بقلم: أكرم هارون
العمل له قيمة عظيمة في حياتنا، فالعمل هو الإنتاج، والعمل هو التطوير وهو الابتكار والإبداع بل العمل هو الحياة لأي شعب، فتخيلوا لو توقف الناس عن أداء وإنجاز أعمالهم لتوقفت عجلة الحياة في بقاع العالم، وجميع الأديان تحث على العمل والإنتاج بل تنظر له بنظرة مليئة بالسمو والرفعة.
والعمل ينتج علاقة أساسية بين طرفين أحدهما ينظر إليه كطرف قوي في العلاقة إذ يكون معه كل الصلاحيات والأدوات وله القدرة والقوة على اتخاذ القررات اللازمة لاستمرار العمل، والطرف الآخر عادة ما يكون أضعف في الصلاحيات والأدوات وعادة ما يكون منفذًا لتوجهات وسياسات الطرف الأقوى
لكن لا يستطيع الطرف الأقوى الاستغناء عن الطرف الآخر، والطرف الأقوى يطلق عليه الإدارة العليا إذا ما كانت الهيئة أو المؤسسة هي خدمية بحتة تابعة للحكومة، أو يطلق عليه صاحب العمل أو المالك للمؤسسة أو الشركة إذا ما كانت قطاع خاص، بينما الطرف الثاني يُطلق عليه سواء كان يعمل تابعًا للحكومة أو القطاع الخاص بالعمالة، بالطبع يُستثنى من ذلك المهن الحرة والمهن الإبداعية التي يعتبر حجر الزاوية فيها القدرات العقلية أو العلمية أو الفنية للشخص كمثل الطبيب في عيادته الخاصة والمحامي في مكتبه والفنان سواء كان ممثلاً أو مويسيقيًا أو رسامًا....إلخ، وكذلك المهن الأخرى مثل السباك والنجار والكهربائي...إلخ، فكل هؤلاء يعملون بمفردهم اعتمادًا على علمهم أو مواهبهم أو خبراتهم الخاصة، مع ملاحظة أن أي منهم إذا أراد التوسع سيجد نفسه مسئولاً عن أناس آخرين ويتحول إلى صاحب عمل ومعه عمالة.
وبلادنا تعيش حالة من عدم الاستقرار في علاقات العمل، ويتجلى هذا في ازدياد حالات الاضرابات والاحتجاجات في أماكن ومجالات متعددة وهذه الإضرابات والاحتجاجات سلاح ذو حدين، فبينما تعطي المجال لكل ذي حق المطالبة بحقه فهي أيضًا ظاهرة غير صحية على الإطلاق لأنها تعبر بشدة عن فشل إداري جسيم لدى أصحاب القيادة والإدارة، ورغم أن هذه الإضرابات والاحتجاجات معظمها كان في مؤسسات الحكومة إلا أن هذا لا يمنع وجود حالة من الشعور بعدم الرضا والغليان لدى عمالة القطاع الخاص، يُستثنى منها لحد ما المؤسسات والشركات الدولية وما نطلق عليها متعددة الجنسيات والتي تتبع معايير وقيم أخلاقية عالمية لا على حسب ما تسير معظم شركات القطاع الخاص بمصر على حسب الهوي والرغبات والمصالح الشخصية دون النظر للمعايير الأخلاقية ومعدلات الأداء للعمالة. ويجب أن نسلم بأنه لا توجد آليات منضبطة ودقيقة للحفاظ على حقوق العمالة في، مصر فتجد إدارات شئون العاملين في كل مؤسسات الحكومة والقطاع الخاص مجندة للحفاظ على حقوق أصحاب الإدارة سواء كانت الإدارة هي الحكومة أو اصحاب العمل بالقطاع الخاص، ومكاتب العمل والنقابات هي مجرد مظاهر تكميلية لنظام وقانون العمل، والمظلوم الأول في هذا هو العامل أو الموظف.
وسأقوم بإجراء دراسة سريعة على العمالة وحقوقها في القطاع الحكومي والقطاع الخاص وسأكتفي بالحقوق المادية لأنها من أهم أركان علاقة العمل –مع عدم إهمال أهمية الحقوق الأخرى للعمالة كالحقوق المعنوية في المعاملة الحسنة والاحترام وحق الترقي وحقوق الإجازات وحقه في ثقة الإدارة فيه وفي قدراته والعدالة في توزيع العمل وغيرها-، وسأكون شاكرًا لأي من يقرأ هذا المقال ويثري معرفتنا بخبراته وآراءه حول هذا الموضوع بمراعاة الفكرة المرتكز عليها مقالي هذا والمقالات السابقة، وهي دعوة والتشديد على الطرف القوي في العلاقة كي يعطي الطرف الضعيف كل حقوقه أولاً ثم محاسبته على تقصيره في واجباته.
