بقلم: إيليا مقار
في ذكرى إعدام سيد قطب
قبل أن يتبادر إلى ذهنك أنني بصدد الترويج للدولة الدينية في مصر وتعداد مزاياها أو أن مخاطرها على الأقباط لا تعدو كونها مخاوف نفسية لا تعبر عن حقيقتها، ولكي أريحك أيضًا من عناء قراءة مقال توثيقي قد يبدو جافًا للبعض، فإنني أصرح لك بأن الإجابة على سؤالي هي "نعم، الدولة الإسلامية خطر على الأقباط"، ولكننا –كأقباط- لسنا أول المتضررين، ولذلك لا يجب أن نكون أول المتصدرين لمواجتها بالنيابة عن المتضررين الحقيقيين، كما لا يجب أن نكون السبب الرئيسي الذي يستخدمه البعض عند معارضته قيام الدولة الإسلامية، ذلك ببساطة لأن أول المتضررين من قيام الدولة الإسلامية -طبقًا لما نعرفه عنها من منظريها وما نراه من مؤيديها- هم المسلمون أنفسهم.
ولأنه يوجد عدة نماذج للدولة الدينية تبدأ من دول تدّعي المدنية ولكنها تصبغ قوانينها ودساتيرها بالدين كمصر والمغرب وتونس مثلاً، ووصولاً إلى نموذج الدولة الطالبانية، فإننا سنأخذ النموذج الأكثر شيوعًا وتنظيمًا وهو نموذج الدولة بحسب فكر الإخوان المسلمين، ولا يمكن دراسة فكر ومشروع الإخوان المسلمين دون التعرض لفكر منظر الجماعة وواضع خطوط مشروعها (سيد قطب) الذي ولد في أسيوط في أكتوبر 1906 ثم انتقل إلى القاهرة بعد ذلك بأربعة عشر عامًا ليلتحق بالدراسة الثانوية والجامعية ثم يتم ترشيحه لبعثة دراسية في الولايات المتحدة عام 1948.
تنقل سيد قطب بين حركات سياسيه مختلفة مثل الوفد والسعديين قبل أن يعتنق أفكار الإسلام السياسي ويروج لفكرة الحاكمية لله ويضع نفسه بذلك في مواجهة مجلس ثورة يوليو بعد أن كان واحدًا من أعضائها، فيتم إعتقاله وسجنه مع مجموعة كبيرة من زعماء الإخوان المسلمين وحُكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عامًا، إلى أن تدخل الرئيس العراقي آنذاك "عبد السلام عارف" لدى الرئيس جمال عبد الناصر وتم الإفراج الصحي عنه عام 1964، وفي سنة 1965 تم اعتقاله مرة أخرى بتهمة محاولة إغتيال جمال عبد الناصر وحُكم عليه بالإعدام وتم تنفيذ الحكم في نفس الأسبوع خوفًا من تدخل حكّام عرب آخرون للإفراج عنه.
وأخطر مؤلفات سيد قطب والتي تُعتبر بحق خارطة الطريق للأيدلوجية التي يعتنقها الإخوان المسلمين، حتى يُخال لك أنها المصدر الإيماني الثالث لأفراد الجماعة بعد الكتاب والسنة حتى وإن انكروا هم ذلك، أخطر هذه المؤلفات هي كتاب "معالم في الطريق" الذي ألّفه على شكل رسائل تم تجميعها فيما بعد. وما كان لنا أن نضع على أنفسنا عناء التعرض لخطورة أفكاره لو كانت قد انتهت مع الزمن ولم تتبنها جماعات إسلامية أيدلوجية تتخطى أجندتها مستوى الأوطان إلى فكر كوني يهدف إلى إخضاع العالم لسلطة الإسلام، مسترشدين في ذلك بهذا الكتاب "معالم في الطريق".
يبدأ سيد قطب الكتاب بعرض نقدي منحاز للثقافة الإسلامية، ويأخذك إلى الشرق ويعلن فشل الأنظمة الماركسية في تولي العدالة الإجتماعية بل ويعلن انتهاءها بالرغم من أنها كانت في أزهى عصورها (خمسينات القرن الماضي)، ثم يأخدك إلى الغرب فيعترف بتقدمه العلمي والمادي ولكنه يبشرك بأن هذا هو نهاية المطاف بالنسبة للغرب:
"كذلك الحال في المعسكر الشرقي نفسه.. فالنظريات الجماعية وفي مقدمتها الماركسية التي اجتذبت في أول عهدها عددًا كبيرًا في الشرق -وفي الغرب نفسه- باعتبارها مذهبًا يحمل طابع العقيدة، قد تراجعت هي الأخرى تراجعًا واضحًا من ناحية "الفكرة" حتى لتكاد تنحصر الآن في "الدولة" وأنظمتها، التي تبعد بعدًا كبيرًا عن أصول المذهب.. إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال.. لا لأن الحضارة الغربية قد أفلست ماديًا أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية.. ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره".
