الحرية الدينية وحرية التعبير أشبه بوجهين لعملة واحدة، إذ إن حق المرء في التعبير عن أفكاره يتضمن بالضرورة القدرة علي اعتناق وممارسة أي معتقد ديني يختاره. ودون مواربة، فإن جوهر الحرية الدينية ومختبرها الأساس هو "حرية تغيير الدين"، وهذه الحرية هي التي تدعم منظومة الحريات الأساسية الأخري، فهي متصلة اتصالاً عضويا بحرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتماع، وحق الاختلاف، وحق الخطأ أيضا..
قبول "حق الخطأ" كحق من حقوق الإنسان والمواطن جاء في إعلان عام 1789 الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية. فالحرية التي يولد الناس عليها، كما تقول المادة الأولي من الإعلان، هي حرية مطلقة لا قيد عليها إلا القيد الذي يجعل الناس سواسية في التمتع بها.
من هنا فإن الآراء كلها، صحيحها وزائفها، ذات قيمة متساوية. وهذا المفهوم الليبرالي للحقيقة يجعل الخطأ له حق مساو لما للصواب من حق ، وهنا تكمن أهمية الليبرالية المعرفية ونظرياتها عن الإنسان، فمن ناحية معرفية فإن محدودية العقل وقابليته للخطأ هي أساس التسامح بالمعني الفلسفي، كما يقول "كارل بوبر"، وحيث لا يمكن للعقل الوصول إلي الحقيقة، بمعني أنه لا يستطيع تحديد صحة أفكاره وعقائده وصوابها، فإنه مطالب بأن يسلك منهج التسامح إزاء عقائد الآخرين وأفكارهم، لأن الحقيقة تملكنا جميعاً ولا يستطيع أي منا امتلاكها.
لذلك تعجبت جدا من محاولة البعض إضافة مادة جديدة في الدستور المصري تحظر المساس "بالذات الإلهية" والأنبياء ....، بحجة القضاء علي المد الشيعي في مصر ومعاقبة أى كاتب تجاوز فى حق الأنبياء جميعاً. وهي في تصوري البداية الحقيقية لترسيخ الفاشية الدينية والجهل المقدس، وأذكر في هذا الصدد أن العقد الأول من الألفية الثالثة شهد محاولات دؤوبة للتصدي لكراهية الأديان بمنع الكلام والحد من حرية التعبير، والمفارقة هنا هي أن مبدأ الإساءة إلي الأديان كان يستخدم في العديد من الدول العربية والإسلامية للتسلط علي الأقليات الدينية التي تعتنق معتقدات تعتبرها الدولة مسيئة للدين القومي أو الدين الذي تؤيده أغلبية السكان. أضف إلي ذلك أن كثيرًا من البلدان التي تؤيد منع الإساءة إلي الأديان تطبق هذا المبدأ لحماية دين واحد فقط، وتقبل - في داخل بلادها - خطابا متشددا وأعمالا معادية تستهدف أديان الأقليات الأخري.
ما يؤكد علي أن محاولة منع الإساءة إلي الأديان لم تحمي أتباع كل الديانات علي أساس من المساواة، الشئ نفسه – وربما أخطر – يجري الآن تحت زعم حماية " الذات الإلهية " من أي إساءة، وهو ما يلقي بنا مباشرة في دوامة العنف الدموي وتكفير الآخر وإهدار كرامته وقتله جسديا ومعنويا، ويفتح باب جهنم أمام المسكوت عنه في هذه المنطقة التي تضم أكبر فسيفساء إثنية ودينية وعرقية وثقافية، فمن الذي يحدد طبيعة هذه " الذات الإلهية " وصفاتها وخصائصها ؟ وهل إله اليهود هو نفسه إله المسيحيين أو إله المسلمين ؟ ثم ما الذي يعد إساءة بالضبط وما الذي لا يعد كذلك ؟ وما هي العقوبات المتوقعة ؟ ومن الذي سينفذها ؟ ووفق أي شريعة ؟ هل هي شريعة المذنب – إذا كان مذنبا – أم شريعة الذي أسئ إلي إلهه - إذا كانت هذه إساءة بالفعل ؟
في أول رد فعل علي هذه المادة ( الفخ ) التي تحذر من المساس بالذات الإلهية، كتب مصري مسيحي في صفحته علي " الفيس بوك " : أعلنها أنا مسيحي وأؤمن أن المسيح هو الله الظاهر في الجسد....ولا أحد سوي المسيح الله لاشريك له....وأنه صلب وقام في اليوم الثالث....وأنا لا أؤمن بدين الدولة الرسمي ولن أؤمن به .... ولو فرضوه قانونا سوف أفند هذه القوانين لأنها أصبحت قوانين عامة وتخلت عن قدسيتها ... ولا أقبل فرض أي دين في الدستور ولا أن الدولة لها دين.
علي الجانب الآخر تقدم أحد المحامين المسلمين في مدينة الإسكندرية ببلاغ إلي النيابة طالب سحب تمثيل الأقباط الأرثوذكس من الجمعية التأسيسية للدستور باعتبارهم غير ممثلين للدين المسيحى. وقال : " إن الأقباط الأرثوذكس ليسوا نصارى"...... وليسوا "مسيحيين" ، بل هم شرعا يدخلون فى عداد " المشركين"، بما لا يجوز معه تمثيلهم للدين الميسحى. وقدم تدليلا على ذلك أن جوهر الأديان السماوية أن الله واحد أحد لا إله إلا هو، وأن أنبياء الله موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام هم بشر أرسلهم الله عز وجل برسالتهم لخلقه، فإذا جاءت أى طائفة تنتسب لأى دين وأدعت أن نبيها هو أبن الله أو هو الله، فإنها تعد كافرة خارجة عن ذلك الدين.".
لقد تنبه الفيلسوف الإنجليزي " جون لوك " (1632 - 1704)، إلي أن الحكم المدني يحافظ علي التعدّدية الدينية ويضمن دورها، كما يحافظ علي التناغم السليم بين ما هو ديني وما هو سياسي، لذا حذر " لوك " مبكرا من خطورة فرض عقائد الإيمان بواسطة القانون المدني، سواء تعلق الأمر بالعقائد أو بالشرائع، ولا ينبغي علي الحاكم، كما يقول " في رسالة التسامح "، أن يتدخل إلا فيما يضمن السلم المدني، لأن الدين أمر يخص الفرد وحده، وهو علاقة شخصية بينه وبين الله، وللحق لم يكن الغرب مستعدا للاستماع للوك إلا بعد أن أنهك سنينا طويلة دينيا ومدنيا، ولا أدري كم سنحتاج من الوقت والجهد والدم حتي نشعر بالإنهاك والانتهاك الإنساني؟
dressamabdalla@yahoo.com
نقلا عن إيلاف |