بقلم: لطيف شاكر
تاريخ مصر هو تاريخ الحضارة الإنسانية, حيث أبدع الإنسان المصري وقدّم حضارة عريقة سبقت حضارات شعوب العالم.. حضارة رائدة في ابتكاراتها وعمائرها وفنونها حيث أذهلت العالم والعلماء بفكرها وعلمها، فهي حضارة متصلة الحلقات تفاعل معها الإنسان المصري وتركت في عقله ووجدانه بصمتها.
لقد كانت مصر أول دولة في العالم القديم عرفت مبادئ الكتابة وابتدعت الحروف والعلامات الهيروغليفية وكان المصريون القدماء حريصين على تدوين وتسجيل تاريخهم والأحداث التي صنعوها وعاشوها، وبهذه الخطوة الحضارية العظيمـة انتقلت مصـر من عصور ما قبل التاريخ وأصبحت أول دولة في العالم لها تاريخ مكتوب ولها نظم ثابتة ولذلك اعتبرت بكافة المعايير أمًا للحضارات الإنسانية.
وقد واجه الباحثين في علم الحضارات وتاريخها إن الحضارة الفرعونية اختلفت عن جميع حضارات البشرية في أنها لم تخضع لسنة النشوء والارتقاء بل ظهرت متكاملة ومتطورة في جميع عناصر مقوماتها وكلما تغلغل الباحثون في الأعماق السحيقة للوصول إلى جذور المعرفة تكشف لهم مفاجأة بدايتها من القمة وتوازن جميع عناصر مقومات تكوينها من علوم الفلك والطب والكيمياء والهندسة والزراعة والفنون والآداب.... وفي مقدمتها العقيدة التي شملت أسرار الوجود والإيمان بالإله الخالق ووضعت تشاريع حياة المجتمع فمهدت طريق الحضارة المتعددة الأبعاد وحددت معالمه.. ذلك الطريق الذي سارت فيه مقتفية آثار أقدام مصر شعوب أخرى وشعوب الشرق القديم ثم اليونان مقتفية أثر المصري وجميع تلك الحضارات رأت النور بعد أن رفعت مصر شعلة الحضارة بآلاف السنين. ومن اليونان أخذت أوربا الكثير من معالم الحضارة التي يعيشها العالم الآن.
يقول عالم المصريات الشهير "جيمس بريستد": يدلنا التاريخ المصري القديم على نشوء المبادئ الخلقية وظهور عنصر الأخلاق، ويستطرد قائلاً: إنه من الخير أن نعيد الإشادة بتلك القيم القديمة التي أصبحت في زوايا الإهمال لاستخفافنا بها.
ويقول حينما نلقي بنظرنا إلى الوراء في بداية وجود بني البشر ينكشف لنا في الحال إن الإنسان قد بدأ حياته متوحشًا مجردًا من الأخلاق ثم يسأل لماذا لا يكون من واجب شباب اليوم رجالاً ونساء أن ينبذوا المبادئ الأخلاقية الموروثة عن الماضي باعتبارها مبادئ لا نعرف أي شيء عن أصلها؟
ويوضح في كتابه فجر الضمير: لقد حفظت في طفولتي مثل إخواني من الصبية الوصايا العشرة وعلمت أن احترمها لأنه أكد لي أنها نزلت من السموات على موسى النبي وأن إتباعها كان من أجل ذلك لزامًا علي, وأني اذكر إنني كلما كذبت كنت أجد أنفسي سلوى في أنه لا توجد وصية تقول يجب عليك أن لا تكذب وإن الوصايا العشرة خلت من وصية عدم الكذب واكتفت بعدم الشهادة الزور. ولما اشتد ساعدي بدأت أشعر في نفسي بشيء من القلق وأخذت أحس بأن قانون الأخلاق الذي لا يحرم الكذب هو قانون ناقص (جاء السيد المسيح ليكمل النقص في الناموس القديم وحرم الكذب تمامًا "ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا وما زاد على ذلك فهو من الشرير" (مت 37:5) وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني (رؤيا يوحنا 21 : 8). ويقول بولس الرسول ناهيًا عن الكذب بتاتًا فقال: لا تكذبوا بعضكم على بعض كولوسي (3 : 9) كما قال: اطرحوا عنكم الكذب أفسس (4: 25). ويقول يشوع "الكذب عارٌ قبيحٌ في الإنسان، وهو لا يزال في أفواه فاقدي الأدب" (سفر يشوع بن سيراخ 20: 26).
في حين نجد في الإسلام يصرح النبي: الكذب في ثلاث (في مسند أحمد كتاب من مسند القبائل باب من حديث أسماء ابنه يزيد... حدثنا عبد الرزاق اخبرنا سفيان عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عن أسماء ابنه يزيد عن النبي قال: لا يصلح الكذب إلا في ثلاث كذب الرجل مع امرأته لترضى عنه أو الكذب في الحرب فإن الحرب خدعة أو الكذب في إصلاح بين الناس).
ويستكمل بريستد كلامه عن الكذب قائلاً: بل قد ظهرت أمامي تجارب أشد إقلاقًا لنفسي وذلك عندما كشفت وأنا مستشرق أن المصريين كان لهم مقياس خلقي اسمي بكثير من الوصايا العشرة التي لم تحرم الكذب صراحة وأن هذا المقياس ظهر قبل أن تكتب تلك الوصايا بقرون عديدة.
والإله ماعت الباعث للصدق والحق والعدل كان له شأنًا عظيمًا في مملكة مصر بل كان للمصري أن يعترف أمام الآلهة بعد موته ضمن ما يسرده من اعترافات أنه لم يكذب حتى يكون له النصيب الصالح في الآخرة.
والكذب هو آفة من آفات الخطية التي التصقت بالجنس البشري بعد سقوط آدم وحواء في جنة عدن والبعض يحاولون تصنيف الكذب إلى نوعين كذب أبيض يحللونه لأنفسهم لأن له حسب قولهم هدف وغاية جيدة وكذب أسود وهو مُدان لأنه حسب قولهم يؤذي ويُضر وليس له هدف وغاية جيدة تبرره. ونريد أن نؤكد منذ البداية أن الكذب هو خطية ولا يوجد خطية بيضاء وخطية سوداء. وذلك لأن كلمة الرب منذ البدء أدانت كل ما هو كذب بكل أشكاله كما يقول الرب في سفر اللاويين بكل وضوح وبدون أي تصنيف أبيض وأسود.
كما أن الكذب يحمل في طياته أيضًا الغدر بالشخص المكذوب عليه وهنا يتكلم الرب بصيغة الأمر بدون أن يترك لنا مجالاً لكي نفكر أو أن نفهم فيقول ولا تكذبوا ولا تغدروا أحدكم بصاحبه لاويين (19:11).
ويكتب "امري" المؤرخ والعالم: "إن عظمة مصر تتجلى في تاريخ حضارتها ومدنيتها وأخلاقها التي استمرت خمسة آلاف سنة عاشتها أمة عظيمة موحدة ثابتة منظمة كانت دائمًا تخطو الارتقاء والتقدم".
والديانة المصرية القديمة -رغم وثنيتها وعدم خلوها من الأساطير– إلا أنها آمنت بالخلود والقيامة من الأموات, فحرصت علي مبادئ الأخلاق وعدم التفوه بالكذب كما اشتركت مع الأساطير بضرورة الثواب والعقاب. واعتقدت أن البشر يحوون قبسًا إلهيًا ويمكنهم أن يصبحوا آلهة حال مماتهم.
ورغم تعدد الآلهة لم يتصفوا بالتعصب العقائدي، بل كان هناك التسامح الديني بين المصريين ورغم أنهم آمنوا بأن الآلهة تساعد فرعون في حربه إلا إن هذه الحروب لم تكن أبدًا تبشيرية بآلهتهم بل كان التسامح وحرية الدين سمة وعلامة لهم في كل البلاد التي احتلوها أو للأجانب الذين استوطنوا بمصر.
وكل الوثائق البردية تكشف لنا فجر الضمير ونشوء أقدم السلوك وما نتج عن ذلك من ظهور عصر الأخلاق وأهدت للعالم لأول مرة في التاريخ حضارة مبنية على التوحيد والضمير والأخلاق.
ولكن ما عسانا الآن إلا أن نقول بحسرة: أين مصر الخالدة وماذا فعلنا بها وماذا قدمنا لها ولأبنائها؟؟ هل مازالوا على العهد باقين يرفعون شعار الحق والعدل والصدق هل مازال في ضميرهم الإله ماعت أم كفروا به لأنه كافر يستحق القتل بأثر رجعي, هل ساروا على نفس درب أجدادنا الذين لم يتصفوا بالتعصب العقائدي؟؟
أما نحن نعيشه لشوشتنا من خلال التيار الوهابي القادم لنا من بلاد البدو والصحراء ونبشر به بل ونصدره أيضًا للعالم كله, هل يوجد عدل ماعت في القضاء الظالم المرتشي الذي أبطل القانون في أحيان كثيرة ليحكم بشريعة كارهه للآخر وتعمل على قتله بظلم وبدون عدل أو رحمة, وهل يوجد روح ماعت في أمن الدولة الذي يقف بالمرصاد وتوحش ضد الشعب معتبرًا أن الكل خرج عن القانون الغائب ولا يستحق إلا الجلد والعذاب.
وفي ظل ما نعيشه خلال هذه الأيام في مصر الوهابية نيقن تمامًا بأننا تقدمنا بسرعة للخلف إلى ما وراء التاريخ الذي عاد مرة ثانية بقوة وكما قال العالم بريستد: إن الإنسان قد بدأ حياته متوحشًا مجردًا من الأخلاق.
إن مصرنا الحبيبة الآن لا تعرف الحق أو العدل أو الصدق.. وخلي منها وانتفى تمامًا الضمير والأخلاق في ظل التدين الحالي وعلماء الدين بعد أن كانت يومًا ما بمقتضى الديانة الوثنية الكافرة ومفكريها الفراعنة.. مهد الحضارات ومهبط الأديان والعقائد ومصدر العلم كما يذكر د. سيد كريم في كتابه لغز الحضارة المصرية.... وعمار يا مصر. |