CET 00:00:00 - 04/10/2009

مساحة رأي

بقلم: فرانسوا باسيلي
حرب أكتوبر 1973 المعروفة بحرب العبور التي شنتها مصر وسوريا معًا ضد القوات الإسرائيلية المحتلة لأراضيهما ما تزال قادرة على بعث أعلى درجات الإعجاب والزهو خاصة بما حققه المصريون قادةً وجنود على الجبهة المصرية، ومن المفيد أن نراجع اليوم العلامات الأساسية لحرب العبور لنستخلص بعض دروسها، وأيضًا لكي نجدد بعض الثقة المفقودة في الإرادة والقدرة المصرية القابعة في أعماق الإنسان المصري، الذي يصبر طويلاً ثم يفاجئ نفسه والعالم من حوله بانجازات مدهشة شاهقة لا يعرف أحد من أين جاءت ولا كيف تفجّرت؟!
* أهمية حرب الاستنزاف:
لم يصبح الجيش المصري قادرًا على عبور أعظم مانع عسكري في التاريخ فجأة صباح يوم العبور، وإنما استطاع أن يصبح قادرًا على هذا بسبب ما حدث قبل ذلك اليوم وبشكل مستمر منذ مطلع عام 1969 عندما قرر جمال عبد الناصر شن حرب الاستنزاف على قوات العدو الإسرائيلي الشرقية لقناة السويس ولم يكن هذا قرارًا سهلاً، فهو يأتي بعد عام ونصف فقط من أكبر هزيمة عسكرية عرفتها جيوش ثلاث دول عربية مجتمعة أمام إسرائيل وحدها.
كان على مصر أن تبدأ من الصفر، من قاع القاع، وأمامها ليس فقط عبء وتحديات البناء المادي لجيش إنهار تمامًا وترك كافة معداته في الصحراء ولكن أيضًا تحديات البناء النفسي لإرادة الأمة التي كان يبدو مما تفعله في نفسها في تداولها للنكات اللاذعة ضد جيشها وأفراده -أي ضد نفسها وروحها- أنها قد استسلمت للذة جلد الذات في مازوخية جماعية مخيفة هي عقاب جماعي للذات وللقيادة معًا.

بدأت حرب الاستنزاف في يناير 1969 بوابل هائل مستمر من القذائف عبر القناة لمدة ثمانين يومًا متصلة وعلي طول خط المواجهة بطول قناة السويس. وكانت القذائف تصب على الجنود الإسرائيليين المتحصنين وراء ما يُعرَف بخط بارليف. وقد تسبب هذا الوابل المستمر من القذائف في خسائر جسيمة لدى الإسرائيليين دون أن يؤدي إلى انهيار الحائط أو إلى إخلاء الإسرائيليين لمواقعهم. وقامت إسرائيل بهجمات انتقامية مضادة ليس فقط ضد القوات المصرية على القناة ولكن أيضًا داخل العمق المصري ضد أهداف إستراتيجية وعسكرية على طول الأراضي المصرية.
ولكن بالرغم من الخسائر في الأرواح والممتلكات التي أوقعتها حرب الاستنزاف على الجانب المصري فقد كانت ضرورية من الجهتين المعنوية والعسكرية معًا، فمعنويًا كان لابد من إعادة بناء الثقة في النفس بشكل تدريجي وكان لا بد من المحافظة على سخونة خط المواجهة كإعلان مستمر من جانب مصر أنها لا تنوي قبول الوضع الراهن.. وكان عبد الناصر يلح في كل خطبه على ضرورة إزالة آثار العدوان ولم يكن يتحدث عن استسلام من أي نوع، لكنه أعلن قبوله لسلام قائم على إعادة الأرض مع حل عادل للقضية الفلسطينية.

