CET 00:00:00 - 09/09/2009

مساحة رأي

بقلم: محمد عبد الفتاح السروري
علة الاجتهاد بين فقه الواقع وهيمنة السلف

* في عدد من جريدة الحياة (اللندنية) وعلى متن الصفحة المعنية بالتراث وقضاياه دار سجال بين ما طرحه الأكاديمي المغربى محمد الحداد فيما يخص مسألة الاجتهاد وبين الكاتب عبد الله على العليان، وكان لي في هذا السجال قول.
* (لا اجتهاد في نص) هكذا يكون البدء في الحوار مع أصحاب العقلية التي تمثل الأكثرية الغالبية من المشتغلين بالفكر الإسلامي اليوم، وبالطبع تمثل هذه المقولة (المبدأ) لباب تفكير غالبية عوام المسلمين على اختلاف مشاربهم. هذه المقولة التي تمثل أول مصدر من مصادر مصادرة فعل التجديد وإعمال العقل فيما ينقل إلينا من تراث السلف، فأداة النهي (لا) ليست في هذا المقام مجرد أداة لغوية لتوضيح المعنى بل هي أداة فعل وتنفيذ ليست مجرد قول عابر ولا رد مؤقت. بل هي المبدأ والمنتهى.
* وعندما مات النبي صلى الله عليه وسلم ترك لنا قرآنًا بين دفتي مصحف لا ينطق أوراقه بل يتكلم به الرجال كما قال في هذا المعنى يومًا ما علي بن أبى طالب، أي أن القول كما تفسر وكما نقول به ثم تواتر الفكر الإسلامى على مر الدهور وأصبح لدينا تراثًا هو في مجمله تراثًا بشريًا ناتجًا من التفسير (البشري) لكل ما ترك النبي (صلى الله عليه وسلم) من قرآن وسنة، وذلك هو بيت القصيد التفسير والتأويل، فالقضية إذًا هي قضية (التأويل) الذي أصبح مقدسًا وليس (النص) الذي هو مقدس بحكم انتسابه إلى مصدر إلهي، وعلى الرغم من أن (التفسير والتأويل) هو فعل ناتج عن فكر البشر في الأساس إلا انه تحول بحكم التقادم (في نسق يقدس الماضي أساسًا)، أقول تحول هذا المنتج البشري إلى مقدس هو الآخر اكتسب مهابة وجلال في مجمل أطروحاته لا تقل على مهابة المقدس بطبيعته ألا وهو النص الإلهي, ولكى يكون كلامنا أكثر تحديدًا نحاول أن نضع خلاصة ما نبغي طرحه في نقاط محددة.

أولاً:
* يقول الأستاذ (عبد الله العليان) أن قضية الاجتهاد لا تخص عصر من دون عصر أو جيل من دون جيل يقوم بها مثقف ثقافة تقليدية أو مثقف ثقافة حديثة أو حداثية، لكن المعايير والاشتراطات والمؤهلات هي الفيصل في التصدي لقضية الاجتهاد والتجديد وتلك مسألة محورية، ويكمل الأستاذ/ عبد الله متسائلاً من قال أن الاجتهاد لا يقوم به إلا الأوائل أو المثقفون التقليديون؟ إلى هنا انتهت تساؤلات الأستاذ/ عبد الله العليان وإذا سمح لى أن تبدأ إجابتي.
* لا يا أستاذ عبد الله.. إن قضية الاجتهاد أصبحت بالفعل تخص عصر وجيل دون غيرهم والذي يقوم بالاجتهاد الآن هم المثقفون (الناقلون)، فحتى التقليدي قد يبدع أما (الناقل) فلقد نأى بنفسه عن الإبداع ووقى نفسه شر الابتداع، أما قولكم أن الاشتراطات والمؤهلات هي الفيصل في التصدى لقضية الاجتهاد والتجديد فهو قول ينفيه الواقع نفيًا تامًا، فكثيرًا ممن خاضوا معارك التجديد (اجتهادًا) توافرت فيهم الشروط والمؤهلات بل مع هذا لم يسلموا من الاتهامات، بدءًا من طه حسين حتى نصر حامد أبو زيد مرورًا بالشيخ خليل عبد الكريم والمستشار/ محمد سعيد العشماوي وغيرهم كثيرًا مما لا يتسع المجال لذكرهم جميعًا، فالمؤهلات الاجتهادية متوفرة فيهم على اختلاف تخصصاتهم ومحاولاتهم ولكن غير المتوفر فيهم هو خروجهم من ذلك التقليد الذي تقول عنه أنه مذموم عند كثير من علماء المسلمين. نعم هم ذموه قولاً ومدحوه فعلاً وعملاً.
قل لى يا أستاذ عبد الله متى سمعت أذناك خطبة جمعة علقت بذهنك ولم تبارحه لأنها احتوت على فكر جديد أو قول غير معتاد سماعه مرارًا وتكرارًا؟ هل يستطيع أن يفعلها خطيب مسجد من على منبر؟ لكن يستطيع أي (تقليدي) أن يتهم أي مجتهد (أن ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة) وهو مطمئن تمامًا أن اتهامه يلقى استحسانًا ودون أن ينتبه المستحسنون أن إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة قول هو أساسًا مبني على اجتهاد ويا سبحان الله!!

ثانيًا:
* يتساءل الكاتب عبد الله علي العليان (من طرح قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان؟ من القائل حيث وجدت المصلحة أو إمارات العدل وأسفر عن وجهه فثم شرع الله ودينه؟ من القائل الجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين؟ ومن القائل أن الشريعة بناءها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها؟ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل)
وينسب الأستاذ عبد الله المبادئ والأقوال السابقة إلى الأوائل أيضًا الذي توافرت فيهم الاشتراطات والمؤهلات، إلى هنا تنتهي التساؤلات ولكي تبدأ تساؤلات أخرى ردًا على تساؤلات المتسائل.
* كل ما سقته من تساؤلات صحيح يا أستاذنا الفاضل، ولكني هاهنا أسأل لمن الهيمنة اليوم؟ هل هي للأوائل الذين استشهدت بأقوالهم السالف أم هي للأوائل الذين يمثلون بالفعل الثقافة التقليدية والذين أتهمهم الأستاذ محمد الحداد بفرض معاييرهم على المجتمع كله؟! أليس مع الحداد حق؟ أليس لأوائل (الثوابت) قصب السبق عن أوائل (المتغيرات)؟!
* أليس لأوائل (المنقول) مكانة في قلوب ومعنويات عوام المسلمين وصفوتهم على حد سواء أكثر بكثير من أوائل (المعقول).

* ثم نأتي للنقطة الأخيرة والتي يقول فيها الأستاذ/ عبد الله العليان فيما يخص مسألة العراق بأن الكاتب محمد الحداد قد صور المشكلة في تلخيص غريب، حيث أن (الحداد) قد علل أن كل طرف يدعى امتلاك الحقيقة المطلقة، وفي الحقيقة إنني هنا أرى أن الغريب ليس هو قول (الحداد) ولكن الغريب بالفعل هو رد الأستاذ/ عبد الله الذي يؤكد أن العراق في محنة سياسية وليست دينية، نعم هذا صحيح ولكن المؤكد أن هذه المحنة السياسية أحد أسبابها (حتى نكون موضوعين) هو الخلافات الدينية وأن بالفعل كل طرف من أطراف العراق المتحاربة يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، المفارقة هنا أن المحتل أيضًا يدعي امتلاك هذه الحقيقة المطلقة!! نعم أساس هذه المحنة ووقودها ديني ومذهبي وعقائدي وإلا بماذا نسمي هذا العداء السافر بين السنة والشيعة؟ ألا يستغل الاحتلال هذا العداء الديني في تأجيج الصراع؟ ويا ليت علماء السنة وأئمة الشيعة (يجتهدون) سويًا لعلهم يجدون لهذا الخلاف الذي أصبح لا مبرر له ولا معنى حتى يستطيعوا سويًا أن يجدوا طريقة لإخراج المحتل من بلادهم. وليس هذا فحسب بل يا ليت أحد المفكرين الأمريكيين (يجتهد) هو الآخر في محاولة لإقناع صفوة الساسة الأمريكيين بأن هذه الحرب لا معنى لها ولا مبرر ولكن يبدو أن الاجتهاد أصبح قضية غير محببة عند الغربيين أيضًا خاصة إذا تعلق الأمر بأمور السياسة والحكم وشن الحروب.

* هذا ما طرحه الكاتب عبد الله العليان في مجمل رده على الأستاذ/ محمد الحداد ولنا في النهاية تعليق:
- إن قضية الاجتهاد هي من أشد قضايا الفكر الإسلامي تعقيدًا لأنها ببساطة تعد هي القضية الكاشفة لنوعية العقليات المسيطرة على المشتغلين بالفكر الإسلامي وهم في غالبيتهم يقاومون التجديد مقاومة هائلة. وهم لا يخجلون من أن يطرحوا شعارهم القائل (تقديم النقل على العقل) وأن لم يطرحوا قولاً طرحوه فعلاً وذلك في التصدي لكل من يحاول التجديد، والشاهد للعيان أن الاجتهاد بعد الآن في العالم الإسلامي فعلاً منفيًا نفيًا تامًا، وكل ما يحدث هو الدوران حول نقطة ولكن بمسافات متساوية لا تخرج من فلك دائرة، هي في حد ذاتها دائرة السلف الصالح وما تركوه لنا من أفكار ومقولات، أصبح ثوابت ومبادئ العجيب في الأمر أن هؤلاء السلف هم أنفسهم لم يدّعوا ولم يدعوا إلى قداسة أقوالهم وتنزيهًا تلك التي رفعها إليهم المحدثون؟ بل كانوا يقولون قولهم في عصرهم بناءًا على متطلبات دافعهم وأن من هؤلاء السلف ليسو فعلاً سلف كما هو مفهوم من الخطاب العام للتقليديين، أي أنهم ليسو من الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين، أي أنهم لا يصدق فيهم الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقائل فيما معناه (أن خير القرون قرني هذا ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، ومع هذا تحول هؤلاء (القدماء) إلى سلف وما هم بذلك؟ وأصبحت اجتهاداتهم ثوابت قولية وفعلية منعت من التجديد وحددت حدودًا لا ينبغي الخروج عليها وإلا اعتبر من يفعل ذلك (ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة). وإلا فكيف يمكن تفسير هذه الحالة من حالة الجمود على (المنقول) قولاً وفعلاً وتقديسًا، إن حالنا بالفعل كما وصفه الأكاديمي محمد الحداد "نحن نرواح في المكان نفسه"، نعم نحن ندور في نفس المكان ثم نعود للمربع رقم واحد وذلك من أمد طويل وكل محاولة للخروج من المكان نفسه تواجهه بفكر أقل ما يوصف به أن فكر (الغيبوبة)، فكر غائب تمامًا عن الواقع فاقد للزمن وتائه عن المكان.
هل يمكن لمثقف غير تقليدى أن يطرح ما أسميه (فقه الواقع)؟ هل يستطيع اليوم مثقف غير تقليدى أن يواجه هذا الطوفان الهائل من الأقوال التراثية (بعضها ينسب إلى النبى مباشرة) دون أن يتهم بالتهم المعروفة سلفًا؟! جف الحلق من كثرة الحوار مع الذين يمثلون فكر الأمس وغالبًا ما ينتهي الحوار معهم إلى نقطة لا يمكن وصفها بالودية على أي حال.. قضايا كثيرة تمثل لب الحياة اليومية للمسلمين سواء في أوطانهم أو غربتهم ولا يزال فكر السلف هو المهيمن عليها تحليلاً وتحريمًا (أحد العلماء حرم السفر لبلاد الكفار إلا بشروط محددة حددها هو)، ويكفي أن نتابع سويًا نوعية الأسئلة الموجهة للعلماء في القنوات الفضائية ليلاً ونهارًا لنعرف ما في العقول من اهتمامات وما في الألباب من قضايا وهموم.
- أن تقديم النقل على العقل هو الأساس المؤسس لأيدلوجية المفكرين الإسلاميين بالنقل يستشهدون وبه يحتجون وأحيانًا يكفرون به المسلمين ويردون, نحن نحتاج أشد ما نحتاج إلى آليات جديدة في التعامل مع التراث الإسلامي، نحن نحتاج أشد ما نحتاج لإعادة قراءة كثير من ثوابت تفكيرنا قراءة نقدية تقوم على أساس ما كان يصلح للأمس أضحى لا يصح لليوم، ليس تجرئًا على دين الله ولكنها جرأة على فكر البشر الذين فسروا الدين وأصبح تفسيرهم مرجعًا وما هو بمرجع ولا حجة إلا على الذين ارتضوا أن يكون للإنسان سلطان عليهم، أما غيرهم ممن كفروا بغير سلطان الله فلا يعدوه حجة بل هو ناتج بشري آدمي قاله وعمل به آدمي مثله مثل كل البشر آدمي قد يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه فكر بشر، فكيف يمكن للاجتهاد أن يكون له دورًا وأن يؤسس لفقه الواقع في ظل الهيمنة الكاملة لفكر السلف.. كيف؟

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق