بقلم: هشام منور
قراءة هادئة في تفجيرات الأربعاء الدامي وما وراءها
منذ أن قامت الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق عام 2003, وحتى الآن، لم تعرف الشوارع والمدن والقرى العراقية سوى التفجيرات والأعمال الإرهابية التي عصفت بأمن العراق واستقراره، ودفعت بالملايين (لا الآلاف فحسب) من أبنائه إلى الهجرة بحثاً عن ملاذ آمن، فتوزع أبناؤه بين الدول العربية المجاورة، وفي مقدمتها سوريا التي تستضيف أكثر من مليون ونصف من الأشقاء العراقيين، في الوقت الذي تضع فيه بعض الدول شروطاً قاسية لمجرد السماح للاجئين العراقيين بالإقامة لمدة وجيزة. فضلاً عن حالات النزوح الجماعية داخل العراق ذاته تحت وطأة التهديدات الإرهابية.
بيد أن سلسلة التفجيرات التي وقعت الأسبوع الماضي, والتي راح ضحيتها أكثر من مئتي قتيل وأصيب قرابة الألف, ربما تشكل حالة مغايرة عن التفجيرات السابقة, لأسباب عدة, الأمر الذي أدى إلى اختلاف التحليلات في تحديد هوية الجاني ودوافعه.
الغريب في الأمر أن الحكومة العراقية وأعضاءها المنتمين إلى أطياف متعددة (أصبحت تالياً متنافرة)، وعلى لسان رئيس وزراء العراق (نوري المالكي) كانت قد ألقت اللوم بداية على الاختلاف السياسي في العراق الذي أدى إلى التفجيرات المؤلمة في بغداد، متهماً الأجهزة الأمنية بالتقصير في واجبها وعدم قدرتها على تحمل المسؤولية، فيما اتهم وزير الخارجية العراقي (هوشيار زيباري) إجراءات حكومة المالكي الأمنية، واتهم أجهزته الأمنية "بالتواطؤ" مع منفذي العمليات التفجيرية. وبادر كل حزب وتيار وائتلاف عراقي بإنحاء اللوم يمنة ويساراً، حسب توجهه الأيديولوجي والسياسي، لتبرير تقصيره أو دفع الشبهة واللائمة عنه.
وبعد أن تحولت سياسة الاتهام الخارجي إلى اتهام داخلي بموالاة دولة ما أو جهة معينة واتهام أخرى لضرب مصالحها في العراق، وبعد أن انتقلت عدوى تقاذف التهم الخارجية إلى اتهامات داخلية بين الأحزاب العراقية على خلفية الإعداد للانتخابات البرلمانية القادمة، لم تجد الحكومة العراقية العتيدة بداً من نفض الغبار عن العدو القديم والشماعة التي بررت بها معظم الأحزاب العراقية الحالية مواقفها السياسية من قوات الاحتلال، فرمت باللائمة على بعثيين سابقين يقيمون في سوريا، على حد زعمها، ويخططون لزعزعة الأوضاع الأمنية في العراق.
والحال أن قراءة هادئة في ملابسات التفجيرات الأخيرة، سوف تخرج بنا بجملة من الملاحظات الهامة، إذ إن من الملاحظ أن هذه التفجيرات جاءت بعد حالة من الهدوء الأمني النسبي, دامت ما يقرب من 18 شهراً, ومتزامنة مع محاولات المالكي تعزيز مكانته قبيل الانتخابات البرلمانية العامة المقررة في يناير؛ معتمداً على المكاسب الأمنية التي حققتها حكومته, وتعهده بإعادة الحياة الطبيعية إلى شوارع بغداد من خلال إزالة الجدران الخرسانية التي تحمي المباني والأحياء من الهجمات.
كما يلاحظ أن هذه التفجيرات قد استهدفت مباني وزارات سيادية يفترض أن تكون من أشد المواقع تحصيناً, مؤثرة في وضعية وشكل العراق داخلياً وخارجياً, مما حطم ثقة العراقيين والعالم الخارجي في قدرة القوات العراقية على حفظ الأمن. وأن أحد الانفجارات قد وقع على مسافة تقل عن 100 متر من المدخل المؤدي إلى المنطقة الخضراء شديدة التحصين, ما يوحي بأن الهدف منها تحقيق أقصى قدر ممكن من التأثير السياسي, وليس فقط التفجير. كما أن سلسلة التفجيرات جاءت بعد أقل من شهرين من انسحاب القوات الأمريكية من البلدات والمدن العراقية, وفي اليوم ذاته الذي وقع فيه تفجير مقر الأمم المتحدة في بغداد قبل ست سنوات، الأمر الذي أدى حينها إلى مقتل المبعوث الخاص للمنظمة الدولية إلى العراق.
