إعداد وتقديم: نبيل المقدس
بكل فخر وابتهاج نستطيع أن نقول أن الرب يسوع هو الذي أوصى بالدولة العلمانية، وهو أول من نادى بها منذ أكثر من 2000 سنة, وكل دولة إتبَعت هذا النظام في سياستها أصبحت من البلدان القوية والغنية والمتقدمة.
ففي متى 22 : 20 - 21 [فقال لهم لمَن هذه الصورة والكتابة.. قالوا له لقيصر.. فقال لهم أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر وما لله لله] إن حكمة الإله المتجسد الفريدة هي أنه لم يأتي لنا بتشريعات وسُنن محددة، فصفات الإله المتجسد هي صفات طبيعية غير مكتسبة، أخذناها نحن كتعاليم روحية نسير علي دربها، وهذا مما يجعل هذه التعاليم التي نقلناها من صفاته أو تصرفاته الطبيعية صالحة لكل زمان ولا تزول بمرور الزمن أو تغيير المكان, لأن صفاته التي كانت تتحلى بالمبادئ البارة كانت مبادئ غير عسرة, يمكننا في كل زمان أن ندركها ونضع الشريعة والقوانين التي تتناسب مع بيئتنا وظروفنا وتتفق في نفس الوقت مع مبادئ الرب يسوع والنابعة من طبيعته الإلهية.
رد يسوع على هذا السؤال يُعتبر أحد المبادئ الهامة عن حق الله وحق الفرد في الحياة الأرضية، فالإنسان يحمل في داخله وفي وجدانه حب الوطن الأرضي, كما يحب أن يحيا في وطنِه السماوي بعد انتقاله.
الإنسان مدين لوطنه بالكثير، لأن الوطن يُقدم له من الخدمات الكثير.. مثل التعليم, والرعاية الصحية, وتوفير مستلزمات الحياة كالمياة النقية والكهرباء والصرف الصحي, وتأمين شيخوخته ..إلخ.
لذلك ينبغي على المواطن أن يكون صالحًا ومسئولاً، وفشله في أن يكون مواطنًا صالحًا هو دليل على فشلِه أيضًا روحيًا. هذا الفشل سوف يتأثر به الوطن بالضرر الكبير، لذلك فمن الواجب على الفرد الذي يؤمن بربِه أن يؤدي واجبَه نحو وطنه، لذلك فجميع الأمور التي لها شأن بضميرِه وعقيدتِه ومبادئِه هو وحده المسئول عنها أمام الله.
عقيدتنا لم تضع حدودًا معينة تبين لنا الخط الفاصل بين الولاء للوطن أو عدم الولاء، بل هو أمر متروك لضمير المؤمن وبقدر محبته له، كما أنها لم تظهر لنا الحد الذي يفصل بيننا وبين الولاء لله، فهو لم يجبر فردًا على ولائه [الله يقرع على بابك ويشتهيك مسكنا له، هو يريد أن يعيش في قلبك] من كتاب التوبة والنقاوة للبابا شنودة 39، كذلك ما سطره الوحي في رؤيا 3 : 20 [هنذا واقف علي الباب وأقرع, إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي].
وفي إحدى قراءاتي حول تفسير هذه الآية [أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله] هو أن عن طريقها تم وضع الحدود بين القوة الروحية (الدينية) والقوة المدنية، كما أعطت القوة المدنية قدسية لم تكن لها من قبل وحدودًا لم تعرفها سلفًا، ونتيجة لذلك رسّخت مفهوم الحرية لدى الفرد، وجعلت الحياة بين الفرد وخالقه أمرًا شخصيًا، أما الحياة الأرضية فالكل يعمل من أجل قيصر أي الوطن نفسه متناسيًا نوعية جنسه أو لونه أو عرقه أو حتى عقيدته.
بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية ومنذ القرن الرابع عشر حتى الثامن عشر كانت العلاقة السائدة بين الكنيسة والدولة هو عن طريق نظام التبعية المتبادلة بين خضوع كل من الكنيسة والدولة، وبنقلة سريعة نشهد من منتصف القرن التاسع عشر حركة تهدف إلى تخليص الكنيسة من الدولة وتخليص الدولة من الكنيسة بحيث تكون كنيسة حرة في دولة حرة، وهناك حقيقة علينا أن ندركها وهي أن الدولة ليست هي السُلطة الوحيدة والأقوى والأعلى، كذلك علينا أن ندرك أن الحياة الروحية الحقيقية (العقيدة) لا تستمد قوتها ونفوذها من سلطان الدولة بل من قوتها الروحية الكامنة فيها. أما العقيدة التي تطلب من الدولة مساندتها بقوانينها وبشريعتها فهي عقيدة مهلهلة وضعيفة ولا حياة فيها.
ولهذا السبب أنت تستطيع أن تحكم على مدى رُقي الشعب وثقافته من مبادئ العقيدة التي يعتنقها, فالعقيدة التي تعطي الحرية في التفكير والإبتكار ولا تخضعك لمبادئها هي التي سوف تبعث في الدولة مقومات الحياة الفضلى, ويهيء للفرد أسباب الكرامة والقدر المرموق.
لذلك وبناء على تجارب الدول السابقة والتي عاشت في الظلام تحت سيطرة الكنيسة, نرى أن الإتجاه الفكري في أي بلدة متحضرة يسير إلى فصل الدين عن الدولة, فتتولى الكنيسة مسئولياتها الروحية في حرية تامة.. أما شئون الحكم ومهام حفظ النظام وإدارة البلاد والتشريع هي من مهام الدولة والقائمين عليها.. مع نشر الحرية كاملة بين شعوبها, لذلك نرى أن هذه الشعوب لها وعي قومي إتجاه الوطن, وتدعو دائمًا بالإفتخار به والذود عنه دون أن يتلحفوا بأية دعاية عقائدية أو عنصرية أو طائفية. وهذا الوعي القومي في البلدان المسيحية جرفت أمامه كل عصبية دينية, وأصبحت الوطنية بعيدة كل البعد عن النعرة العقائدية أو المذهبية.
النظام العلماني هو المثل الأعلي في حياة الشعوب الراقية المتحضرة, لذلك:-
الإعتصام بالعصبية الدينية في أمة أو في مجموعة أمم مثل الأمة العربية, والخلط بين الوطنية والدين, واحتضان الدولة لدين رسمي لها والمناداة به ليل نهار وتمييزه على غيره من العقائد الأخرى مثل الدول الإسلامية، هو رجوع إلى القرون الوسطى وتعثر في موكب الحضارة. ولنا في الحروب الصليبية والغزوات الإسلامية منذ ظهورها حتى الآن ما هي إلاّ مظاهر لتلك العصبية الدينية التي عفا عليها الزمان!!!! |