بقلم: إيليا مقار النهراوي
ملخص المقال السابق:
نظرًا لوجود نماذج ممتدة للدولة بمفهومها الديني (الإسلامي)، فقد اخترنا نموذج الدولة بحسب فكر الإخوان المسلمين كما وضع ملامحها الشيخ سيد قطب الذي تم إعدامه عام 1965م. وقد اخترنا هذا النموذج نظرًا لشيوعه وتنظيمه وأهدافه التي تتخطى حدود الأوطان إلى إخضاع العالم لدولة إسلامية تكون لله فيها الكلمة العليا -أو ما يُعرف بمبدأ الحاكمية لله-، ورأينا في المقال السابق كيف مهّد سيد قطب في كتابه "معالم في الطريق" لفكرة حاجة العالم إلى قيادة جديدة قبل أن يبدأ في شرح معالم الطريق للوصول لهذه القيادة.. قيادة العالم!
بدأ سيد قطب مقدمته بعرض نقدي منحاز للثقافة الإسلامية، فيعلن فشل الأنظمة الماركسية الشرقية في تحقيق العدالة بينما كانت آنذاك في أوج نجاحها، ثم يعلن فشل الغرب وإفلاسه في تقديم الجديد للعالم رغم مظاهر القوة العسكرية والإقتصادية والتكنولوجية التي يقر بها سيد قطب على إستحياء، ولكنه رغم هذا يعلن فشل كل هذه الحضارات، وأن العالم بات في أشد الحاجة إلى قيادة جديدة، قيادة لن تقدم للعالم الأفضل عل النواحي العلمية والتكنولوجية والإقتصادية..إلخ، فقطب يعترف مقدمًا بصعوبة تقدم أمّته في هذه الميادين، بل أن هذه القيادة الجديدة ستقدم للعالم ما يفتقر إليه ألا وهو الإفتقار "لمنظومة قيم" أو ما أعاد تسميته فيما بعد بشكل أكثر تحديدًا بالإفتقار إلى "عقيدة". ولا يقيم قطب أي دليل على عدم وجود عقيدة في العالم سوى العقيدة الإسلامية بل ولا يحمل نفسه عناء استطلاع رأي سكان هذا الكوكب إن كانوا في حاجة إلى عقيدته أم لا!
معالم الطريق:
كانت هذه هي المقدمة التي مهد بها قطب لرحلة قيام الدولة الإسلامية العالمية، الرحلة من البعث (الإيمان بفكرة الدولة الإسلامية) وحتى الوصول إلى قيادة الإسلام للعالم، وقبل أن نسترسل في معالم الرحلة يجب ألا نغفل عن أننا لا نقوم بدراسة فكر سيد قطب وحده، بل فكر الإخوان المسلمين واجندتهم وغاياتهم. بل يمكننا القول أننا ندرس فكر الإسلام السياسي ككل، من الإخوان وحتى تنظيم القاعدة، وأن الفرق بين جماعة الإخوان المسلمين والجهاديين وغيرهم من الجماعات التي تنتهج العنف لا يعدو سوى أن يكون اختلاف في المرحلة التي أنجزتها كل جماعة على الطريق الذي وضع ملامحه سيد قطب، الطريق إلى سيطرة الإسلام -بحسب مفهومهم- على العالم.
يبدأ سيد قطب أولى خطوات الطريق بوجوب بعث المنهج القرآني وبناء العقيدة قبل الخروج لمواجهة العالم. ويقارن بين هذه الخطوة وخطوات الإسلام المكي الأول، وكيف قضى محمد (نبي الإسلام) ثلاثة عشر عامًا يزرع العقيدة في القلوب قبل أن يمهد لقيام الدولة على الأرض. ويقُيم قطب حال العرب قبل ظهور الإسلام ويظهره في أحط الصور الإجتماعية و الأخلاقية ويشرح كيف كانت حالات الرذيلة والشذوذ وتبادل النساء منتشرة عند بعث الرسالة المحمدية، وهي اتهامات -إن صحت- لوجب الشك في أصول جميع من عاشوا هذه الفترة، بمن فيهم أوائل المسلمين أنفسهم! ويصل قطب في نهاية هذه الخطوة إلى نتيجة وهي أن قيام الدولة الإسلامية على الأرض، يجب أن يسبقه إحياء العقيدة في قلوب المسلمين.