وبينما تجد نفسك في كوكب يتداعى من شرقه إلى غربه وقبل أن تبدأ في مناقشة فكرة انهيار الحضارات فقط لكونها حضارات غير إسلامية، وقبل أن تبدأ في إدراك أن الحضارات تمر بمراحل عمرية كالتي يمر بها البشر من الميلاد وحتى السقوط، وقبل أن تبدأ في تعداد الممالك الإسلامية و دول الخلافة التي بزغت وازدهرت ثم اندثرت، قبل أن تفكر في الخطوة التالية، وقبل أن تسألك نفسك لماذا يبشرك الكاتب بانهيار ممالك في أزهى عصورها الفكرية والعملية والإقتصادية والعسكرية وهي في عز مجدها، يوضح الأستاذ سيد قطب أن السبب في انهيارها المحتم هو عدم وجود "منظومة قيم" تقوم عليها هذه المجتمعات وهو ما يتوافر في الإسلام.
ولأننا أمام رجل داهية ما زال يجند الكثيرين بأفكاره حتى بعد مماته، فهو يجيب على تساؤلاتك حتى قبل أن تفرغ من استيعاب الفكرة السابقة، فلو سألت الشيخ سيد، ولماذا تغرق الدول الإسلامية من شرقها لغربها في التخلف –رغم ما تزعمه من حضارة-، وفي الفقر –رغم ما تتمتع به من ثروات- وفي الجهل –بالغرم من وجود منظرين فكريين مثله- وفي المرض، وفي انتهاك حقوق الإنسان، وفي كونها تتغذى على الغرب وعلومه كما حدث معه هو شخصيًا؟، يعلن لك الشيخ في بساطة.. لأن هذه الدول الإسلامية... "ليست إسلامية"!:
("وجود" الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة.. فالأمة المسلمة ليست "أرضًا" كان يعيش فيها الإسلام. وليست "قومًا" كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي.. إنما "الأمة المسلمة" جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي... وهذه الأمة -بهذه المواصفات! قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر- الأرض جميعًا.. ولا بد من "بعث" لتلك الأمة التي واراها ركام الأجيال وركام التصورات، وركام الأوضاع، وركام الأنظمة، التي لا صلة لها بالإسلام، ولا بالمنهج الإسلامي.. وإن كانت ما تزال تزعم أنها قائمة فيما يسمى "العالم الإسلامي").
ولأن الواقع الإسلامي مرير، ولأن لا الغرب ولا الشرق سوف يتخلون عن راية قيادة البشرية بسهولة بعد كل ما أنجزوه للعالم من تقدم، فإننا بحاجة إلى معالم في الطريق، الطريق من "البعث" والذي يتمثل في إيمانك التام بفكرة إحياء الدولة الإسلامية، ووصولاً إلى تولي القيادة.. قيادة العالم. ويعود سيد قطب ليؤكد أن مؤهلات قيادة الإسلام الجديد -القديم للعالم لن تكون بواسطة نهضة علمية يقودها علماء مسلمون، ولن تكون في شكل اختراعات واكتشافات تجعل العالم يتوارى خجلاً أمام القوة العلمية والتكنولوجية الصاعدة، ولكنها ستكون في شكل جديد يفتقده العالم وهو "العقيدة".
فالعالم –على حد وصف سيد قطب- لا يملك ما يقدمه في هذا المضمار، ولا يحمل قطب نفسه عناء تقديم الدليل على افتقار العالم من غربه إلى شرقه إلى "عقيدة" أو أن يسأل سكان العالم إن كانوا في حاجة إلى عقيدة أم لا، فالدولة الإسلامية التي سيضع معالمها لن يكون للناس فيها الكلمة العليا ليختاروا بين اتّباع عقيدة سيد قطب أو عدم اتباعها، إنها دولة ممنهجة مسيّرة بهدف إلهي نبيل لا يجب ان نحيد عنه بإضاعة الوقت في استطلاع آراء سكان هذا العالم في مدى احتياجهم لعقيدة سيد قطب، فالحكم لله عن طريق طليعته الذين اصطفاهم (المؤمنون بفكرة البعث الإسلامي)، ولهم مهمة سامية وهي تخليص العالم من جاهليته التي تقوم على الاعتداء على سلطان الله على الأرض، لتكون الحاكمية لله!
أما كيف يتم الإنتقال من مرحلة البعث إلى مرحلة "القيادة"، ولماذا يواجه الحكام المسلمين هذه الأفكار الدينية النهضوية باعتقال طليعة الله الذين سيعيدون الحاكمية لله؟ ولماذا تستقطب هذه الأفكار تلاميذ جدد كل يوم في العالم العربي والإسلامي؟، ولماذا لا يجب أن يستسلم الأقباط لفكرة "الرضا بالواقع" خوفًا من دولة البعث الإسلامي؟
للإجابة على كل هذا نلتقي في المقال القادم. |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|