كان الدرس الواضح لحرب الاستنزاف هو ضرورة المحافظة على إرادة مقاومة المحتل والاحتفاظ بمطلب تحرير الأرض والإعلان العملي اليومي عن رفض الاحتلال والعزم على المقاومة مع عدم رفض السلام لو جاء محققًا للعدالة دون هيمنة من قبل الجانب الأقوى المنتصر.
ولكن كان لحرب الاستنزاف أيضًا جانب عملي عسكري بالغ الأهمية، فقد كان عبد الناصر يعلم أنه لن يحصل على أي شيء من إسرائيل بمجرد الحوار أو التفاوض معها من موقف الضعيف الذي لا يملك أية أوراق ضغط من أي نوع لذلك أراد لحرب الاستنزاف أن تكون كسبًا للوقت حتى يمكن استكمال إعادة بناء القوات المسلحة على أسس جديدة.
في تلك الفترة قدموا لعبد الناصر ما عرف بمشروع روجرز، والذي يقضي بوقف القتال في حرب الاستنزاف لمدة ثلاثة أشهر لتهدئة الأمور والمشاعر ثم يجري بعدها التفاوض بين الطرفين على أساس انسحاب إسرائيل من سيناء مقابل السلام، ووافق عبد الناصر على مشروع روجرز، وكان ذلك بعد أن سأل وزير حربيته الفريق أول "محمد فوزي" وقتها: كم من الوقت تحتاج لكي تنقل صواريخك إلى خط قناة السويس لكي تبدأ حرب عبور القناة والوصول إلى ممرات سيناء والتحصن بها وهي ممرات ميتلا والجدي (وهو نفس ما حدث في حرب العبور بعد ذلك)؟ فأجاب محمد فوزي أنه يحتاج إلى شهرين، فقال عبد الناصر: سأعطيك ثلاثة! (وهي نفس فترة الامتناع عن القتال التي اشترطها مشروع روجرز).
ورحل جمال عبد الناصر في 30 أيلول (سبتمبر) 1970 بعد أن توقف القتال في الشهر السابق آب (أغسطس) بموجب اتفاق وقف إطلاق النار وكانت الخطة 200 لعبور القناة إلى الممرات تسير في مسارها المحدد لها كما وضعها محمد فوزي واعتمدها جمال عبد الناصر.

* تمرد الطلاب والمثقفين:

تسلم السادات حكم مصر بتركة الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، وكان يعتقد في البداية أنه سيستطيع التوصل إلى اتفاق معقول تنسحب بمقتضاه إسرائيل من سيناء مقابل اتفاقية سلام بشروط معتدلة، ولكنه اكتشف بعد فترة من المناورات والمقابلات والمبعوثين والزيارات إن إسرائيل -بموافقة أمريكا- لن تمنحه إلا الفتات في مقابل اتفاقية استسلام سيسمونها اتفاقية سلام، وكان السادات يدرك أنه لن يستطيع قبول هذا، في نفس الوقت الذي كان يجابه فيه شارعًا مصريًا ساخنًا لا يكف فيه طلاب الجامعات والمثقفون واتحادات النقابات عن التظاهر والمطالبة بالخروج من حالة اللا سلم واللا حرب التي كانت قائمة، وكان يصعب على السادات الظهور في أي مكان لإلقاء خطاب أو حضور احتفال دون أن تجابهه المظاهرات الغاضبة، ووصل الأمر في النصف الثاني من عام 1972 إلى إعلان عدد من الكتاب والصحافيين والمثقفين وقوفهم إلى جانب الطلاب المتمردين الذين كانوا في حالة لا تهدأ من المظاهرات العنيفة في شوارع القاهرة. وكان السادات قد عزل الفريق أول محمد فوزي وعين اللواء سعد الدين الشاذلي برتبة فريق، فقام بوضع خطة لعبور القناة والتمركز علي بعد حوالي 15 كيلو متر منها بالصحراء الشرقية.

* الصدمة والترويع المصرية:

لا شك إن الأسلوب المدهش والنجاح الباهر الذي حققه المصريون في عبورهم لقناة السويس حقق أكبر قدر من الصدمة والترويع للجنود الإسرائيليين على الضفة الشرقية من القناة. وفي مقابلة مع "الأهرام ويكلي" يقول اللواء المتقاعد "جمال محمد علي" قائد سلاح المهندسين المصري واصفًا ما حدث: كان أمامنا مانعان هائلان، الأول هو المانع المائي الطبيعي لقناة السويس وتعتبر أكبر مانع مائي تم عبوره في تاريخ الحروب ومانع آخر يقف من ورائه هو خط بارليف. وكان وزير الدفاع الإسرائيلي "موشي ديان" قد صرح أن الأمر سيحتاج إلى تضامن سلاح المهندسين الأمريكي وسلاح المهندسين السوفييتي معًا لاقتحام خط بارليف. كما أكد الخبراء السوفييت في ذلك الوقت بأنه لا يمكن تحقيق أي شيء في وجود خط بارليف سوي بقنبلة نووية!
وكان خط بارليف يتكون من حواجز رملية طينية محصنة يتراوح ارتفاعها من ثمانية إلى خمسة وعشرين مترًا مع عرض يصل إلى عشرة أمتار، وكان هذا الجدار الرملي الهائل حصنًا ومزودًا بمواقع للدبابات والمدافع كل حوالي أربعة كيلومترات علي امتداد طول القناة من بور توفيق في الشمال إلى القنطرة الشرقية جنوبًا.