1- القطاع الحكومي:
بالطبع الراوتب الشهرية ضعيفة والدخول منعدمة ويعتبر معظم موظفي القطاع الحكومي من منعدمي الدخل، وذلك طبعًا بالمقارنة بتكاليف الحياة المعيشية ومستويات الأسعار بالرغم من بريق الوظيفة الحكومية في عديد من بلدان العالم الأخرى، بل أن مصر حتى عقد الستينات الماضي كانت فيها الوظيفة الحكومية مطمع الكثير من الشباب، الحكومات المتعاقبة في خلال العشر سنوات الأخيرة بذلت جهود حثيثة لرفع دخول الموظفين الحكوميين ونجحت في قطاعات عديدة منها إلا أنه لا زال العديد من الموظفين دون المستوى الأدنى المطلوب في الدخول، ولذلك صارت الإكراميات (التسمية الشائعة للرشوة) المعطاة للموظفين الحكوميين في عديد من الهيئات والمصالح عرفًا بقوة القانون وصارت هي الباب الخلفي لزيادة دخل أي موظف.
وهذه الإكراميات من نوعين.. الأول يصب في اتجاه مخالفة القانون واللوائح بصورة مباشرة، كاعتماد أوراق ومستندات مخالفة مما تسبب ضررًا مباشرًا بالصالح العام أو حقوق الغير، والثاني لازمًا لسرعة الإنجاز والإجراءات دون مخالفات لصحيح القانون مثل إنهاء إجراءات ترخيص سيارتك بسرعة دون الوقوف في الطوابير، وهذا النوع من الإكراميات شائع في كل القطاعات الحكومية، أنا ضد كل أنواع الإكراميات.. لكن دعونا ننظر نظرة رحيمة للموظف ونسأل ماذا يفعل كي يعيش؟ من فضلكم اعطوه حق العيش مستورًا آمنًا ثم حاسبوه.
إلا أن القطاعات الحكومية تتميز أنها قطاعات آمنة مضمونة الوظيفة والراتب، فلن تجد قرارًا فجائيًا من الإدارة العليا بالاستغناء عن أي من العمالة أو أي إيقاف للحوافز أو تخفيضًا في الرواتب بعكس القطاع الخاص، كما أنك لن تجد تمييزًا مجحفًا لموظف دون آخر في الراتب فالأقدمية هي المقياس الوحيد التي يترتب عليها رواتب ودخول الموظفين وذلك يمثل مقدارًا كبيرًا من العدالة وإن كانت ليست العدالة كلها فهناك اشياء اخري.
2- القطاع الخاص:
بالطبع الرواتب أعلى شكلاً من الحكومة إلا أن أصحاب العمل في القطاع الخاص في معظم شركاته وقطاعاته متوحش في البحث عن مصلحته أولاً ثم ثانيًا ثم أخيرًا، أما العمالة فلا تمثل له أي أولويات رغم أنه بدون عمالة لا يوجد إنتاج أو أداء، وللأسف الحقوق المادية مهدرة ولا يوجد معيار فعّال لضمان حصول العمالة على حقها. ومما هو شائع في القطاع الخاص أن تجد الهوى والمزاج الخاص للسيد المبجل صاحب العمل قد سيطر عليه فيعمد لزيادة راتب موظف ما دون أقرانه بنسبة معينة مختلقًا شتى أنواع الأسباب الداعمة لقراره دون الاستناد لمعيار عادل في الحكم على أداء العاملين، وغالبًا الموظف الذي يعمل فقط دون أن يتكلم ويطالب بحقوقه المادية سيُظلم وينساه، وهناك حكمة شائعة وهي (من يتكلم كثيرًا يعمل قليلاً) والعدالة تقول أن من يعمل قليلاً يأخذ قليلاً، إلا أنك إذا كنت تستطيع القفز تارة هنا وتارة هناك (والتنطيط أمام صاحب العمل) فستأخذ أكثر من حقك بكثير وهذا لأنك في مصر!!! بالطبع ليس هذا موجودًا في الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات والتي تسير بقواعد حاكمة وليس بهوى صاحب العمل، إنك إن راجعت صاحب العمل في شيء لرد عليك بكل صلف العبارة الشهيرة.. أنا حر، صحيح هذه أموالك وأنت صاحب العمل لكن العدالة فوقك وفوق كل شيء وينبغي أن تنصاع لها ولمبادئها وأسسها وقواعدها.
