بقلم: محمد عبد الفتاح عبد السروري
في مجمل حياتنا العامة نستطيع أن نرصد عده أنواع من الثقافات الغائبة عن نسق تعاملاتنا وتفكيرنا مثل ثقافة النظام، ثقافة النظافة، ثقافة الاختصار وهذا على سبيل المثال وليس الحصر ومن ضمن الثقافات الغائبة عن حياتنا قولاً وفعلاً ما يمكن أن نسميها ثقافة الاعتراف.
وأعني بثقافة الاعتراف هنا ذلك النسق من التفكير الذي يضع الأحداث والأقوال المعاصرة منها والتاريخية يضعها في سياقها الحقيقي هو ذلك النسق من التفكير الذي يرصد الأفعال والأقوال رصدًا تجريديًا بعيدًا عن الأهوال والنوازع العاطفية والوطنية والدينية والمقصود بالاعتراف هنا ليس الإدانة ولكن غاية المقصود هو التشخيص إذا جاز التعبير.
ومن المعروف إن أول مرحلة من مراحل العلاج هي صحة التشخيص لأنه بدون التشخيص الصحيح للحالة المرضية المقصود بالمرضية هنا العلة سواء كانت صحية أو اجتماعية أو اقتصادية... بدون هذا التشخيص الصحيح لن يصبح العلاج وتلك بديهية لا خلاف لأهل العقل عليها فما هو قولنا إذًا إذا كنّا إزاء حالة مرضية ترفض أساسًا الاعتراف بحقيقة حالتها حينئذ سوف نجد أنفسنا أمام وضع ما قبل التشخيص وتلك مأساة أخرى وهذه المأساة التي أتحدث عنها ليست من محض خيالي بل هي حقيقة نتعامل معها دون أن نلتفت إليها ودون أن نعتبر أن ذلك في حد ذاته مشكلة.
إن عقليتنا في تكوينها العام ترفض رفضًا قاطعًا أن تقوم بإدخال ثقافة الاعتراف في صميم حياتها وجوهر تفكيرها وبخاصة إذا تعلق الأمر بحادثة تاريخية ويزداد الأمر وضوحًا إذا كانت هذه الحادثة التاريخية حادثة أو واقعة دينية فحينئذ يتم الإلغاء الموضوعي تماما لرصد الحالة التي نحن بصددها ويدخل الحوار مغلفًا بالفكر في إطار إما التكذيب أو التبرير حتى لو تعارض هذا التبرير مع المنطق ومع الواقع المعاش. ولكي يكون كلامنا أكثر تحديدًا نحاول أن نصوغ خلاصة ما نبغي طرحه في المثال التالي.
تعلمنا جميعًا في كتب التاريخ المدرسية أن المصريين رحبوا بالمسلمين الفاتحين خلاصًا لهم من ظلم الرومان ومن تعسف جنودهم لكن كتب التاريخ المدرسية لا تذكر لنا أي شيء عمّا فعله عمرو بن العاص بالمصريين ولا كيف عاملهم ولا تذكر لنا هذه الكتب أيضًا كيف كان الحكم آنذاك وتتجاهل تمامًا أن أقباط مصر قاموا بعده ثورات ضد الغزاة المسلمين (والغزاة هنا اعترافًا مني بأن ما حدث لمصر من قبل المسلمين العرب كان غزوا وإقرارا لثقافة الاعتراف التي أطالب بها) المفارقة أن الرسول (ص) نفسه كان يسمي حروبه غزوات ولم يجد غضاضة في ذلك.
ولكن يبدو أن مسلمي هذا الزمان لا يقتدوا بالنبي الكريم في تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية وليس هذا فحسب بل أن الصورة المتخيلة عن الغزو الإسلامي لمصر صورة وردية تمامًا يغيب فيها العقل وحسابات المنطق، فبعض كتب التاريخ تذكر لنا أن المصريين لم يدخلوا في الإسلام أفواجًا في أول الأمر بل أن الإسلام نفسه انتشر بين المصريين في المائة الثالثة بعد دخول عمرو بن العاص لمصر هذا غير تفاصيل كثيرة لا مجال للحديث عنها الآن والسؤال ما هو تشخيص المفكرين وعلماء الفضائيات الإسلاميين لما حدث لمصر من قبل العرب المسلمين هل يعدونه غزوا واحتلالا أم يعتبرونه فتحا مبينا وهل يعترفون تجريدًا أن حجة المسلمين الأوائل (والأواخر أيضًا) هذه الحجة لا تختلف عن حجة أي محتل يحتل أرضًا ويعطي لهذا الاحتلال تبريرًا يصوغه هو كيف يشاء؟! ويعطي له أبعادًا وقيمًا إنسانية من وجهه نظرة.
وثقافة الاعتراف ليست فقط غائبة عن شرقنا السعيد بل هي أيضًا كثيرًا ما تغيب عن الغرب. وفي تصريح مؤخرًا للرئيس الفرنسي قال فيه أن الاستعمار ليس مسئولاً عن التخلف في أفريقيا وهذا التصريح يوضح ما أبغي توضيحه فعندما تغيب ثقافة الاعتراف تسود ثقافة التضليل ولكن الفرق بين النسق الشرقي في الاعتراف والنسق الغربي هو أنهم في الغرب أحوالهم يعترفون إن لم يكن على المستوى الرسمي فأنه يكون على المستوى الشعبي (عدد الأشخاص الذي خرجوا في مظاهرات شعبية ضد الاحتلال العراق في الغرب يفوق عددهم في الدول العربية والإسلامية) وهذا النمط غير موجود لدينا فنحن في الشرق غالبًا لا نعترف، ولكن نصر ويبدو أن هذا الموضوع له علاقة بالثقافة العامة فالثقافة العامة في الغرب تقر الاعتراف على اعتبار أنه شكل من أشكال التطهر أما عندنا فإن الاعتراف مقرون بالفضيحة والعار عندهم هو الأساس وعندنا هو الاستثناء.
ولنقارن على سبيل المثال نوعيه المذكرات التي يكتبها أصحابها في الخارج والتي تحتوي على كثيرون من الاعترافات المخجلة وبين مذكرات مفكرينا وسياسينا المملوءة بالمجد.
إن أول مرحلة من مراحل مواجهة أي مشكلة هو الإقرار بوجود هذه المشكلة هو الاعتراف بأنها موجودة وبأنها تمثل مشكلة فلا يكفي فقط بوجود حالة بل يجب أن يتم تشخيص هذه الحالة على أنها مشكلة وهذا لا يتسنى إلا بالاعتراف.
ثقافة الاعتراف ثقافة متحضرة تنتقى للعالم المتقدم وثقافة الإنكار ثقافة متخلفة ولا تنتقى إلا للعالم المتخلف الآن، ففي الاعتراف رصد وتحليل وفى الإنكار تضليل وتغييب.
إن العرب والمسلمين يحتاجون أشد ما يحتاجون في هذه المرحلة أن يعترفوا بأننا نعاني ما في تحليل أحداث تاريخنا وفي رصدنا لحقيقة واقعنا، يجب أن نعترف أننا نبنى كل آمالنا على هداية أعدائنا للطريق القويم أكثر مما نبنيه على هداية أنفسنا للطريق نفسه يجب أن نعترف أننا نركز في معظم تحليلاتنا السياسية والتاريخية على نظرية (لوم العدو) أكثر مما نركز على لوم أنفسنا المفارقة هنا أننا أحيانًا نلوم العدو على أفعال هي نفس الأفعال التي نقرها نحن لأنفسنا إن فعلناها نحن وخاصة إذا كانت باسم الدين والحق المقدس أساس الفعل واحد إن فعلناه نحن صار (فتحًا) وإن فعلة الأعداء صار (احتلالاً) ألا يعد هذا نوعًا من أنواع التدليس على الذات وعلى العقول السوية؟؟
وأخيرًا وليس آخر إن أول شيء يجب علينا أن نعترف به هو أن نعترف أننا في حاجة لنشر ثقافة الاعتراف هذه الثقافة الغائبة عن جوهر تفكيرنا لأن هذه الثقافة تمثل أولى مراحل الرصد والرصد أول مراحل التشخيص والتشخيص بداية المواجهة والمقاومة.... تُرىَ هل نحن راغبين فعلاً في المواجهة والمقاومة أم أننا نؤثر كعادتنا إنكار المشكلة أساسًا فنستريح من مواجهتا ويستريح أعدائنا من مقاومتنا....
سؤال فهل من إجابة؟ |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|