم شعوب العالم تاريخاً وحضارة.
لكن بعدها مباشرة تأتي المادة (2) والتي تنص على: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع."
هذا النص يحدد ديناً للدولة، وليس مجرد تحديد دين لأغلبية أو أقلية من مواطنيها، رغم أن الدولة شخصية اعتبارية، مكونة من أجهزة تؤدي واجبات محددة بلوائح وقوانين، ولا شأن لها بالدين الذي مناطه الإيمان بالخالق وباليوم الآخر، وبفرائض عبادته، تلك التي يؤديها الأفراد، وليس الأجهزة ذاتها، وإن كان لعبارة "دين الدولة" من معنى، فلن يكون إلا أن الانتماء الأصيل لهذه الدولة يكون بناء على اعتناق دينها، وأن معتنقي أي أديان أخرى أو اللادينيين، هم ضيوف على الدولة أو ملحقين بها على أحسن الفروض، وأي تفسير لهذا النص يحاول التخفيف من حدة هذه الدلالة، لا يكون تفسيراً ملتزماً، وإنما مجرد تحايل وهروب من الدلالة الحقيقية للنص.
يتعارض نص المادة الثانية أيضاً مع المادة (40) التي تنص على "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة."
يترتب على هذا امتداد التناقض للمادة (5) :"يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور. وينظم القانون الأحزاب السياسية. وللمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية, وفقا للقانون, ولا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية علي أي مرجعية أو أساس ديني، أو بناء علي التفرقة بسبب الجنس أو الأصل."
الدستور إذن يمنع العمل السياسي على أي مرجعية أو أساس ديني، فكيف يتسق هذا مع تحديد دين للدولة ذاتها؟
نلاحظ أن البرنامج السياسي الذي تتبناه الجماعة المحظورة، يتطابق تماماً مع التفسير الحقيقي الوحيد للمادة الثانية، فيما يتناقض بالطبع مع المادة الأولى والخامسة والمادة (40).
لإزالة هذا التناقض لابد من حذف المادة الثانية بكاملها، لتتوافق المادة الأولى مع المادة (40)، ويستقيم نص المادة (5)، لتكون مصر دولة قومية حديثة، يتطابق دستورها مع مفهوم دولة المواطنة، ومع مفاهيم ومواثيق حقوق الإنسان العالمية، والملزمة لمصر، بحكم توقيعها عليها، وبحكم وجودها كعضو فاعل في منظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
تناقض آخر بالدستور بين شطري مادة واحدة هي المادة (11)، والتي تنص على: "تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها في المجتمع، ومساواتها بالرجل في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية."
ذلك أن صلب المادة أي شطرها الأول مشروط بشطرها الأخير، وهنا نكون أمام احتمالين نحتار بينهما، الأول أن الشريعة الإسلامية تساوي فعلاً بين الرجل والمرأة في جميع المجالات، وفي هذه الحالة لا يكون ثمة داع للاشتراط بعدم الإخلال بالشريعة، حيث أن هذا الشرط يكون مفتقداً لمعنى جديداً يضيفه، والاحتمال الثاني أن الشريعة الإسلامية لا تساوي في جميع المجالات بين الرجل والمرأة، وهنا يكون التناقض أن يتحدث الشطر الأول بالمادة عن مساواة في جميع ميادين الحياة، ليأتي الشطر الثاني فيجعلها مساواة جزئية، وهكذا يفرغ نص الدستور عباراته بعضها البعض من معناها ومفاهيمها.
من المفهوم ألا تكون حياة شعبنا -كما هو حال جميع الشعوب- ليست نموذجية تماماً، ويكون السعي الدائم، هو لمحاولة الاقتراب من التصور النموذجي المفترض، والذي يحدده الدستور، الذي لا تعلو عليه في القيمة أو الشرعية أي وثيقة أخرى. . لكن أن يكون النموذج واجب الاحتزاء ذاته متناقضاً، فإن الصبر على هذا الوضع، إذا لم يكن راجعاً إلى انخفاض كبير في درجة الذكاء، يصل إلى حد البلاهة، فإنه لا مهرب من إسناده إلى صفة قد تكون مصرية صميمة، وهي "التواطؤ على الذات"، وهي التي تتيح تجاور المتناقضات، نهمل بعضها ونحتفي بالآخر بعضاً من الوقت، لنعود في أحيان أخرى لما كنا قد أهملناه، وبين هذا وذاك يتلاعب المتلاعبون، ويخرب المخربون.
هل يمكن لنا ولبلادنا والحالة هذه، أن نعيش حياة اجتماعية وسياسية، بل وأيضاً حياة اقتصادية سليمة، ونحن نسير على أرضية حافلة بشروخ ومتناقضات على هذه الدرجة من الخطورة؟
لصالح من هذا التناقض، إن لم يكن لصالح تجار الدين والدنيا، الذين يتفننون بالتلاعب بحياتنا، ويصل تلاعبهم إلى دستور حياتنا، فيضمنونه عبارات يتباهون بها أمام من يحاسبهم وفق معايير المواطنة وحقوق الإنسان، وفي نفس الوقت يحشرون في الدستور ذاته ما ينسفها، ولا يضرهم بل ربما يطربهم ويحقق مراميهم، أن نظل نتخبط ونتعثر في كل خطوة نخطوها، أو بالأصح نظل نراوح مكاننا، فيما كل شعوب العالم تعدو نحو مستقبل يحقق المزيد والمزيد من الرخاء لأبنائها؟
kghobrial@yahoo.com |