وقبل أن ننتقل إلى الخطوة التالية، ينبغي أن نسأل قطب والسائرين في فلكه: كيف يمكن إثبات إنجاز هذه الخطوة قبل الإسترسال إلى الخطوات التالية؟ فالعقيدة هي فكرة شخصية باطنية، لا يمكن قياسها بوسائل القياس التقليدية! وأعتقد أنه لصعوبة قياسها ظهرت طريقة استساغها المسلمون للقياس وهي الإسلام الظاهري، فلكي تثبت أنك من طليعة الله في أرضه وممن اصطفاهم الله لإعادة حكمه يجب أن تظهر عليك معالم البعث الإسلامي، ولعل هذا هو السبب في امتلاء الدول الإسلامية بالمنافقين، فالمساجد تعج بالمصلين بينما يمتلئ الشارع بالعنف والتحريض والكراهية، وتغطي حوائط المصالح الحكومية السور القرآنية والأحاديث النبوية بينما يجلس تحتها مرتشين وموظفين يكرهون العمل والإنتاج، والبيوت في العالم الإسلامي تهتم بإبراز أسلمتها بينما نسب الطلاق مخيفة ووضع المرأه مشين والأبناء يتم إرضاعهم الكراهية والحقد كجزء من الإيمان!
ومن هنا تبدأ الخطوة التالية وهي ظهور المجتمع الإسلامي، وكما حدث في الخطوة الأولى، يقارن قطب بين مجتمع الإسلام الأول ومجتمع الدولة الإسلامية الذي يضع معالمها، فيعلن ان الإسلام –وهو دين يضع أسس الحياة ويرسم تفاصيلها- لا يستطيع أن يعيش في مجتمع جاهلي، ولذلك قامت الدولة الإسلامية تحت قيادة محمد (نبي الإسلام)، ومن بعده كل قيادة إسلامية تهدف لرد الحاكمية لله وفرض سلطان الله على الأرض.
ولو توقف الأمر عند إحياء الإسلام بحسب مفهوم الإخوان في قلوب المسلمين، ولو توقف الأمر عند إظهار هذا الإسلام في المجتمع، لما كنا قد اهتممنا بالتعرض لهذه الأفكار، فهي شأن إسلامي داخلي، ولكن الأمر –للأسف- لا يتوقف عند هذه النقطة، فالخطوة التالية تضع الإسلام في مواجة العالم، بهدف السيطرة عليه شاء أم أبى! في خطوة تُظهر أن صراع الحضارات فكرة إسلامية المنشأ إتهمنا بها الغرب وما زلنا نشعره بالذنب بسببها بينما هي فكرة إسلامية منذ قيام الإسلام بفتوحاته وغزواته، ومستمرة حتى هذه اللحظة، ليس في فكر القاعدة وحسب بل أنها أكثر تنظيمًا ومنهجية في فكر الإخوان المسلمين، هذه الخطوة الخطيرة هي "الجهاد في سبيل الله".
وأعترف أني عندما استعرض باب الجهاد حسب مفهوم قطب والإخوان، لا أستطيع أن أقف على الحياد، فأي حياد عندما يتحدث شخص عن القتل والإكراه لنشر عقيدته وتسليم العالم المحترق لله "على المفتاح" كما يقولون، وأي استعراض لرأي ورأي آخر وقد انتهت مرحلة الآراء، ففي فكر الإخوان -كما سنرى- كل ممالك وأنظمة العالم سواء ديمقراطية أو غيرها هي أنظمة غير إلهية، يجب العمل على تدميرها لكي يقرر الناس "عن طيب خاطر"، وفي خضم كل هذا "الدم" الخضوع لسطلة الله! إننا أمام حاله دموية من الفاشية والعنصرية، بل يتجاوز الأمر كل هذا إلى المرض النفسي الجماعي! وكما كان الحال مع هتلر الذي آمن بسيطرة جنسه وأفضليته على العالمين، يؤمن أتباع هذا الفكر بتفوق الإسلام وقيمه على كل ما أنتجته وما زالت تنتجه خليقة الله في الأرض من حضارة، وهو تفوق لا يجعله يضع الإختيار للناس لقبوله من عدمه، بل يفرضه فرضًا بتقويض إلهي بالإجهاز على كل حضارات العالم لإقامة حكم الله، وكنت أحسب أن الله قادر على كل شيء، يقول للشيء كن فيكون!
في استعراضه للجهاد يظهر قطب المراحل التي تدرجت فيها الوصايا الإلهية عند الأمر بالجهاد في الإسلام، يقول قطب أن الإسلام بدأ بالأمر بالجهاد لدفع الضرر، ثم تطور الأمر بالجهاد إلى تقسيم المخالفين إلى "أهل صلح" و"أهل حرب" و"أهل ذمة"، ثم تطور الأمر بالجهاد –مع ازدياد قوة المسلمين- إلى الأمر بالقسوة والغلظة مع أهل الحرب وأهل الذمة، وانتهاءًا بقتال أهل العهد أيضًا الذين ارتبط المسملون معهم بعقود عهد مؤقتة أو مستديمة! وبهذا، يظهر الإسلام –الذي يبشرننا الإخوان ببعثه- بدين في مواجهة العالم، وفي صراع مع حضاراته وقيمه وإنجازاته بخيرها وشرها.
ويظهر قطب هنا -ومن بعده المؤمنين بفكر الإخوان- كباعة مهرة لبضاعة سيئة، بل بضاعة مُلغّمة معدة للإنفجار في وجه كل من لا يقبلها. ففي وسط كل هذه البحار من الدماء يجلس قطب ليتغزل في "واقعية" هذا المنهج و"حركية" هذه الخطط "الإلهية"! ويحمل هنا قطب على من يقصرون الجهاد في الإسلام على جهاد الدفع والمنادين بأن الإسلام قد نهى أتباعه عن قتال المسالمين الذين "لا يحاربوننا في الدين"! بل ويسميهم بـ"المهزومين روحيًا وعقليًا"، الذين –بهدف درء وصم الإسلام بالعنف وكراهية الآخر- ينزعون عن الإسلام قيمة محاربة الكفار وهم بذلك يقفون بين الله وبين نشر رسالته للناس:
(......."والمهزومون روحيًا وعقليًا ممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام" ليدفعوا عن الإسلام هذا "الاتهام" يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبَّد الناس للناس، وتمنعهم من العبودية لله... ومن أجل هذا التخليط، وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! -يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: "الحرب الدفاعية".. والذي يدرك طبيعة هذا الدين يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف -إلى جانب الجهاد بالبيان- ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية -بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح "الحرب الدفاعية" كما يريد المنهزمون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام- إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير "الإنسان" في "الأرض"....)
ولأننا مرة أخرى أمام بضاعة فاسدة حتى وإن كان التاجر ماهرًا فإنك لا تجد أمرًا منطقيًا واحدًا فيما يقول، وتحتاج إلى ما هو أكثر من الإنتماء للإسلام لكي تتعاطف مع فكرته وتنضم إلى مؤيديها، تحتاج إلى كم هائل من الكراهية لكل ما هو مختلف عن ومع الإسلام، تحتاج أيضًا إلى شعور بالتميز والأفضلية على خلق الله، بطريقة تفوض لك تقرير مصائرهم حتى وإن كان من باب الشفقة على مستقبلهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والحقيقة.. إنني لا أجد تبريرًا واحدًا يعطي لشخص أو جماعة أو أمة ما أن تقرر مصير العباد بالنيابة عنهم وأن تعلن أنها ستحارب خلق الله في أرضه، وتنزع ممالك، وتدمر أممًا بحضاراتها وإنجازاتها ثم ستتوقف لتسأل سكان تلك الأمم في وداعة "هل تقبل بالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً؟ تم تحتمل أن يجيب هذا الشخص المذعور بكلمة "لا"! كما أنه بحق تقرير مصير "الآخر" الذي يعطيه أتباع سيد قطب لأنفسهم، يتعين عليهم قبول فكرة إحتلال الغرب لدول الشرق نشرًا للديمقراطية والحضارة ولتخليصه من الديكتاتورية، فالمنطق والهدف والوسيلة واحد.
ولا أريد أن أقلل من قيمة الصدمة التي تواجهنا عند مطالعة هذا الجزء من "معالم في الطريق" بإستكمال الطريق مع سيد قطب، فالطريق بانت معالمه، وما حاجتنا بعد إلى شهود! وأترك لك –عزيزي القارئ- قراءة باقي معالم الطريق، لو مازالت لك رغبة في معرفة المزيد! والذي يتلخص في تحفيز المسلمين على من سواهم، والتحقير من شأن اليهود والنصارى وبيان فساد مللهم، فالهدف -كما سبق وقلت- هو أن تشعر أنك أفضل من الآخرين بطريقة تعطيك الحق في أن تقرر مصائرهم وما هو الصالح لهم، حتي وإن هم –عن قصر بصر وبصيرة- قاوموا حقك المقدس هذا! وهي الفكرة التي يحاول قطب ان يجعلك تؤمن بها في أبواب "لا إله الا الله منهج حياة" وباب "شريعة كونية" و"جنسية المسلم عقيدته" ووصولاً إلى باب "أنتم الأعلون".
بعد كل هذا يبدو السؤال الموجود في العنوان، "هل الدولة الدينية خطر على الأقباط؟" سؤال مستفز إلى حد كبير، ولكنني أؤمن أن الأقباط ليسو أول المهددين من هذا الفكر العنصري الدموي، وليست الحضارة الشرقية المتداعية، ولا الغرب المفلس بحسب ادعاءات قطب، بل أن المسلمين أنفسهم أول المتضررين وعليهم أن يكونوا أول المدافعين عن أنفسهم وعن دينهم وعن حريتهم.
أما كيف يكون المسلمون أول المتضررين؟ ولماذا يحارب حكّامنا فكر الإخوان المسلمون، وكيف يمكن مواجهة هذا الفكر؟، ولماذا لا يجب أن يقبل الأقباط بمدأ المساومة على حقوقهم درأ لخطر الدولة الدينية؟
للبحث في إجابات على هذه الأسئلة نستكمل هذه السلسلة في المقال القادم.
elimakar@aol.com |