وعلى الرغم من تعدد الآراء بشأن هذه التفجيرات وتوزع الاحتمالات حول هوية الجاني ومن يقف وراء تلك التفجيرات الإجرامية، رغم أن تنظيم القاعدة قد حسم أمر الاختلاف بين الفرقاء بإعلانه المسؤولية عن تلك التفجيرات, في نفس اليوم الذي اتهم فيه الناطق باسم الحكومة العراقية (الدباغ) سوريا بتسهيل تنفيذ تلك العمليات الإجرامية، إلا أن ضخامة التفجيرات الحاصلة، واعتراف جميع الكتل والأحزاب العراقية بوجود تهاون أو تساهل أو حتى "تواطؤ" من قبل بعض الأجهزة الأمنية يحتم علينا سبر الجهات المستفيدة والمتضررة منها، ومواقفها بعد ذلك ومنطق اتهاماتها للآخرين.
معظم المراقبين والمحللين يرون أن التفجيرات الدامية التي وقعت في بغداد, كانت تستهدف بالأساس مكانة وصورة رئيس الوزراء العراقي (نوري المالكي) الذي يؤكد باستمرار أنه تمكن من إحلال الأمن ومهد الطريق لانسحاب القوات الأمريكية، وجعل من ذلك ورقة رابحة، بحسب ظنه، خلال الانتخابات العامة المقبلة. إلا أن خلافات المالكي الأخيرة مع الائتلاف العراقي الموحد، والذي انتهى بخروجه وحزبه من الائتلاف الوطني العراقي، النسخة الجديدة والمعدلة من الائتلاف السابق، تحت ضغط حلفائه الذين يطمعون بهذا المنصب الحساس والمهم في إدارة شؤون البلاد، تجعل من رئيس الوزراء المالكي الخاسر الأكبر من وقوع هذه التفجيرات. خاصة مع دعوته إلى تشكيل "ائتلاف وطني موحد" كبديل عن الائتلاف العراقي الموحد، وتيقنه من وجود صراع داخل ذلك الائتلاف, الأمر الذي دفعه نفسه إلى التحذير من الهجمات الإرهابية مرشحة للتصاعد قبيل الانتخابات البرلمانية في يناير.
فيما سارعت مجموعات المقاومة المسلحة في العراق إلى نفي مسؤوليتها عن تلك الهجمات، واتهام الحكومة والخلافات الداخلية بين أعضائها بالمسؤولية عنها، إما بالتواطؤ أو بالتقصير والتهاون. كما لا يمكن أن نستبعد تورطاً أمريكياً في هذه التفجيرات, كونها جاءت مع بدء الإعلان عن انسحاب القوات الأمريكية من المدن العراقية، وتحديد العام 2011 موعداً للانسحاب الكامل، حيث أخذت التفجيرات تتصاعد بشكل كبير، وتركز على مواقع حساسة يمكن أن تؤثر بنتائجها وتداعياتها في تأجيج الصراع بين الطوائف العراقية، ويحقق بالتالي هدف تقسيم العراق إلى كيانات مذهبية وطائفية وإثنية.
ولا يمكن إنكار رغبة الولايات المتحدة في العودة لممارسة مهامها ودورها الاستخباراتي بطلب مباشر من الحكومة, وهو ما قد يتحقق بالفعل, حيث قال وزير الداخلية (جواد البولاني) أنه يرى حاجة إلى الاستعانة بالجهد الاستخباري من القوات الأمريكية لفترة محددة إلى أن يستكمل العراق بناء قدراته على صعيد المخابرات والمسائل الفنية.
خلافات داخلية بين أقطاب الائتلاف الحاكم مرشحة للتفاقم والتصعيد مع قرب موعد الانتخابات العامة في يناير المقبل، وبعد أن استبعد المالكي وحزبه (حزب الدعوة) من قائمة الائتلاف الجديد، سيما أن الأمور غامضة داخل المجلس الإسلامي الأعلى بعد وفاة زعيمه (عبد العزيز الحكيم) في طهران بعد معاناته من مرض عضال. وقد دفعت تلك الأحداث والاصطفافات السياسية الجميع إلى النأي بنفسه عن مسؤولية الحدث، وتصدير الأزمة إلى الخارج، في محاولة للتنصل من مسؤولية التهاون.
وعليه فعلى الجميع أن يتوقع من الآن فصاعداً مزيداً من التخبط الرسمي العراقي في معالجة الملف الأمني، واستغلاله متزايداً من قبل الإخوة الفرقاء، وتصاعداً للصراع السياسي بين الكتل والأحزاب السياسية على قاعدة الذرائع الطائفية والمذهبية والجهوية، فيما المستفيد الأكبر يظل الاحتلال الذي سوف يجد المبرر القانوني لبقائه للفصل بين الخصومات المتخاصمين في العراق، أما المتضرر الأكبر فلا غرو كونه الشعب العراقي بأطيافه المتعددة، والذي يدفع ثمن تخبط زعاماته السياسية وضياع بوصلتها من دمه الطاهر والزكي.
|