CET 17:00:56 - 27/07/2012

الأقباط والإسلام السياسي

هذه قصة قضية قامت قيامة الناس فيها على أحد الخصوم، قبل أن يقول القضاء كلمته فيها.. لم يترك الناس للقضاء أن ينظر أو يحكم فى تلك القضية بمفرده.

إنها قضية زواج لا غير. ومع ذلك فقد أقامت مصر وأقعدتها وقسمت الرأى العام والساسة وأهل الرأى وعامة الناس.. وكانت محل كثير من المناورات السياسية الدقيقة التى دارت من وراء الستار، ذلك أنها كانت صدمة عنيفة للناس فى كثير من معتقداتهم القديمة عن «الحسب والنسب» و«الأصل والفصل»، وما إلى ذلك من ثوابت اجتماعية راسخة ومتأصلة.. كل هذا وضعته هذه القصة أو القضية أمام تجربة واختبار وتفسير جديد.
 
إنها قصة زواج الشيخ «على يوسف» من السيدة «صفية السادات» ابنة السيد «أحمد عبد الخالق السادات» أحد الأشراف المنتسبين إلى سلالة النبى صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت قصة الزواج هذه 1322هـ 1904م وهى السنة التاريخية التى عقدت فيها إنجلترا وفرنسا ما يسمى بالاتفاق الودى الذى بمقتضاه وافقت فرنسا على إطلاق يد إنجلترا فى مصر مقابل موافقة إنجلترا على إطلاق يد فرنسا فى مراكش!

جذور القضية
هل يصدقنا أحد إذا قلنا إن جذور وخلفيات تلك القصة القضية ترجع إلى زمن الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان، هذا الفقيه الذى نتزوج على مذهبه.. بالطبع سوف يستغرب الجميع من ذلك، إذ ما العلاقة بين الإمام أبى حنيفة الذى عاش فى القرن الثامن الميلادى وهذه القصة التى دارت أحداثها فى أوائل المئة الأخيرة من القرن العشرين؟!
 
ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الكفاءة شرط فى صحة النكاح، لأن الزواج يعقد للعمر ويشتمل على أغراض ومقاصد كالصحبة والألفة وتأسيس القرابات.. ولا ينتظم ذلك عادة إلا بين الأكفاء.. والكفاءة إنما تراعى فى جانب الرجل لا فى جانب المرأة، لأن الشريعة تأبى أن تكون المرأة مُستفرَشه للخسيس، أما الرجل فهو مُستفرش -بكسر الراء- فلا تغيظه أو تضايقه تواضع نسب المرأة أو دناءتها.. والكفاءة حق المرأة وحق وليها، لأن هذا الولى قد يُعَيَر إذا تزوجت ابنته أو أخته مثلا من رجل وضيع النسب والمكانة، ولهذا فلو أسقط أحدهما حقه بقى حق الآخر.. فلو زوجت المرأة نفسها من غير كفء ولم يرض وليها به كان من حقه إبطال هذا العقد.
 
وهذه الكفاءة التى شدد عليها الإمام أبو حنيفة تراعى فى ستة أشياء: «الإسلام الحرية المال الصلاح الحرفة النسب»، وكل من ذهب إلى اشتراط الكفاءة يستدل بما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال «العرب بعضهم أكفاء بعض والموالى بعضهم أكفاء بعض»، وعلى هذا لا يكون غير العربى كفئا للمرأة العربية ولا غير القرشى كفئا للقرشية ولا غير الهاشمى كفئا للزواج من الهاشمية...!
 
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن العلم يقوم مقام شرف النسب.. وفى مصر الحديثة ومنذ زمن الخلافة العثمانية كانت المحاكم الشرعية قد اختصت بالفصل فى الأحوال الشخصية، وكان العمل فيها يجرى على مذهب أبى حنيفة، لأنه مذهب الجالس على عرش مصر فى ذلك الوقت، وأيضا هو مذهب الدولة العثمانية التركية التى كان لها حق السيادة عليها.
 
ومن أكبر القضايا التى قامت فى مصر بسبب هذا الشرط «الكفاءة»، هذه القضية التى نتناولها اليوم، وهى القضية التى اشتهرت «بقضية الزوجية»، وقد كان أطرافها الشيخ على يوسف، صاحب جريدة «المؤيد»، والسيد أحمد عبد الخالق السادات، أحد الأشراف الذين ينتهى نسبهم إلى سلالة النبى صلى الله عليه وسلم.. وكان هذا بسبب عقد الأول على ابنة الثانى، وهى السيدة صفية السادات برضاها دون رضاه.. وقد تم هذا العقد فى مساء يوم الخميس 30 ربيع الآخر 1322هـ، وفى النصف الأول من عام 1904م وقد تم هذا العقد فى منزل السيد محمد توفيق البكرى شيخ مشايخ الطرق الصوفية ونقيب الأشراف وهو أيضا زوج شقيقة صفية السادات.

