وطني غيور أم خائن لوطنه
بقلم: لطيف شاكر
أقلت البارجة بالاس الموضوعة تحت إمرتي من مصر رجلا قبطيا ممتاز الشخصية وخطير الشأن بوصفه احد زعماء تلك الطائفة.....وحدثني عن بلاده .صرح لي بأن اية حكومة كانت هي في رأيه أفضل لمصر من حكومة الاتراك وبأنه انضم الي الفرنسيين بدافع الرغبة الوطنية في تخفيف عذاب مواطنيه فخذلهم الفرنسيون..وأن المصريين لايزالون يأملون بواسطة الحكومات الاوربية ان يصلحوا الامر في بلاده وان رحلته حتما ستؤدي الي هذه النتيجة.( ماكتبه ربان البارجة ادموندز)
ولد يعقوب يوحنا في ملوي عام1745م وبدأ يتعلم كما يتعلم أقرانه في كتاب القرية وكان ذكيا طموحا فاستطاع أن يتفوق علي أقرانه ولما بلغ العشرين من عمره ألحقه أبوه في خدمة أحد الكتبة من أقاربه , وكان قريبه الكاتب يعمل في جباية الضرائب لاحد المماليك في ذلك العصر , فتعلم أصول المهنة بما فيها المعلومات الادارية والحسابية .
وبدأ نجمه في الظهور من خلال عمله لدي سليمان بك ( من ابرز مماليك علي بك الكبير ) واكتسب مهارة واسعة في التنظيم والادارة ووصل الي ان يصبح مديرا هاما لماليته , ومن خلال عمله لمس عن قرب أحوال مصر السياسية والمالية والعسكرية وعرف خباياها .
ومن الاشياء العديدة التي تعلمها من عمله مع المماليك أنه أتقن ركوب الخيل واستعمال السيف وآلات الحرب الأخري , وقد تزوج من ابنة عمه حسب عادة أهل القري وأنجب منها ولدا ولكن مالبث أن مات أبنه ولحقت به أمه في وباء الطاعون الذي كان كثيرا ماينتشر في مصر , وظل وفيا لزوجته القبطية لمدة 12سنة ثم تزوج من قتاة سورية من حلب .
وحينما أحتل الجيش الفرنسي مصر طلب بونابرت من المعلم جرجس الجوهري أن يرشح له بعض رجال الاقباط المتخصصين في الادارة حتي تسير الامور كما كانت من قبل¸فرشح له خمسة من الاقباط ومعهم يعقوب حنا فقام بونابرت بتعيين الخمسة في مصر أما يعقوب فقد عينه مديرا عاما لتموين وإمداد الحملة الفرنسية في الوجه القبلي وهوعمل كبير وضخم جدا لاطعام 30 ألف جندي ينتشرون في بلاد مصر وقراها .
وقد تعددت مواهب هذا الرجل العملية فقد اسند اليه توزيع الضرائب علي أهل الوجه القبلي و جبايتها من قبل الجنرال ديزيه , فنفذ الاعمال الموكلة اليه بكل دقة ومهارة فائقة حتي أن شريف مكة أطلق عليه لقب "عظيم حملة ديزيه في الوجه القبلي ” .
لماذا أنضم يعقوب الي المماليك االثائرين ؟
اشتهر الاقباط بالعلم والكتابة إلا ان المعلم يعقوب كان منصرفا عن حرفة الكتابة والعلم الي اقتناء الاملاك والتجارة , ولما كان معاشرا لظلم العثمانيين الاتراك علي بني جنسه من المصريين المسيحيين فقد نمت في عقله فكرة طرد هؤلاء الاوباش المحتلين , وبالرغم من أنه تعدي حدود الفقر وأصبح يتعامل مع كبار الحكام في الدولة , الا أن هذا لم يمنعه من أن يشعر بمعاناة المصريين عموما والاقباط خاصة من الذل والهوان من ظلم هذا الحاكم الظالم لمدة أكثر من 50 سنة من عمره , ولكن كانت هناك قوتان ظالمتان تحكمان مصر وهما الاتراك االعثمانيين والمماليك فانضم الي الثائر المملوكي مراد بك ضد العثمانيين .
