بقلم: انطوني ولسن
اولا: في مصر
(1)
ذكريات العمر اللي فات، هي خلجات نفس فى الماضي حفرت لها اثارا بارزة في عقل ووجدان الانسان.. اي انسان.. انا وانت وهي ونحن من اي بقعة على الأرض وباي لغة نتكلم.
ذكريات العمر اللي فات.. ذكريات اشترك فيها مع الكثيرين منكم.. لان فيها احلاماً تشابه احلامكم.. وتطلعات هي جزء من تطلعاتكم.. ومعاناة.. لا شك ايضا لا فارق بينها وبين معاناتكم.
في البدء لمن لا يعرفني، اسمي ولسن اسحق ابراهيم ولدت مساء يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر يناير/كانون الثاني عام 1936، فى غرفة في شقة كانت تسكنها عائلتي المكونة من ابي وأمي وشقيقتي رسمية التي توفيت بعد ذلك بشهور قليلة في المنزل رقم 44 شاعر الاميرية بحي (البراد) في شبرا بالقاهرة.
كان جدّي والد أمي قد هاجر من سوهاج وامي كان عمرها 4 سنوات (ومع ذلك ظلت لهجتها الصعيدية حتى وهي في اميركا) الى القاهرة.. وهاجر والدي من قرية كوم غريب التابعة لمركز طما محافظة سوهاج سعياً للعيش وعمره 18 عاماً ونزل عند خالته التي هي جدتي لأمي.
تزوج امي وهي شابة صغيرة وانجبا يعقوب ثم رسمية ثم انا.. توفي يعقوب في قرية ابي بعد ولادته ببضعة اشهر تقابل والدي هناك مع مبشر انجليزي اسمه مستر ولسن.. لذاوعد بعد وفاة شقيقي الاكبر يعقوب بان يطلق اسم ولسن على اول مولود ذكر ينجبانه.. وكنت الثالث بعد شقيقتي رسمية فسميت بهذا الاسم الذي احببته على الرغم من كراهيتي العميقة وقت شبابي للانجليز ولكل ما هو انجليزي.. لا احد يقترب من الذي تمتلكه دون ان تتصدى له وتدافع عما تملك.. وهكذا نشأت مع اسمي ادافع عنه ولا أقبل ان ينعتني اي انسان بصفة اجنبي لمجرد ان اسمي ولسن.
انتقلت الاسرة بعد اربعين يوما من مولدي من غرفة في شقة تسكنها عائلتي مع عائلة خالي الكبير هنري لنستقل في شقة كبيرة في المنزل رقم 18 شارع السندوبي.. الشقة كانت في الطابق الثالث من المنزل ويقطن الطابق الاول صاحب المنزل ابن عم والدتي وفي الطابق الثاني القس اسكندر ابسخرون راعي الكنيسة الانجيلية في شبرا وايضا مدير عام المدرسة الانجيلية في شبرا النزهة بقسميها (الروضة والابتدائي) في ذلك الزمان.
بدأ ابي في تلك المنطقة عمله التجاري بفتحه محلا لبيع الاقمشة بالقطاعي في عمارة اماليا 131 شارع شبرا وهي على ناحيتي شارع خلوصي وشارع الاهواني..
هذا كان في البدء.. عندما انتقلت الى هذا الحي وعمري اربعون يوما.. في ذلك البيت في شارع السندوبي بشبرا - القاهرة بدأت حياتي.
عشت في شارع السندوبي اجمل ايام عمري.. ذكرياتي تأخذني الى ايام الطفولة التي اتسمت بالتمتع بحرية اعتقد لم يتمتع بها احد في مثل سني.. واقول واضغط على كلمة حرية التي تختلف عن كلمة (دلع).. لان الفارق كبير جدا بين الطفل الحر والطفل (الدلوعة).. أي الطفل المدلل والمرفه.
والدي تاجر مني فاتورة (تجارة الأقمشة) عليه ان يذهب الى عمله صباحا ويعود في المساء.. وأمي كانت (ولاّدة) اي انها تنجب كل عام او عامين. ومع كثرة الاولاد والبنات اصبح شغلها الشاغل عمل البيت. وكنت منذ نعومة اظافري الوسيط بين ابي وأمي.. ماتريد شراءه من السوق تخبرني به فأذهب الى ابي واطلب منه (الفلوس) واشتري حاجيات البيت التي تطلبها مني أمي.. بل اتذكر جيداً انني اصبحت اجلس على رأس مائدة الغداء واقوم بتوزيع اللحوم او الطيور للأسرة كلها بمن فيهم عمي الذي يكبر أبي وستي خالة ابي وأمي.
هذه الحرية كانت تختفي عندما أخرج مع أمي وأخوتي سواء لزيارة خالاتي او لمجرد الخروج والذهاب الى ساحل روض الفرج لنجلس عند البحر (شاطئ النيل) ونستمتع بنسيم الهواء أيام الربيع. اقول ان حريتي لا مكان لها في الشارع.. السلطة كلها في يد أمي.. لا يستطيع اي منا ان يشير الىشيء يباع ويطُّلب شراؤه.. هذا كان ممنوعا في عُرف امي.. وفلسفتها في ذلك بسيطة ولكنها ذات ابعاد تربوية وحكمة.. انها لا تبخل علينا بشراء كل ما نريده.. ولكن في البيت.. نقول لها نريد هذا او ذاك.. تقول خذوا النقود واذهبوا واشتروا.. اما في الشارع فهذا ممنوع لانها لا تريد ان تقف موقف الاحراج اذا صادف ولم يكن معها نقود.
اما ابي فكانت علاقتي به كابن اكبر فيها الكثير من الاعتماد على النفس.. احترمه جدا واقبّل يده امام الناس خارج المنزل.. اما في المنزل، فاني اتذكر، ولن انسى ما حييت تلك الحوارات السياسية والدينية التي كنت في كثير من الاحيان احتدّ فيها ويعلو صوتي فيضحك ويقول لي (بكره تعرف كلام ابوك صح).
اخوتي واخواتي الذين ولدوا بعدي.. صدقي الذي اطلقت عليه اسم مكرم، ثم يونان، ثم اعتماد( نعمي) ثم انسي ( آندي) ثم اماليا (فيفي) ثم ابراهيم، ثم استر وآخر العنقود هلين.
من الطبيعي ان أدخل مدرسة الانجيلية بشبرا النزهة.. فبدأت دراستي في (الروضة) وهو القسم الذي يسبق الابتدائي.. بعد ذلك القسم الابتدائي واتذكر ونحن في سنة ثانية ابتدائي تأخر المدرس فخرجت من الفصل وفوجئت بضابط المدرسة (وهو مدرس الالعاب الرياضية والمشرف على المدرسة) واقفاً في «حوش» المدرسة مع مُدرسة يُقبلها.. فعدت مسرعا الى الفصل واخبرت زملائي الطلبة بما رأيت.. فخرجنا جميعاً في شكل مظاهرة نعترض على ما كان يفعله الضابط والمدرّسة.. جاء الضابط غاضباً وامسك اول طالب أمامه وأخذ يكيل له الكلمات والصفعات.. انتابنا الخوف فعدنا الى الفصل والتزمنا الهدوء..
لكني كنت اغلي بداخلي.. فالذي يستحق الضرب هو الضابط على فعلته ( تقبيله مدرسة قبله امريكاني كما اطلقت عليها) لا هذا الطالب المسكين.. فقررت ان اتوجه بالطالب الى نقطة شرطة الساحل في ذلك الوقت لأسجل محضرا ضد المدرس.. وبالفعل ذهبت، ومعي الطالب وتوجهنا الى الضابط النوبتجي وقصصت عليه ماحدث فنهض خارج مكتبه وامسك بكتفي وقال لي:
- مع الأسف انا لا استطيع ان افعل شيئا.. اكتب شكوى لوزارة الممعارف (في ذلك الوقت ليحققوا معه).
في العام التالي حدث ان سبني احد المدرسين.. انتابني غيظ شديد فرددت عليه وقلت (اهو انت).. نادى علي وامسك بشعر رأس ثم وضع رأسي بين (فخذيه) واخذ يكيل لي اللكمات على ظهري بوحشية وقسوة واستطعت التخلص منه بقضم (فخذه) باسناني فصرخ واستطعت الافلات منه وجريت الى باب المدرسة، ومنه الى المنزل وانا في حالة من الغضب الشديد والألم.
قصصت على أمي كل ماحدث.. فنقلت غضبي وغضبها الى زوجة القس ا سكندر ابسخرون التي بذلت جهدا كبيرا لتهدئة أمي.
كنت قد اتخذت القرار.. وباءت محاولات القس اسكندر كلها بالفشل. وكان قراري يبدأ بفصل المدرس من المدرسة نهائيا.. ووافقوا على ذلك. وبعد ان تأكدت من فصله وكنا في نهاية العام الدراسي، اعتذرت عن الذهاب الى المدرسة بقية الفترة الدراسية المتبقية.
في بداية العام الدراسي الجديد تقدمت الى مدرسة الملائكة والتحقت بها. كل هذا كان قراري انا وحدي دون تدخل من أبي او أمي، والمدرسة خاصة ايضا كاثوليكية شامية.
كان الذي يُدرسنا اللغة العربية كاهنا غير مصري. تعود بي ذكرياتي الآن الى درس «الممنوع من الصرف». بعد ان شرح لناكل ما يتعلق بالممنوع من الصرف سألنا في اليوم التالي.. وجاءت إجابتي مخيبة لاماله، فطلب مني ان اخلع حذائي و»جوربي»، ثم امدد قدمي فوق المقعد، وأتى بعصا طويلة واخذ يضربني كأنه ينتقم من شخصي من كل شرور العالم. وحشية ما بعدها وحشية.
وكنت في السنة النهائية من الدراسة الابتدائية.. وكنا في مطلع العام.. والشهادة الابتدائية كانت لها قيمتها العلمية.. يستطيع الطالب اذا اراد العمل كموظف في احدى الدوائر الحكومية ان يعمل وبت في حيرة من أمري. لم استطع تكملة اليوم الدراسي، شعرت بالإهانة تغمرني، وشعرتب الذلة والهوان. أضرب انا هكذا، بكيت كثيرا. وكأن الله اراد ان ينتقم مني لاصراري على طرد المدرس في مدرسة الانجيلية الذي سبنى.
وكان قرار آخر اتخذته وحدي. لم أخبر أمي ولا أبي بما حدث لي. وتقريبا لم يعلم بذلك احد حتى الأن وصممت على تنفيذ القرار الذي اتخذته، فتوجهت في اليوم التالي الى ناظر مدرسة (أوده باشا) الابتدائية بالنزعة البولاقية وشرحت له رغبتي في ترك الدراسة في المدارس الخاصة واريد الالتحاق بالمدارس الحكومية. ولدهشتي قبلت بالمدرسة والتحقت بفريق الكشافة وحدث ما حدث يوم الاحتفال بعيد ميلاد جلالة الملك فاروق وانتظارنا امام قصر عابدين ساعات طويلة في انتظار طلة جلالته لننشد له النشيد الذي اخذمنا فترة طويلة للتدريب وحفظ النشيد. وبعد كل هذا العناء والانتظار طل علينا جلالته ولوح بيده مرة ناحية اليمين واخرى ناحية اليسار ثم استدار وتركنا. فما كان مني إلا أن أمسكت «بالطربوش» الذي اشتراه لي والدي لهذه المناسبة والقيت به على الارض وأنا في ثورة غضب ودست عليه بقدمي وتركت الطابور وعدت الى المنزل. وقد اوضحت ما حدث بتفاصيل اكثر في مقالي «عاش.. عاش فاروق الملك» والذي نشر في جريدة «النهار» «العندارية» اي التي كان صاحبها ورئيس تحريرها في ذلك الوقت الاستاذ بطرس عندراي واصارحكم القول بانني حتى الآن لم اعرف الممنوع من الصرف، ولا اريد ان أعرف..
تعلمت من فريق كشافةمدرسة (أوده باشا) الابتدائية الضبط والربط والالتزام. وتعلمت من المدرسة ان المدارس الاميرية الحكومية اكثر اهتماما بالطلبة منها من المدراس الخاصة.. وليس كما هو الحال في مصر الآن .. وبدأت افتح نافذة القراءة خارج الكتب المدرسية. فقد كان عم احمد بائع الجرائد، بعد ان استأذن من والدي، يضع الجرائد والكتب والمجلات في ركن من المحل. وبدأت انهل من المعرفة ووجدت نفسي داخل كل كتاب اقرأه او صحيفة او مجلة، تحولت النافذة الى باب واسع، لم يصدر كتاب في تلك الفترة ولم اقرأه.. حتى الكتب التي كانت تنشر وصفحاتها غير مفتوحة.. كنت اتحايل في قراءتها دون المساس بالصفحات لأعيد الكتاب لعم احمد لبيعه.
بعد ان انهيت دراستي الابتدائية التحقت بمدرسة الامير فاروق بالترعة البولاقية. وكان ذلك في العام الدراسي 1950/1951..
ارتبطنا نحن الأربعة من فصل سنة اولى ثانوي تاسع بعضنا ببعض، الزميل الحبيب المرحوم محمد عبد الله الخولي والحبيب المرحوم احمد فؤاد، وشقيق زوجتي ناحوم رياض حبيب. ولم يصبح ارتباطنا ارتباط مدرسة فقط.. لا.. فقد صار ارتباطاعائليا بزيارات الاهل بعضهم لبعض.
(يتبع)
|