وقد تجد نوعًا آخر من الظلم المادي، فيمكنك أن تصحو ذات يوم وتذهب عملك لتجد قرارًا فجائيًا من السيد المبجل صاحب العمل بإيقاف الحوافز أو المكافآت المعتادة معللاً ذلك ومبررًا إياه بشتى الأسباب، بل الأكثر من ذلك قد تجده قد أخذ قرارًا عنتريًا بتخفيض الرواتب متعللاً بأزمة حادة في الشركة، ولو نظرت قليلاً له ستجد أن هذه الأزمة لم تؤثر على أصول الشركة فهو يشتري أصولاً جديدة ويقوم بعمل توسعات!! بأي منطق وبأي عدل يجري هذا؟ وهل يرضي الله على هذا الإجحاف؟ بل تجده صامتًا خاشعًا خاضعًا طائعًا منفذًا لقرارات السوق العالمي والمحلي والحكومة فيما يخص زيادة أسعار الخامات والموارد والرسوم والسلع والخدمات المختلفة، لكنه يجز أسنانه ويشد سيفه ويشهر كافة أسلحته متذرعًا أسباب واهية بكل صلف ووقاحة على العمالة التي لا حول لها ولا قوة!!! أي عدل هذا؟! كيف تطلب سيدي –صاحب العمل- بعد ظلمك البيّن لموظفيك وعمالتك بأن يخلصوا لك ويعطوك أقصى ما عندهم ويعملوا بجد واجتهاد لكي تسمو شركتك ويزداد انتاجك وارباحك؟ إنك واهم ظالم... هم قد يعملون لكنهم قطعًا لن يبدعون.. والإبداع أهم من العمل، فمثلاً غالبية موظفين الحكومة يعملون لكنهم قطعًا لا يبدعون، وسيادتك لن تستطيع مهما فعلت أن تأخذ منهم إبداعهم في عملهم لأن الإبداع ينتج من ذهن صافي وقلب محب ورغبة وإصرار نفسي على الوصول للأفضل، ولا تعتقد بأنك ستصل لذلك وأنت تحرمهم من حوافزهم أو مكافآتهم، والطامة الكبري إن خصمت من رواتبهم
وقد يطالبني أحد بالحل.. وأجد نفسي مفكرًا ما الحل؟ أعتقد أنه يجب:
أولاً: تغيير الثقافة السائدة في المجتمع ورفع وعي أصحاب الإدارة والقيادة في القطاع الحكومي وأصحاب العمل في القطاع الخاص إلى أنه يجب احترام حقوق العمالة في العيش بمستوى مادي لائق وأن يحترموا القيم والمعايير الأخلاقية في علاقات العمل، ويجب توعيتهم أن الإبداع في العمل هو المطلوب وأنت لن تأخذ من العامل إبداعًا في الإنتاج وتطويرًا وابتكارًا في العمل بدون اعطاءه كامل حقوقه المادية.
ثانيًا: ابتكار آليات قوية تساعد على حماية العامل أو الموظف من جبروت وبطش الطرف الأقوى، وهنا لا بد من تحديد حد أدنى مناسب ومحترم لأجور العمالة في كل قطاع ومراقبة تنفيذ ذلك بكل الوسائل والضرب بيد من حديد على من يخالف.
ثالثًا: دعم وتشجيع النقابات والاتحادات المختلفة للعاملين في شتّى الميادين للاضطلاع بدورهم في حماية عامليهم وموظفيهم بكافة الطرق والوسائل وليس تسهيل وتقنين الأوضاع للإدارة الحكومية أو أصحاب العمل في القطاع الخاص لسحل وسلخ العامل كما هو الحال الآن.
أعتقد أن إعطاء العمالة كافة الحقوق والضمانات المادية المناسبة هي اللبنة الأولى والأساس القوي لمطالبة العامل بواجباته.
وللحديث بقية....
|