ففي سنة 1786م رافق مراد بك في حربه ضد الاتراك العثمانيين , وكان له نصيب من النصر االذي أحرزه مراد بك كما اشترك مع المماليك في حروبهم وغزواتهم .
وقلد يعقوب عادة المماليك في الرفاهية والبحبحة وفي استقبال الضيوف والاحتفال بضيوفهم الكبار, ويصف أحد الفرنسيين بعد دعوته الي الغذاء في بيت يعقوب - وبعد ان شاهد الخدم والحشم والجواري السودانيات والحبشيات -قائلا" ويطول بنا الكلام إذا وصفنا كل ما كان يحيط بالمعلم يعقوب من مظاهر الأبهة والمجد...." .
حصول يعقوب علي أعلي لقب تمنحه فرنسا "جنرال"
أتهمه كثيرون بأنه أنضم الي الفرنسيين لمنفعته الشخصية , ولكن من المعتقد ان الشعارات التي أطلقتها الثورة الفرنسية من حرية ومساواة وعدل واخاء قد جذبت المعلم يعقوب اليهم ووضعت في نفسه أملا في تحرير بلاده من وطأة الاستعمار العثماني والمملوكي معا .
وبعد ان تعامل يعقوب مع الفرنسين وعرف افكارهم عن الحرية والعدل والمساواة نبذ ولاءه للمماليك والعثمانيين وفكر في ان يستفيد من الفرنسيين في تكوين نواة فرقة وطنية لأول مرة في مصر لحماية الاقباط من اي اعتداء يتعرضون له فجمع يعقوب الفين من شباب الاقباط من الذين كانوا يعملون مع الفرنسيين كصناع وعمال في الصعيد ويفهمون بعض الفرنسية ووضعهم تحت التدريب العسكري الفرنسي المتحضر .
وقاد يعقوب الفيلق الفبطي بعد ان منحه الفرنسيون لقب جنرال ووهبوه سيفا رمز الشجاعة والبطولة كما منحوا ابن اخيه لقب كولونيل الذي حارب مع عمه ضد الاتراك .وكما يقول الاستاذ عبد العزيز جمال الدين بكتابه "المسيحية في مصر" اصدار اخبار اليوم: وهذه الرتب لم يصل اليها قبطي في جيش مصر منذ احتلال العرب مصر حتي وقتنا هذا. بل وصلت الندالة والسفالة بمرشد الاخوان المسلمين السابق مصطفي مشهوربأن طلب عدم دخول الاقباط الجيش لانهم خائنون ولايأتمن لهم...ياللعار والخزي
وقد قام يعقوب بحماية الاقباط من عامة المسلمين وغوغائهم والحشرات كما كان يحلو للجبرتي تسميتهم من القتل والاغتصاب للمسيحيين الذين عاشوا معه في قلعته في الوقت الذي أباد فيه المسلمون المسيحيين الموجودين في احيائهم ذبحا وقطعوا رقابهم لاجل الحصول علي بقشيش من العثمانيين الاوغاد .
وفاته
لقد وافته المنية في 16 أغسطس عام 1908م في اليوم السادس من الرحلة علي ظهر المركب الانجليزي بالاس بقيادة الربان جوزيف إدموندز- الذي كان له دور فعال في نقل مااسري االيه يعقوب عن مشروع استقلال مصر - ويؤكد بعض المؤرخين ان موت يعقوب كان علي أثر إسهال حاد قضي عليه بفعل قدح القهوة التركية التي ضيفه بها حسين باشا القبطان قبيل سفره وكانت البارجة بقرب جزيرة رودس ولم يلق جثمانه في البحر كما تقضي بذلك تقاليد السفن بل حفظ –لمنزلته الخاصة- حتي ووري الثري في جبانة" سان مرتان" بمرسيليا بجوار توأم روحه وصديقه الودود الجنرال ديزيه وشيعت جنازته في احتفال مهيب .
من ثمارهم تعرفونهم
اولا: خدمات يعقوب الادارية والمالية
تعرف به الفرنسيون للغني الذي وصل اليه وشهرته في الاعمال التجارية ولقوة شخصيته , وتميزه بالنشاط والحزم , وشعرالفرنسيون انه فارس شجاع , فالقيت علي عاتقه مهمة لايتستطيع غيره النهوض باعبائها . فقد نهض بالادارة المالية للوجه القبلي كله من توزيع الضرائب وتحصيلها بنظام دفتري وترتيب حتي لايظلم احد . واستطاع التوفيق بين الاوامر الادارية الجديدة التي تتبعها دولة متحضرة والانظمة القديمة المألوفة في مصر منذ أيام البطالمة والرومان والعرب حتي الاحتلال العثماني لمصر .
ثانيا: حماية المسلمين من ساكني مصر
وقد سبق ذكرها في المقالة السابقة حيث احتج بشدة علي تصرفات القائد الفرنسي مليار في احتجازه بعض الشيوخ لحين سداد الضريبة وقد سمع له مليار وأخلي سبيلهم وعمل علي تقسيط الضريبة حسب قدرتهم المالية .
ثالثا : حماية الاقباط من الابادة والفناء اثناء ثورة القاهرة الثانية سنة 1800 م متصديا للاتراك والمماليك وبعض رعاع المسلمين بعد نهب وسلب بيوت الاقباط والشوام, وان كان لم يفلت من ايديهم البغيضة الاقباط القاطنين بعيدا عن منطقة الازبكية وتخومها منطقة نفوذ الجنرال يعقوب .
رابعا: المعلم يعقوب ينجح في تطبيق نظام التموين حيث استطاع بذكائه ان يتحمل مسئولية امداد الشعب المصري والجيش الفرنسي باحتياجاتهم من المواد التموينية .
خامسا : أنشأ نظام البريد الاول في مصر حيث نظم فرق من الهجانة تتولي الاتصالات وتسليم البريد بين انحاء البلاد المختلفة بمايشبه البريد في العصر الحديث .
سادسا : تشكيل الفيلق العسكري وتمويله ذاتيا من امواله الخاصة ويقول د.شفيق غربال عن هذا الفيلق ( كان وجود الفرقة القبطية أول شرط اساسي يمكن رجلا من افراد الامة المصرية من ان يكون له اثر في احوال هذه الامة اذا تركها الفرنسيون وعادت للعثمانيين والمماليك يتنازعونها ويعيثون فيها فسادا .
رحيل الجنرال يعقوب
عندما رحل يعقوب مع جلاء القوات الفرنسية عن مصر رافقه عددا من اقربائه وكثير من جنوده واعوانه وقلة من المسلمين وسمي هذه المجموعة بالوفد المصري.ولا يمكن فصل هجرة المعلم يعقوب عن ثمارها الانسانية فقد اسفرت اعمال رجاله المغتربين عن ملامح وجه مصر وسأكتفي بذكر مثلين فقط أختم بها مقالاتي عن يعقوب الفذ :
الياس بقطر صاحب أول موسوعة للقاموس العربي الفرنسي, وقد عينه نابليون مترجما لجيشه وساعد علماء الحملة الفرنسية في وضع المرجع الكبير كتاب "وصف مصر " وبعد هجرته نال مركزا علميا ساميا بفرنسا وعين مدرسا بمدرسة اللغات الشرقية بباريس ومما يجدر الاشارة اليه انه اول من درس الفرنسية من الاقباط وتفوق فيها واتقنها .
يوحنا الشفتشي عالم القبطيات وله كل الفضل في تعليم شامبليون اللغة القبطية التي أدت الي فك شفرة حجر رشيد . وبعد ان اعتمدشامبليون في بحثه عن مصر أعتمادا منهجيا علي اللغة القبطية وتأكد من ان آخر مراحل التكلم بلغة مصر هي المرحلة القبطية قصد يوحنا ليأخذ دروسا خصوصية في نطق اللغة القبطية , ومن هنا كان انغماس شامبليون العميق في اللغة القبطية التي جمع قواعدهاووضع المعاجم لمختلف لهجاتها حتي اتقنها تماما بمساعدة يوحنا الشفتشي ومثابرته معه واستطاع ان يصل الي نطق الرسوم الهيروغليفية وكان حدثا مدويا في العالم كله .
وهذا هو يعقوب العظيم ..... ستظل آثاره تقطر دسمًا |