بقلم: زهير دعيم
أحبّ الأحياء والحارات الشعبيّة حُبًّا جمًّا ، أحبّها ؛ فهي تعيش في كياني ببساطتها وسذاجتها، وضوضائها ونظافتها أو قل عدم نظافتها.
فالكلّ يصرخ ويصيح ، فهذا الفاكهاني ينادي من بعيد وذاك بائع الذُّرة ، وذاك صاحب الكشك العتيق يرشّ الشارع بالماء ليدفع جيوش الغبار عن دكّانه ....خليط من الأصوات ؛ أصوات البشر والشجر تمتزج بأصوات الحمير تجرّ العربات وتختلط بقرقرة الدجاجات البلدية تطلّ من أقفاصها الى جانب البط والطيور من كل لون وشكل ، يلوّنها الزامور ، الزامور الذي لا يعرف صوته طعم البحّة أبداً.
حقًّا الحياة تدبّ في الأحياء الشعبيّة ، فالروتين لا يعرف مقامًا هناك ، بل السيمفونية تنبعث في كل لحظة ودقيقة .
الحياة تدبّ وتبقى تحارب حتى السويعات الأخيرة من الليل.
كان ذلك الى سنوات خلت.
واليوم ما زال الأمر على حاله ، وإن "أضفى" عليه الزّمن بعضًا من التجديدات !!!!
ولعلّ منطقة " عزبة النخل " – في أقصى مدينة القاهرة نموذج حيّ ، فقد زرتها قبل أيام معدودات ، وتمتعت جدًا ، تمتعت بتلك السيمفونية السابقة الوصف ، تمتعت بالحياة تدبّ في كلّ شبر وفتر من هذه المنطقة المكتظة بمئات الألوف من البشر...أطفال حفاة كما أوراق الخريف ، وشيوخ ونساء وصبايا جميلات من كل الأحجام والأعمار...الكلّ في حركة ..ومكانك عد.
الكلّ يبحث عن لقمة عيشه وطعامه في شوارعَ ضيّقة ، قذرة ، ملأى بالحُفَر والأوحال وأكوام القاذورات .
سألني سائق التُّك تُك إلى أين وجهتي وأين يقع أصحابك في عزبة النخل فقلت انهم بجانب الشارع المليء بالقمامة ..ضحك وغرق في الضحك وطلب العنوان وكان له ما يريد . وأثناء مرورنا الى هناك مررنا باكثر من عشرة شوارع تعيش على ظهرها المزبلة .وقتها عرفت معنى ضحكته ، فضحكت وضحكت زوجتي.
آه نسيت أن اخبرك عن التُّك تُك؛ هذه السيارات الصغيرة التي تملا الأحياء الشعبيّة كما الصراصير ، تنقل الشعب الى المترو والى كل مكان داخل الحيّ .
وتساءلت وأتساءل: أين القاهرة وعمدتها ومحافظها والمسئولين عن نظافتها من هذا الحيّ –الذي ينافس تل ابيب عددا ان لم يفقها- أين هم ؟!
ألا يزورون هذه الأحياء ؟
ألا يسهرون على راحة المواطن الذي انتخبهم ؟!!
أليست هناك من سيارات لنقل النفايات ؟!
ألمْ يتشدقوا ألف مرّة بالسَّهَر على راحة المواطن من فوق كل منبر وأمام كل ميكرفون؟!!
حقيقة يصعب على قلمي المتواضع ، بل يأبى ضميري وحبّي لتلك الاحياء من نبش كلّ النواقص ، ووصف كل المصائب التي تحيق بالمواطن هناك.
إنّه المرض بأمّ عينه!!
إنّه الإهمال وأبوه !!
قد نحكي عن الكثير من النواقص والشوارع القذرة ولكن يبقى الإنسان هناك قريبًا من الله ولعلّه الأقرب.
قد جرّبت هذا الإنسان ، جرّبته في بيته ، وذقت طعامه الشهيّ ، البلدي ، المجبول بالنكهة .
جربته وذقت حلاوة استقباله ومعسول كلامه وطيب سرائره ، فالقداسة تشرئب من العيون ، والشمم يطفح من النفوس ...شمم مجبول بالاكتفاء والتقوى الحقيقية .
شعب سماؤه أقرب إلى الأرض من ايّ بلد آخَر وربّه مُنصت الى دقّات قلبه.
ألمْ يُحذِّر ربّ المجد من محبة المال ؟!!.
قد يقول قائل إنها الأحياء الشعبية فقط التي "تنعم " بمثل هذه النعم من الإهمال ، ولكنني اقول : لم تُصب كبد الحقيقة يا صاحبي ، فحتى أحياء القاهرة وشوارعها الرئيسة التجارية لا تُحرم من بعض هذه النِّعَم .
كنت في زيارة لأكثر من عاصمة أوروبية ، وانبهرت بجمالها والأهمّ بنظافتها ، حتى كنت لا أتجرّأ أن أرميَ بقصاصة ورق هناك ، وكيف أرمي وما تعودت ذلك ، بل وما رأيت أحدًا يفعل مثل هذا الجرم الكبير ، ناهيك عن سلال القمامة الجميلة الملونة والتي تملأ كل زاوية ومنحنى.
أمّا في القاهرة فحدّثْ ولا حَرَج ...لقد تعلّمت أن أقذف بعُلبة البيبسي بجانب عامود الكهرباء او على الرصيف ، بعد ان رأيت غيري يفعلها ، وبعد أن حملتها مئات الامتار لعلّني اهتدي الى سلّ للقمامة فما نجحت .
لقد تعبت يدي ، وتعب ضميري .
فهل هناك من يسمع في عاصمة العالم العربيّ ؟!!
لن أرضى بالجواب العجول والروتينيّ:
الكثرة ، الزّحام ، الأعداد الكبيرة من البشر، فمصر بأعدادها تذوب كما ذرة ملح في بحر الصين وما سمعت ان بيجين ترزح تحت وطأة اللانظافة كما القاهرة.
عِزبة النخل – مع كلّ نقائصك – لكِ في قلبي مكان وفي حناياي موقع !! |