بقلم: د.ياسر يوسف غبريال
حقلى كالمدينة الكائنة على جبل .. يراها كل عابر ويهتدى بها كل سائر .. ونور حقلى ليس فقط بريق او نيران حريق .. بل قبس من نور الحبيب .. ليس فيه زيف او غش ..ولهذا فحقلى لا يجيد ارتداء الاقنعة .. فحينما يزهر ويثمر يراه الكل زاهيا مبيضا .. وحينما يصطبغ بلون باهت نعلم ان ثمة زيف فى حياتنا ..
لم يكن الحقل فى احسن حالاته كعهدنا به .. كانت ثمة غيوم فى الافق ورياح تهب وتهدأ ولاتحمل نسيما من عند الزارع الحبيب ..كان الحقل يشعر انه متروكا .. رغم ذكرياته مع عمل الحبيب .. وثمة فرقة بين الحبات .. رغم ان الحقل من نبع واحد يرتوى و على صدر الحبيب يتكىء .. ولكن شهوة الرئاسة كانت قد اصابت بعض الحبات .. الكل يريد ان يحتفظ بحق الثمر والكل يريد ان يقيد النور داخله فعاش الحقل اياما عجاف فى انتظار نور الحبيب ولمسات يديه .. كل ذلك وبيدر صاحب الحقل فارغا ينتظر الحنطة ..ضاق الحقل على اتساعه .. وماعدنا نعرف متى يكون موسم الحصاد ..
وكانت هناك حبة عجوز تقود الحقل تنظر ما يجرى وهى غير مصدقة .. كانت حبة انحنى ظهرها تحت ثقل الصليب .. وتشدد قلبها بجراحات الحبيب.. حبة احبت وبذلت وتعرت من العالم وتغطت بالحبيب .. كان قلبها كالعليقة مشتعلا بنور الحبيب وعقلها كالعلية مشغولا بالصليب ..
لها حكمة المدبر ومحبة الراعى .. قدمت حياتها كلها من اجل الحقل .. ومن اجل الحبات الباقيات ومن اجل الثمر .. سنوات طوال وهى تبذل وتطبب وتداوى .. تسهر وتعمل .. تصمت حينا و تتكلم حينا وتعارك فى الليل من اجل بقية النهار .. حبة له قلب طفل فرحته الوحيدة حضن ابيه ..
وكانت تثق فى بعض الحبات وكانت ترى فيهم املا وعملا لان تلك الحبة كانت كغارسها الحبيب فتيلة مدخنة لا تطفىء وقصبة مرضوضة لا تقصف .. حتى الزوان كانت تدعه لعل الزارع عندما ياتى يجده وقد صار حنطة ..
ولكن الضربة هذه المرة جاءت من الحنطة وليس من الزاون وربما من الزوان الذى له صورة الحنطة وقلبه ليس مثلها ..كانت فى الحقل حبات لها صورة التقوى وتنكر قوتها .. حبات تخبىء كنزها فى بيت عدوها .. مغروسة فى قلب الحقل .. ولكن قلبها هناك فى الكورة البعيدة .. حبات تتغذى من ماء النبع ولا تشبع .. شبعها فى طعام الخنازير ..حبة من الحقل خرجت لكنها لم تكن منه لانها لو كانت من الحقل لما خرجت ..حبة كانت تشتهى كرسى الرئاسة .. ولا تعرف ان الطريق اليه لابد ان يمر بالجلجثة ..وان الخدمة دعوة وارسالية ..
وكانت الحبة الكبيرة تحتضنها وتأمن لها ولم تكن ان تدرى ان الحية عندما تدفأ تلدغ وان الزوان عندما ينمو يخنق الحنطة ..كانت الحبة الكبيرة تترجى وجه الحبيب فقد اختبرته سنينا هذه مقدارها .. كان شعارها طيلة العمر .. ربنا موجود .. وجاء الحبيب سريعا ..
جاء الحبيب ولم تكن نسماته فى هذه المرة باردة بل كريح مصحوبة بنار سرت حرارة الحياة فى داخلنا ففى نور وجه الملك حياة ورضاه كسحاب المطر المتأخر جاء بخطوات متثاقلة ولم يتكلم بل انحنى وجمع فروع جافة من ارض الحقل وقال وهو يضفرها هوذا اكليل يقدم لى من حقلى وغرس يدى .. تكلم الحبيب ورأينا خفياتنا فى وجهه فانت عليه احشاؤنا ومن بين حديثه الكثير لنا مازالت جملة واحدة تتردد اصدؤاها فى اعماق الحقل :
نعم قد يسكن روحى فيكم ويحول البرية غديرا والارض اليابسة ينابيع مياه لكن احترزوا فقد تصبح الارض المثمرة سبخة من شر الساكنين فيها
ونظر بحزن نحو الحبة المشتهية الرئاسة وقال قد يكون منكم من يقود العميان وينير للذين فى الظلمة ويهذب الاغبياء ويعلم الاطفال ولكن الكنيسة والحقل شيئا اخر غير هذا كله الكنيسة شركة الذين ختنوا فى قلوبهم .. قد تتكلم بالسنة الناس والملائكة ولكن بلا محبة فقد صرت كنحاسا يطن وصنجا يرن ..
قال هذا وبكل حنو انحنى وربت على كتف الحبات الساهرت واحتضن الحبة العجوز وجدد وعده لها بانها فى حدقة عينه .. وقال يتمتع بالرؤيا من كان نقى القلب قال ذلك ثم مضى ..
|