ويكفي التذكير هنا بان خط بارليف المنيع هذا كان قد تكلف مائتين وثمانية وثلاثين مليون دولار في ذلك الوقت، وهي تقريبًا نصف تكلفة بناء السد العالي في أسوان. وكان يتضمن منشآت ضخمة محصنة تمتد لعدة طوابق تحت الأرض وفوقها حتى السطح الأعلى للحاجز. وبلغ عدد هذه المواقع المحصنة 22 موقعًا تشمل 31 نقطة مراقبة وحركة تغطي كل منها أربعين ألف مترًا مربعًا وأمام كل هذا تقع قناة السويس نفسها، بعمق خمسين قدمًا وبعرض يتراوح بين 180 و240 ياردة. وهي بهذا تعتبر إحدى أعظم خنادق عرقلة المعدات الحربية في العالم. وقد خطط الإسرائيليون لكي يشعلوا سطح القناة خلال المعارك فبنوا خزانات هائلة للبترول تحت الأرض عند نقط المراقبة المحصنة حيث تمتد أنابيبها من الخزانات إلى سطح القناة بحيث يمكن إطلاق البترول لكي يسبح علي سطح القناة ويتم إشعاله في أي لحظة.
وفي الساعة 1400 -حسب أسلوب التوقيت العسكري- انفتحت فجأة أبواب الجحيم علي الجبهتين المصرية والسورية في نفس اللحظة وكان أول المهاجمين هو سرب من 240 طائرة مقاتلة مصرية مقسمة إلي تشكيلات صغيرة الحجم التي انطلقت في سماء القناة علي ارتفاع منخفض وألقت بحمم قذائفها علي منشآت القيادة والاتصالات الإسرائيلية المتركزة داخل ووراء خط بارليف المحصن وقامت بتحطيم هذه المراكز، مع ثلاثة مطارات حربية صغيرة وبطاريات الدفاع طراز هوك، ومراكز تجمع المدافع، وقلعة بودابست علي البحر الأبيض في الشمال، وغيرها من الأهداف الإستراتيجية عالية القيمة التي تكون هي أول ما يستهدفه المهاجمون في العمليات الحربية.

وتم عبور القناة من قبل الجنود المصريين في اثنتى عشرة حملة، كانت كل منها تشمل ألف قارب عسكري يعبرون القناة علي طول خط المواجهة أي إن العدد الكلي هو 1200 قارب واستطاعت كل حملة أو موجة من هذه الموجات الهائلة أن ترسو علي الضفة المقابلة –الشرقية- من القناة ثم تعقبها الموجة التالية المكونة من ألف قارب آخر بعد ربع ساعة فقط من الأولى.. ورغم هذا العدد الهائل من الزوارق العسكرية المحملة بالعتاد والجنود والمضخات والمتحركة بسرعة كبيرة إلا أنه لم يفقد منها سوى عدد ضئيل جدًا.
لعبت المفاجأة دورًا كبيرًا في إيقاع الصدمة والترويع في صفوف الجنود الإسرائيليين، فقد كان البعض منهم قد غادر الجبهة في احتفالات يوم الغفران، أو يوم كيبور، أحد أهم الأعياد اليهودية كما كان هذا هو اليوم العاشر من رمضان، مما زاد من اطمئنان إسرائيل إلي عدم احتمال وقوع هجوم، بالإضافة إلي مظاهر التمويه الأخرى المذكورة سابقًا.

وقد سقطت القلاع الأربع في القنطرة شرق بسرعة فائقة، حين هاجمتها فرقة المشاة المصرية رقم 18. فقد سقطت إحداهم في غضون عشر دقائق فقط من الهجوم عليها، والثانية بعد خمس عشرة دقيقة، والثالثة في الساعة الثالثة بعد الظهر، أي بعد ساعة واحدة من بدء العمليات، كما لعب السلاح الفعال مع التخطيط الدقيق المحكم دورهما أيضًا في النجاح المدهش لعملية العبور واقتحام وتحطيم خط بارليف الشهير. فقد قامت وحدات سام 6 وسام 7 المضادة للطائرات بإسقاط معظم الطائرات الإسرائيلية التي غامرت بالتحليق وبذلك سقطت في لحظات معدودة أسطورة السلاح الجوي الإسرائيلي الذي لا يقهر، وأمام هذا الأداء الباهر لهذه الصواريخ تم تحييد الطيران الإسرائيلي تمامًا عن المعركة وبذلك استطاع الجيشان الثاني والثالث المصريان القيام كل بدوره في دقة وفي نجاح ربما لم يتوقعه المخططون العسكريون المصريون أنفسهم تمامًا كما لم يتوقع الإسرائيليون النجاح السهل السريع الذي حققوه في حرب الأيام الستة، مع فارق إن تلك الحرب لم تكن أمام إسرائيل فيها أية من الموانع الطبيعية أو العسكرية الكبيرة التي واجهت المصريين في حرب العبور. مما يمنح المصريين الحق في الزهو إلي أبعد حد بما حققوه من انتصار عسكري خارق بجميع المقاييس العسكرية، ولا يقدم لنا التاريخ نموذجا مماثلاً استطاع فيه شعب أصيب بهزيمة عسكرية هائلة فقد فيها كل سلاحه ومعداته ومعنوياته أن ينهض بعد ست سنوات فقط ليحقق مثل هذا الانتصار الميداني الهندسي والعسكري والنفسي الباهر خلال أربع ساعات من بداية الهجوم.

* مسلمون وأقباط:
كانت القوات المصرية التي عبرت القناة وحققت الصدمة والترويع للإسرائيليين تتكون من خريجي الجامعات المصرية بعكس جيش 67 الذي كان يعج بغير المتعلمين من الفلاحين البسطاء، وكان لهذا أثره في ارتفاع مستوي الأداء في جميع مظاهره، كما كان الجيش يضم الآلاف من عنصري الأمة أي من المسلمين والأقباط، وكان الأقباط ممثلين في الجيش المصري في جميع مراكزه ووحداته بما في ذلك في قياداته العسكرية العليا.
بل إن من اللافت في هذه الحرب بالذات إن الهجوم المصري قام به جيشان أساسيان هما الجيش الثاني الميداني بقيادة اللواء "فؤاد عزيز غالي" وهو قبطي (مسيحي) والجيش الثالث الميداني بقيادة اللواء "أحمد بدوي" وهو مسلم، وقد استشهد في هذه الحرب ثمانية آلاف جندي مصري وجُرح أكثر من هذا بالطبع، ولا نعرف نسبة الأقباط في هؤلاء وان كان المرجح هو أنها تعادل بالتقريب نسبتهم في الجيش وفي المجتمع المصري بشكل عام، وكانت معركة العبور ملحمة وطنية باهرة من جميع الوجوه، جاءت تأكيدًا لصلابة وحدة مصر الداخلية أمام الأخطار الخارجية.

* دروس للمستقبل:
يمكننا الآن تلخيص دروس حرب العبور في النقاط التالية:
ـ إن الإنسان المصري الأصيل قد يصبر بعض الوقت علي أوضاع ظالمة أو مهينة أو استبدادية لكنه قادر أبدًا علي الانتفاض وتحقيق أعظم الانجازات التي تتجلي فيها إرادته الكامنة وعبقريته الأساسية القديمة المتجددة، ولا يجب أن يراهن أحد ضد الشعب المصري والإنسان المصري.
ـ إن الانجازات الكبيرة حقا في تاريخ الشعوب، مثل انجاز بناء السد العالي والتحرر الاجتماعي والنهضة الثقافية في عهد عبد الناصر، وانجاز العبور المجيد واستعادة سيناء بعدها كاملة في اتفاقية السلام في عهد السادات، تحدث هذه الانجازات عندما تلتقي إرادة الشعب وعزيمته مع قيادة جريئة تعرف كيف تحول مطامح المواطنين إلي انجازات واقعية.

ـ إن أعظم الانجازات الوطنية تحدث حين يعتمد الشعب والقائد معًا على قدرات الذات وليس على الغير، فقد قامت مصر عبد الناصر ببناء السد العالي رغم خذلان البنك الدولي لها بتعاون من الاتحاد السوفييتي ولكن بدون الخضوع له ولسياساته. وكذلك عبرت مصر السادات القناة بقدراتها الذاتية بعد أن خرج منها الخبراء الروس وتخلت عنها الإدارة الأمريكية بل وقفت ضدها في الحرب بعد ذلك.
ـ التفسير الديني المتطرف لأسباب الانتصار العسكري الذي قامت بتأويله بعد الحرب الجماعات الإسلامية المتطرفة في مصر، وما زال بعضها يقول به إلى اليوم والذي يتوغل في غيبيات تتوهم تدخل السماء والملائكة في الحرب إلي جانب هذا الطرف أو ضده، هي التي ساعدت علي خلق وتوسيع الشرخ الكبير الذي وقع بين عنصري الأمة المصرية بعد الحرب، وراجت تغذية الأفكار الدينية المتطرفة بعد ذلك، ولقد نجحت مصر في حرب العبور لأن جبهتها الداخلية كانت ما تزال صلبة قوية متأثرة بمبادئ الوطنية الأصيلة التي غرستها في جيل الثورة ثقافة يوليو العلمية المتفتحة، ولن تستطيع مصر تحقيق أي انتصار مع وجود شرخ أساسي في جبهتها الداخلية بين عنصري الآمة.

fbasili@gmail.com

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق