CET 10:48:06 - 10/09/2009

مساحة رأي

بقلم: سوزان قسطندي
فى أفريقيا:
كان للرهبانية التى أوجدها فى روما البابا أثناسيوس ومن معه من رهبان وادى النطرون تأثير غير مباشر فى إنتقال الرهبانية إلى شمال أفريقيا على يد القديس أوغسطين- الذى ترك روما عام 388م بعد أن عرف الرهبانية هناك ثم قصد مدينة هيبو Hippo بشمال أفريقيا حيث رُسِم قساً، وعندما صار أوغسطينوس أسقفاً على هيبو عام 396م أوجد نوعاً من الحياة الرهبانية بين الإكليروس فى أبروشيته ثم أوجدها بين النساء عندما جمع عدداً من العذارى اللائى عشن وفق قانون خاص كتبه لهن وسماه قانون "الرسالة رقم مائتين وإحدى عشر".. ولم يأتِ القرن الخامس الميلادى حتى كانت الرهبانية فى شمال أفريقيا منتعشة إنتعاشاً تاماً بين الجنسين.

فى آسيا:
فلسطين
إنتقلت الرهبانية إلى فلسطين بإنتقال بعض الرهبان الفارين من الإضطهاد الأريوسى إليها، غير أنهم عند وصولهم إليها وجدوا من سبقهم إلى نشرها هناك على النمط الأنطونى.. ومن أول المؤسسين للرهبانية فى فلسطين هو الراهب هيلاريون- والذى ولد فى غزّة عام 291م وتلقى تعليمه العالى بالأسكندرية حيث إعتنق المسيحية وتتلمذ على يد الأنبا أنطونيوس ثم عاد إلى مسقط رأسه ليعيش راهباً ولينشر الرهبانية بعد أن مهّدت لها الجماعات النسكية المعروفة بـ "أبناء وبنات القيامة".. ولذلك فإن التأثير القبطى هنا نلمسه فى إضفاء الطابع الرهبانى المصرى المتميز وفى سمته التبشيرية حتى لقد انتشرت الرهبانية فى كثير من جهات فلسطين.. وقد أسهم فى ذلك الإنتشار أيضاً بعض من نساء الغرب الثريات واللائى لمسن عن كثب الحياة الرهبانية فى وادى النطرون، ومنهن ميلانيا الرومانية التى بنت بأورشليم عدداً من القلالى وفتحت أبوابها للرهبان المصريين الفارين من الإضطهاد الرومانى وأنفقت عليهم الكثير من
مالها.

العراق وشمال بلاد العرب وأرمينيا وفارس
قامت الرهبانية والديرية فى العراق فى النصف الأول من القرن الرابع على يد أوجين المصرى الأصيل- والذى تتلمذ على يد الأنبا أنطونيوس والأنبا باخوميوس، وقد بنى أوجين ديراً على مقربة من الموصل، كما كوّن عدداً من الجماعات الرهبانية فى شمال بلاد العرب وفى أرمينيا وفارس.. ومن رهبان وادى النطرون الذين يُعزَى إليهم  تأسيس جماعات رهبانية فى العراق الراهب إبراهيم القشقرى، وقد أسس جماعات رهبانية على جبل عزلا بجوار نصيبين عام 502م وإرتدى رهبانه نفس الزّى الرهبانى الذى إرتداه رهبان وادى النطرون وساروا على نفس نُظُمهم.

آسيا الصغرى
وقد إنتشرت الرهبانية فى شرق آسيا الصغرى بعد أن إنتشرت فى أرمينيا على يد الراهب يوستاسيوس Eustathius - غير أنه يُنسَب إلى القديس باسيليوس الكبير تأسيس رهبانية آسيا الصغرى.. وكانت رهبانية باسيليوس من النوع الذى ساد فى وادى النطرون، وقد دأب  على الإتصال برهبان وادى النطرون وخاصة فى فى أوقات الأزمات التى تعرّضوا لها (إذ يُذكَر أنه أرسل إليهم تلميذه يوجين يعزّيهم ويطلب صلواتهم)، وغلب على نظام القديس باسل طابع الجماعة أو النظام الديرى، كما تبع الجماعة الرهبانية أو الدير كذلك ملاجئ ومدارس للأطفال.

سوريا
أما الرهبانية التى نشأت فى سوريا فى القرن الرابع الميلادى فيبدو أنها كانت ذات طابع خاص- مع تأثرها بالنظام الأنطونى.. ولعل أهم مظهر لها هو فى حياة الرهبان المعروفين بـ "العموديين"- نسبة إلى القديس سمعان العمودى مؤسسها، وهو راهب تأثر بالرهبانية المصرية غير أنه إتّخذ من الحياة فوق عمود أساساً لنسكه، وقد تمثَّل به فى ذلك بعض الرهبان.. غير أن هذا لم يمنع من وجود غيرهم من ساروا على النُظُم الأنطونية.. ووجه الشبه بين رهبانية العموديين ورهبانية وادى النطرون هو وقوف كل من هؤلاء وأولئك للدفاع عن الكنيسة أمام الهرطقات وتحويل الكثيرين إلى المسيحية، وبعد أن ذاعت شهرتهم صار الناس يلجأون إليهم لإستشارتهم فى أمورهم الدينية والدنيوية على السواء، وثمه شبه ثالث هو التنافس بين الرهبان فى مضمار الحياة النسكية إلى حد المبالغة
أحياناً والإمعان فى إضعاف الجسد.

أثر الرهبنة فى الحضارة :

ظلت سيرة أنطونيوس حديث المنابر فى بلدان أوربا والعالم، وإنتشر أثرها بين المؤمنين إنتشاراً هى جديرة به، فوعظ بها أمبروسيوس أسقف ميلان المفوّه وطالما قصّها أغسطينوس فيلسوف المسيحية فى الغرب بعد أن أصبح أباً لأولى الرهبانيات المنتظمة هناك.. وبدأت الرهبنة عهداً جديداً بعد أن أدخل إليها القديس باخوميوس نظام الشركة، فكانت أديرته العديده تشبه مدناً تقوم على أسس التعاون والتخصص وتقسيم العمل، فينما كانت جماعة تعمل بالزراعة وبالإنتاج المحلى عملت جماعة أخرى فى شحن المنتجات وبيعها فى الأسواق الوطنية والأوربية، وكان طبيعياً أن يحمل هؤلاء الرهبان الدارسون - مع الغلة- تعاليم المسيحية ومبادئ التقوى وحياة الفضيلة، ومن بين الرهبان القبط من تولّوا رعاية المؤسسات الجديدة فى الغرب، فظلت الرهبنة فى كل العالم رهبان يمارسون طقوس دينيةمرتبطة بالأم المصرية مصدر هذه الفكرة الروحية.
 لم تؤثر هذه البعثات فى الفكر الأوربى والثقافة الغربية فحسب وإنما تعدّت هذا إلى التأثير المباشر فى الحضارة والمدنية.. فعلى سبيل المثال لا الحصر أثبتت المقارنة المعمارية الأثرية  أن الأقباط هم أول من بنوا الأسوار العالية فى الجزر البريطانية وقد أقاموها على الطراز المصرى التقليدى القديم كما هو معروف فى الديرين الأبيض والأحمر بسوهاج وأديرة وادى النطرون، كما أن المقابر القديمة التى بُنيت فى أيرلندا وإسكتلندا حول القرنين الخامس والسادس الميلاديين قد بُنيت على النمط القبطى المميز.. وهكذا فقد تعدّى التأثير الرهبانى القبطى المجال اللاهوتى والأدبى والمجال الأخلاقى والخَدَمى إلى مجالات التجارة والمعمار والصناعات والفنون المختلفة.

أهم المصادر الأصلية للرهبانية :
الأنبا أنطونيوس أب الرهبنة في العالم•حياة أنطونيوس :

وقد كتب هذه السيرة العطرة القديس أثناسيوس الرسولى عام 357م باليونانية، وترجمها إلى اللاتينية إيفاجريوس وقد ساهمت هذه الترجمة فى إنتشار الرهبنة فى الغرب، وإقتبس منها القديس أغسطينوس فى إعترافاته، وقد قال عنها المؤرخ الألمانى هارناكHarnack  "أنه لا يوجد نص أثر فى مصر وآسيا الغربية وأوربا مثل سيرة أنطونيوس".

•التاريخ اللوزياكى Historia Lausiaca - وهو المعروف بـ "الفردوس" أو البراديسوس   Paradisusأو بستان الرهبان :
وقد كتبه الراهب الناسك بالليديوس عام 419- 420م وقدّمه إلى أحد معاونى الملك ثيئودوسيوس الثانى المسمى "لوزيوس"- ومنه أُخِذ إسم الكتاب الذى إشتهر بهر ولو إن إسمه الحقيقى عند الآباء الرهبان الأوائل كان "الفردوس" ، ويعتبر هذا الكتاب الوثيقة الأولى والأساسية التى قدّمت للعالم تاريخ الرهبنة فى مصر.

•هيستوريا موناخورم Historia Monachorum  - تاريخ الرهبنة فى مصر:
وهو عبارة عن وصف لرحلة رئيسية طويلى لبرارى مصر يتفرع منها رحلات جانبية كثيرة للمناطق الرهبانية المتعددة لبرارى وادى النيل قام بها رحالة يُظَن أنه روفينوس المؤرخ الشهير وبصحبته سبعة رفقاء رهبان من فلسطين، وذلك فى شتاء عام 394- 395م واصفاً فيها كثير من النساك والمتوحدين من أقصى الصعيد حتى أقصى الشمال.

•أبوفثيجماتا باترم Apophthegmata Patrum - أقوال الآباء :
ويرجع تاريخ "أقوال الآباء" إلى الأصول الأولى للرهبنة المسيحية مع بداية الحياة التوحدية فى برارى مصر حيث منبع الرهبنة ومؤسسوها العظام أنطونيوس ومقاريوس وباخوميوس.. وقد حملت هذه الأقوال طابعاً خاصاً يميزها عن بقية المؤلفات الآبائية الأولى، فهى ليست ذات هدف تاريخى أو مجرد سرد لسير القديسين أو أخبار معجزاتهم أو تسجيل لمواعظهم وتعاليمهم وإنما بدأت فى شكل كلمات للمنفعة ينطق بها شيوخ مختبرون ملهمون بالروح لتقديم التوجيه الشخصى النابع من خبرتهم الخاصة لأولادهم الخاضعين لإرشادهم، وكان الشيوخ الحاصلون على موهبة الكلمة لتوجيه المبتدئين فى الوحدة لا يتكلمون إلا كما يعطيهم الروح لمن يسمع ويطيع فإن لم يوجد من يطيع يحجمون عن الكلام مهما كان الإلحاح عليهم بالسؤال، لذلك صارت كلماتهم ثمينة غالية إذ يكمن فيها سر الحياة والخلاص.. ثم أخذت هذه الكلمات تتداول بين الرهبان كتقليد شفاهى ولكنها ظلت محتفظة بطابعها الخاص وظرفها الخاص الذى قيلت فيه حتى أنها لم تغنِ قط عن المرشد الروحى، فلم يكن هدفها هو التعليم النظرى وهكذا يظهر طابعها العملى الصرف.. هذا التقليد الشفاهى المتداول من الكلمات الملهمة بالروح والتى نطق بها الشيوخ المصريون المختبرون باللغة القبطية أولاً بدأ الإهتمام بتدوينه من أجل المنفعة العامة فى تجميعات صغيرة متفرقة هى بداية نشأة كتابات أقوال الآباء، وأغلب الظن أنه قد بدأ تجميعها فى مجموعات باللغة اليونانية فى أوائل القرن الخامس الميلادى (مثل تجميعات إيفاجريوس البنطى Logos Practicos ويوحنا كاسيان De Institutis Coenobiorum) ومن الواضح أنه لم يكن يجمعها خط فكرى واحد بل وُضعت بدون ترتيب وتبدو أحياناً كأنها متعارضة ولكنها مع ذلك كانت تمثل ذخيرة من الغنى الروحى الذى لا يضاهَى- ومن هنا جاء التقدير لها عند المؤرخين الكنسيين الذين إعتبروها أهم مصدر لأصول الروحانية الرهبانية فهل تمثل "المادة الأولى" لكل ما جاء بعدها من كتابات رهبانية.. وفى القرن السادس غالباً قام مؤرخ (غير معروف) بترتيب هذه الأقوال المتفرقة حسب قائلها ترتيباً أبجدياً مبتدئاً بأقوال أنبا أنطونيوس الكبير إلى أن إنتهى بأقوال أنبا أور.. وقد أعيد صياغة هذه المجموعة فيما بعد وتُرجِمَت إلى كثير من اللغات القديمة.

المراجع :
* دراسات فى تاريخ الرهبانية والديرية المصرية - د. حكيم أمين
* الرهبنة القبطية فى عصر القديس أنبا مقار - الأب متى المسكين
* أثر القبط فى حضارة أوروبا المسيحية - د. كرم نظير خلّة
* مصر فى فكر الآباء - القس أثناسيوس إسحق
* حياة الأنبا أنطونيوس بقلم البابا أثناسيوس الرسولى- ترجمة ، رقم الإيداع بدار الكتب 20005/ 2004
* النص الكامل لـ : هستوريا موناخورم - تعريب الراهب بولا البراموسى، الناشر أبناء الأنبا موسى الأسود
* بستان الرهبان - الطبعة الثانية، مطرانية بنى سويف والبهنسا

لقراءة الجزء الأول من هذا الموضوع أنقر هنا

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا