تؤكد عشرات الدراسات والتحليلات, الشواهد والمعطيات أن الهوية المصرية تعاني أزمة حقيقية, نابعة من الموضوع لا من ذات الهوية, والموضوع هو نحن المصريين علي اختلاف الفئات والطبقات, التيارات والاتجاهات, بفعل عشرات التغيرات والتطورات: المحلي منها والوافد. صحيح تعرضت الهوية المصرية عبر العصور والقرون للعديد من التحديات والمواجهات الحضارية والثقافية, وتعرض الانسان المصري لأقسي المحن والأزمات, ولكن كانت ـ بفعل هذا الانسان ـ عامل إثراء وقوة لها, فعاشت في الوجدان, بعيدة عن الوقوع فريسة التحلل والذوبان.
أما الآن ـ ومنذ عدة عقود قليلة مضت ـ فقد تعرضت وتتعرض هذه الهوية, عميقة الجذور والأصول, النشأة والتكوين, وبكل ماتنفرد به وتتميز من مقومات وخصائص مادية وثقافية, كان لها الفضل في استمرارية الشخصية المصرية ـ نقول تعرضت وتتعرض هذه الهوية لأزمات وتهديدات حادة وعنيفة, كادت تنال منها, وتعمل علي افقادها أهم عناصر قوتها, تفردها وتميزها.
وقد لانكون بحاجة إلي بيان أو طول اثبات لما تتعرض له من هذه الأزمات والتهديدات, التي هي في الأساس ـ كما سبق أن أشرنا ـ من صنع الانسان, وبالتحديد المصري: فاعلا أو مفعولا به من الآخر, تحت تأثير المصالح والمنافع: المادية منها والمعنوية, أو لخدمة أفكار وتيارات تتنافي والطبع أو الطابع المصري, وهم ليسوا بحاجة إلي تحديد, فسيماهم علي وجوههم.
علي أي حال ـ وعودا إلي بدء ـ نشير ـ وعلي سبيل المثال ـ إلي نماذج من هذه الأزمات والتهديدات, فعلي جبهة الثقافة قد تكفي الاشارة الي مايتعرض له الاسلام, المقوم الأساسي للهوية والشخصية المصرية, فلقد حدث الانحراف بقيمه وأخلاقياته, بل تحول علي يد البعض إلي أداة التخويف والارهاب والتواكل والكسل, وهروبا من الواقع, وبدلا من أن يكون الدين الاسلامي علما وعقلا تحول علي يد البعض إلي تهويمات وتخريفات وأشباح تظهر وتختفي وغيرها من المظاهر التي أعطت الفرصة لغلاة العلمانية إلي الطعن في الاسلام, والنيل من ثوابته, ومن رسول الاسلام( صلي الله عليه وسلم). وهكذا أصبح الاسلام نهبا لفكر الجمود والتخلف من ناحية, ولافتراءات غلاة العلمانية من ناحية أخري.
أما العروبة الكيان والذات ودائرة الانتماء, والتي تشكل مع الاسلام الإطار الثقافي والعقائدي للأمة وبهما ـ يقول أديب الجغرافيين وجغرافي الأدباء جمال حمدان ـ تكتمل دائرة الذات المصرية, دون تناقص أو تضارب أو عنصرية أو عصبية, وإنما يتم التكامل والتفاعل ليشكل وجدان وروح وعقل الانسان المصري. فماذا حدث ويحدث لعروبة مصر؟, فقد لانكون بحاجة للاجابة في ظل مايحدث, ليس فقط علي مستوي الاقتصاد والسياسة, وإنما ـ هو الأخطر ـ علي مستوي الثقافة والمثقفين فبدلا من القيام بدورهم في الحفاظ علي عروبة مصر, يقومون بالترويج لأفكار عولمية وشرق أوسطية تسعي إلي محو صفة العروبة عن هذه المنطقة من العالم.
هذا ماحدث ويحدث من أزمات وتهديدات لبعض أهم المقومات الثقافية للهوية المصرية, ولايقل خطورة عن هذا مايحدث علي جبهة القيم والأخلاقيات, فلقد حلت محلها منظومة الفساد كما لايقل خطورة ماحدث ويحدث للمقومات المادية للهوية المصرية: سكنا وسكانا, موقعا وبيئة, حيث تحولت المقابر إلي سكنة للأحياء من البشر, وانتشرت العشوائيات, وبات السكن ولو حجرة واحدة حلم الشباب المقبل علي الحياة. ويرتبط بهذا ما حدث ويحدث للأسرة المصرية من تفكك وخلل في العلاقات, بعد أن كانت نموذجا في التماسك, والحب والارتباط.
أما الزيادة السكانية فقد تحولت إلي نقمة بدلا من أن تكون نعمة, واختل توازن المجتمع, وأصبحت البيئة طاردة للقادمين إليها, والمقيمين عليها, ناهيك عن البؤر الاجرامية, والحياة السرية التي نجدها في الأحياء: الشعبية منها والراقية. أما الزراعة نقطة البدء في تاريخ الحضارة المصرية, فقد جرفت التربة, وانحصرت الأرض, وهجرها الفلاح, وتحولت إلي أحجار صماء, مزينة بالأطباق الفضائية كبديل عن إقامة الروافع المائية, والمحصلة النهائية فقدان الأمن الغذائي, بل تهديد الاستقلال القومي, من أجل الحصول علي لقمة الخبز. أما مابقي من إرث الزراعة فهو بعض المنتجات الزراعية المنتجة للأمراض السرطانية.
عشرات الأزمات والتهديدات التي تعاني منها الهوية المصرية, التي تشكل الذات الجماعية, ويعد المساس بها مساسا بكيان الأمة كلها, لأنها ـ في الأساس ـ هي من صنعها,. وفي ضميرها الجماعي, ولها وحدها الحق في إضافة ماتراه من متغيرات دون المساس بالثوابت, وعلي أن تكون هذه الإضافة وفق شروطها وباختيار حر منها, ووفق ماتمليه إرادة الأمة وحدها, وليس غيرها.
لهذا ولغيره نري ضرورة تكثيف البحوث والدراسات حول مفهوم الهوية المصرية, ومقوماتها وخصائصها, قيمها وأخلاقياتها, وماتتعرض له من أزمات وتهديدات, لمواجهتها, ولنتخذ من المجتمع الياباني الدرس والعبرة في هذا المجال, حيث تقوم المراكز البحثية بدراسة الشخصية اليابانية, وتحديد ماهو ثابت من مقوماتها, وتلك التي أصابها التغير, كما تقوم هذه المؤسسات كل خمس سنوات بمراجعة وتحديد أهم الاتجاهات التي يتبناها الناس وتتميز بالثبات النسبي, للمواءمة بينها وبين مايحيط بها من مستحدثات العصر.
باختصار علينا التعامل مع الهوية المصرية علي أنها قضية القضايا في عصر يموج بالتغيرات والتطورات التحديات والتهديدات, لأنها الهوية المصرية, وكفي هذا مبررا.
*نقلاً عن الأهرام |