فلما علم السيد أحمد عبد الخالق السادات بذلك تقدم بدعوى إلى المحكمة الشرعية يطلب فيها فسخ هذا العقد والحيلولة بين الزوجين إلى أن يُفصل فى دعوى الفسخ.

قضية الزواج
توطدت علاقة الشيخ على يوسف، الصحفى الشهير وصاحب «المؤيد»، الذى لا تدع له السياسة وقتا لشؤونه الخاصة بالسيد أحمد عبد الخالق السادات، وكانا يتبادلان الزيارات.. وفى صيف سنة 1904 سافر الرجلان إلى الأستانة التى كانت مصيف الأمراء والوزراء والأثرياء فى مصر، وهناك خطب على يوسف لنفسه صفية ابنة السادات، وكانت تصحب أباها فى بعض تنقلاته على غير عادة هذا الزمان، فقد كانت الفتاة تحتجب عن الرجال متى بلغت الحادية عشرة من عمرها.. إلا أن السيد أحمد عبد الخالق لفرط حبه لابنته ولإسرافه فى تدليلها خرج قليلا عن العرف وألف أن يصطحبها إلى مجالس الرجال الذين يرتبط بهم برباط الحب والمودة وفى مقدمتهم على يوسف.. فلما رأى على يوسف صفية السادات وكانت على أبواب الشباب أعجب بجمالها وذكائها وجذبته لباقتها وأناقتها، وراقت له كثيرا، فطلب يدها من أبيها وهما فى فترة المصيف.. ورحب الوالد بهذه الخطبة وفرح بها وأحس بالزهو والفخر أن يكون صهره وزوج ابنته هذا الرجل الوطنى العظيم، الذى يعلم الجميع علاقته الحميمة بالخديو عباس حاكم البلاد.. هذا إضافة إلى ما عرف فى العريس الصحفى السياسى من لباقة الحديث وحلاوة الطبع وكرم الأخلاق، وأنه كان رجلا سخيا جوادا، لا يبخل على نفسه ولا على أصحابه وأصحاب الحاجات الذين يقصدونه.. وهو فى ذات الوقت رجل كامل الصحة حسن المظهر (بوجه عام عريس لقطة).

وكما تمت الخطبة فى الأستانة. بلغ خبرها الصدر الأعظم عزت باشا العابد -والصدر الأعظم هى الوظيفة المساوية لوظيفة رئيس الوزراء فى بلدنا- وكان صديقا حميما لعلى يوسف، فأهدى العروسة عقدا من اللؤلؤ.. فزاد ذلك من طمأنينة الوالد، فقد كان ذلك العقد إحدى البشائر الدالة على كون الزواج موفقا ومباركا.

ولم يكد الرجلان يعودان من المصيف، حتى اجتمع بالسيد أحمد عبد الخالق السادات قوم وسوسوا له بفسخ الخطبة والعدول عنها، بحجة أن العريس ليس على نفس مستوى العروسة من حيث النسب، كما أنه يمتهن مهنة الجرائد التى كانت تعد فى ذلك الوقت من أحقر المهن!

ومرت سنة وسنتان وأربع سنوات والشيخ على يوسف ينتظر يوم الزفاف.. وكلما سأل السيد السادات فى ذلك تهرب وماطل وسوّف واختلق الحجج والعراقيل.. وضاق الشيخ على يوسف بالأمر، ورأى أن الوضع أصبح مهينا لكرامته، كما ضاقت صفية السادات بالأمر مثله.

وهنا ظهر دور السيد محمد توفيق البكرى الذى مد يد العون فى تلك الأزمة.. وكان البكرى، كما قلنا زوجا لشقيقة صفية السادات، أى أنه إذا تم الزواج سيكون «عديلا» بتعبير المصريين لعلى يوسف.. وقد دعا البكرى كلا من على يوسف وصفية السادات إلى بيته فى «الخرنفش»، حيث كان المأذون منتظرا لعقد القران.. واحتفل الحاضرون احتفالا سريعا بالزفاف، وخرجت العروس مع عريسها تشيعها الزغاريد إلى بيت الزوجية فى حى الظاهر.

وهكذا وضع السيد أحمد عبد الخالق السادات أمام الأمر الواقع، حيث استيقظ فى اليوم التالى ليقرأ فى المقطم نبأ زفاف ابنته إلى الشيخ على يوسف، فطار صوابه وجن جنونه! وقدم السادات بلاغا إلى النيابة يتهم فيه الشيخ على يوسف بأنه قد غرر بابنته، ونظرت النيابة فى الموضوع، فوجدت أن السيدة صفية قد بلغت سن الرشد ومن حقها شرعا أن تزوج نفسها، وقد حضر القران عدد كبير من أقارب العروس، ومن ثم فليست هناك أى شبهة يمكن أن يستنتج منها أن هناك تغريرا قد حدث! وحفظت النيابة البلاغ ولم يسكت السيد السادات عند هذا الحد... فرفع دعوى أمام المحكمة الشرعية يطلب فيها الحكم بإبطال الزواج، استنادا إلى أن الشريعة تشترط لصحة الزواج وجود تكافؤ بين الزوجين فى الإسلام والحرية والمال والصلاح والحرفة والنسب.

وفى عريضة الدعوى ذكر محامى السادات أن موكله يطعن فى كفاءة على يوسف لابنته من ناحيتين النسب والحرفة!! فالشيخ على يوسف من ناحية النسب لا ينتسب إلى نسب رفيع كالسادات الشريف العلوى، وهو من ناحية الحرفة يحترف مهنة الجرائد التى هى أحقر الحرف.. وعار وشنار عليه كما جاء فى عريضة الدعوى.. هذا إضافة إلى أن العقد تم بموافقة ابنته دون موافقته وهو وليها.

وأحيلت القضية إلى الشيخ أبو خطوة وتحدد يوم 25 يوليو 1904 لنظر هذه الدعوى، وفى الجلسة الأولى صدر حكم المحكمة التمهيدى أو المبدئى بتسليم السيدة صفية إلى أبيها لمنع المخالطة الزوجية لحين البت نهائيا فى الدعوى.

وهذا الحكم معيب، لأن السيدة صفية لم تكن قد تمكنت من توكيل محام عنها، فحكم القاضى فى غيبتها، وهى خصم فى الدعوى، وقد جاء فى باب المرافعات من لائحة المحاكم الشرعية أن الدعوى لا تسمع إلا فى وجه خصم شرعى حقيقى، وأنه إذا امتنع المدعى عليه عن الحضور إلى المحكمة وعن إرسال وكيل عنه فى الميعاد المحدد يرسل إليه طلب جديد ثلاث مرات فى ثلاثة أيام على الأقل، ويذكر له فيه أنه إذا لم يحضر فى الميعاد أو يعين وكيلاً عنه ينصب القاضى وكيلاً عنه وتسمع الدعوى فى غيبته.

ولهذا كان طبيعيا أن يعترض الزوجان على تنفيذ هذا الحكم... ولكنهما رأيا بعد ذلك أن يجريا بينهما حيلولة اختيارية، فذهبت السيدة صفية إلى بيت الشيخ عبد القادر الرافعى، وهو من كبار علماء الأزهر ومعروف بحسن السمعة وهو أيضا صديق لوالدها... وفى أول أغسطس 1904 حكمت المحكمة بفسخ عقد الزواج والتفريق بين الزوجين... وفى هذا الحكم أيد الشيخ أبو خطوة كل ما ادعاه السيد السادات، بل إنه أضاف إلى دفاع السادات شيئا مضحكا وعجيبا... فقد رأى أن ثراء على يوسف الحالى لا يمحو عنه عار «فقره القديم»، فقال فى حكمه بالحرف الواحد: إن فقره فى بدئه وإن زال عنه الآن باكتساب الغنى إلا أن عاره لا يزول عنه!!

وقد نشر الشيخ على يوسف هذا الحكم فى جريدته وعلق عليه بما يأتى:
«نشرنا الحكم الصادر اليوم فى هذه القضية، وتركنا لحضرات القراء رأيهم فى موضوعه وفى أسلوبه.. أما نحن فلم يؤثر علينا ما فى لهجته الشديدة بشىء ما دام أمامنا الاستئناف.. وفى اعتقادنا أنه سينصفنا، ويصبح حكم حضرة القاضى الابتدائى أشبه بمقالة من جملة المقالات التى قرأناها فى بعض الصحف ونسيناها»،

ثم قدم الشيخ على يوسف والسيدة صفية السادات استئنافا ضد الحكم إلى المحكمة الشرعية العليا فحكمت بتأييد الحكم الشرعى الإبتدائى.

وبعد أن انتهت القضية على هذا النحو، وشعر السيد السادات بأن كرامته قد ردت إليه.. اتصلت المساعى الحميدة والوساطات الخيرية بينه وبين الشيخ على يوسف.. حتى رضى السيد السادات بأن تتزوج ابنته صفية من الشيخ على يوسف بعقد جديد.. وبالفعل تم الزواج وعادت صفية السادات إلى بيت زوجها.

ومن المفارقات أن الزوجين لم ينعما بالسعادة الزوجية، فقد كانت الزوجة صغيرة السن قليلة التجربة، كثيرة الاعتزاز بجمالها وعلمها، فأرهقت زوجها الكهل ونغصت عليه حياته لدرجةٍ جعلته لا يكاد يطيق بيته، فكان يرابط فى مكتبه بالجريدة نحو عشرين ساعة يوميا!

ولما انتقل الشيخ على يوسف إلى رحاب الله سنة 1913 كانت صفية السادات لا تزال شابة جميلة فعاشت بعده ما يقرب من ثلاثين سنة وأحبت الممثل زكى عكاشة وتزوجته!!

نقلا عن الدستور الاصلي

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع