بقلم: نبيل شرف الدين
خيمة رمضانية فاخرة تقف بشموخ بالقرب من أهرامات الحيزة، لكنها لا تنتمى بالمرة لمصر، اللهم إلا إذا كان أصحابها مصريين، وليسوا مجرد واجهة لأثرياء عرب، فضلاً عن أن غالبية الزبائن كانوا مصريين ممن اصطلح على تسميتهم «العائدون من النفط».
داخل الخيمة كأننى انتقلت فجأة إلى مدينة خليجية أو سعودية، سيدات ترتدين العبايات السوداء، بعضهن منتقبات، وخادمات آسيويات يهرولن وراء أطفال ورجال يرتدى معظمهم الجلباب السعودى وهم ليسوا ملتحين بالضرورة، وفوق كل هذا، صوت الـ«DJ» يزلزل المكان بأصوات زاعقة لمغنيين خليجيين، حتى قائمة الطعام تضم الأصناف الخليجية والسعودية، وبالطبع فالأسعار «خليجية» أيضاً، ولاشك أن هذه الخيمة مجرد عينّة من سلسلة كيانات تكرس للذوق الخليجى فى وجدان المصريين.
ما علينا، لنعود لمنازلنا بسلام، لنقضى الليلة على طريقة المساكين أمام سيل الفضائيات، وهنا شدنى اسم القناة التى أطلقها «محرك الدمى المبهرة» طارق نور «القاهرة والناس»، حيث بدا حضور المذيعين اللبنانيين والشوام فيها كاسحاً، لدرجة تدفع المرء للدهشة: كيف فات على نور، الذكى، أن يسميها «بيروت والناس».
تواترت الأنباء وتدفقت التصريحات حول الظروف التى خرجت فيها «القاهرة والناس»، وهى باختصار كانت لعبة «لىّ ذراع» أو «حبكة درامية»، بين وزير الإعلام أنس الفقى، الذى منع عرض البرامج الإعلانية المهداة على التليفزيون المصرى، وبين نور «طباخ الميديا الشاطر»، الذى يعرف جيداً من أين تؤكل العين.
أستطيع أن أكتب قائمة بأكثر من مائة إعلامى فى مصر يمتلكون كل مقومات النجاح، من المظهر إلى الجوهر، بالإضافة للأفكار المتوهجة والقبول، لكن يبدو أن أيّاً من هؤلاء لم تتعثر قدمه فى طريق نور، فاستجلب لبنانيين وشوام باعتبار أن «زمّار الحىّ لا يطرب» وكما كانت تقول جدتى «الشيخ البعيد سره باتع».
يا الله كم هو مزعج أن يجد المرء نفسه «محشوراً» بين خيارين كلاهما مر، فإما التدين المظهرى المنافق المتلفع بعباءة البداوة، وإما الانفلات الذى يشبه «القوادة»، وإذا كان ثمة خيار ثالث، فهو الوقوف على أبواب ماسبيرو فى طوابير «الميرى»، لنستمتع بالتمرغ فى ترابه.
ليس فى الأمر أى شوفينية حين يحرص المرء على هويته الخاصة، فمصر ظلت نموذجاً حضارياً طيلة قرون، لأنها ليست «دولة لقيطة» كى تنهار أمام هويات الآخرين، الذين طالما ذابوا فى مصر فناً وثقافة وسياسة حتى فى المظهر الشخصى.
كثيراً ما يتحدث فهمى هويدى وغيره عما يصفونه بالغزو الغربى للثقافة العربية والإسلامية لكن لو احتكمنا للواقع سنكتشف بوضوح أن الغزو الحاصل الآن هو شرقى بامتياز، ولعل أخطر ما فيه أنه يتلفع بعباءة الدين، وهو ما قد يلتبس على العوام والبسطاء، الذين يرون فى النموذجين الخليجى والسعودى «صورة ذهنية» مرادفة للإسلام الحصرى، وهذا ما يفسر الانتشار الواسع للأفكار والمظاهر السلفية.
لم يقف الأمر عند حد التدين على نهج الحوينى ومحمد حسان، بل امتد ليطال جميع مظاهر الحياة من الغناء والأزياء والذوق العام، ويصل أحياناً لحد استخدام اللهجة الخليجية بين عائلات عاشت فى الخليج وتشكل وجدانها هناك.
وفى المقابل فالبديل هو «اللبننة» على مذهب نور، الذى يبدو أن ثقته بأبناء بلده مهتزة بشدة، لدرجة نتوقع معها، خلال رمضان المقبل، أن يستجلب مذيعين من الخليج والسودان والمغرب، وربما حملته أجنحة الخيال لطهران، فما المانع إذا كانت هوية الأمم تخضع لمنطق التّجار الشُطّار؟
والله المستعان
nabil@elaph.com |