بقلم / د. ناجي فوزي
ويصل تدخل كهنة المعابد المصرية في التأثير علي مصير الوطن المصري الي حد وصول هذا الوطن الي طور مأساوي؛ فمنذ بدايات محاولات الغزوالفارسي لمصر عام 525ق م , لم يجد المصريون من كهنة المعابد أية ايشارة لبذل المقاومة الوطنية ضد الغزاة , بل اتجه هؤلاء الكهنة الى دعوة الحكام الاجانب للعقيدة الدينية المصرية , وكأن اعتناق العقيدة هو صك الحكم للوطن ,لتصبح الدعوة الدينية بديلآ للمقاومة المسلحة, وهو الامر الذى وجد فية الحكام الاجانب ما يسهل لهم الاستقرار في حكم مصر ؛ فمجرد التقرب من الالهة المصرية ,أو بالاحري اصطناع هذا التقرب ,كان كفيلآ بتبرير حكمهم للبلاد (من جديد هناك ملاحظة تفرض ذاتها علينا : ما أشبه الليلة بالبارحة عندما نتذكرأن المرشد العام للاخوان المسلمين في مصر يرحب بحكم"الماليزي المسلم " لمصر ولايسمح للمواطن المصري غير المسلم أن يكون حاكمآ لمصر أو مشاركآ في حكمها ). و على أى حال , فعلى الرغم من كل ما سبق ذكره ؛ فأن المصريون لم يرضخوا لهذا الحكم الأجنبي وثاروا مرات عديدة ثورات هائلة , تسببت في تنكيل المحتلين الفرس بهم بكل عنف .
ولأن علاقة الفرس بالعبارات المصرية لم تكن على ما يراه دائمآ , فمن ثم لم يكن الكهنة المصريون على درجة من الرضاء التام عن الفرس , فسلطاتهم تقلصت , بل تضاءلت في فترات كثيرة , خاصه مع امتداد الوقت بالاحتلال الفارسى . لذلك رحب الكهنة المصريون بمقدم "الاسكندر الأكبر " عام 332 ق.م غازياً جديدا"طاردا للفرس , ومن ثم اعتبرالمصويون مخاصالهم من حكم الفرس ، ليصل الامر بأن يقرر الكهنه المصريون تتويج "الاسكندر " ملكا لمصر ، باعتباران لذلك وحى من " الاله امون " ، وباعتباره الاسكندر من ابنا له
ولانسمع لكهنه المصريين صوتا ضد الغزاه الاغريق بعد رحيل" الاسكندر" .
* المعابد المصريه من الاقطاعات الزراعيه والاموال الطائله ماجعل كهنه هذه المعابد فى صف الملك البطلمى فى كل الاحوال ، طالما انه يحافظ على مخصصات الكهنه وحتى يطمن البطامله ولاء هؤلاء الكهنه / من خلال تعزيز مركز قوتهم فى مواجهه مواطنيهم المصريين ، فإن الحكام البطالمه قاموا بصيانه المعابد وترميمها ، فضلا عن بناء معابد جديده للالهه المصريه ، مما كان له اثره فى المواطنين لاحقا ، فكلما ذكرنا من قبل ، فإن من الشعور الدينى عن المصريين هو دائما قوى ، واصبح يمكن التأثير فى وطنيه الكثير من المصريين ذاتهم من خلال مغازله مثل هذا الشعور ( ملحوظه : من جديد مااشبه الليله بالبارحه ) وتكمن المشكله الاساسيه فى ان كهنه المعابد المصريه كانوا يرضون بما يحصلون عليه من امتيازات من الحكام البطالمه فى مقابل التغاضى عن حق الشعب المصرى فى الحريه ، ومن ثم ساهمت تصرفات هؤلاء الكهنه فى التقليل من فاعليه ثورات المصريين ضد الحكام البطالمه ، الى حد ان جانبا من المصريين ذاتهم كان ينعت من يثور على البطالمه بالشر والكفر بالالهه وإن كان ذلك لم يمنع كثيرا من الثوار المصريين من الهجوم على المعابد المصريه ذاتها اذا عرف عن كهنتها انهم يوالون الحكم البطلمى .
ولان ولاء اغلب كهنه المعابد المصريه للحاكم ، حتى ولو كان اجنبيا ، يرتبط عاده بالامتيازات التى يحصلون عليها ، لذلك تسوء العلاقه بين هؤلاء الكهنه والحكم الرومانى فى مصر ، وتحديدا فى بداياته ، بسبب ان الامبراطور " اوكتافيوس " ، الذى نجح فى غزو مصر ، قام بضم املاك المعابد المصريه الى دوله الاحتلال ، وابقى للكهنه قطع صغيره من الاراضى الزراعيه ، وحتى هذه لم يسمح الامبراطور باعفائها من الضرائب ، ومع الحكم الرومانى تزداد االامور سوءا عندما يكرس كهنه المعابد المصريه فكره تعدد الرموز الدينيه وتحويلها من كونها مجرد رموز للاله المعبود الى ان تكون اله بذاتها ، تمثله فى الحيوانات كمعبودات رئيسيه ، لكى يتقاتل المصريون فيما بينهم دفاعا عن ملك المعبدات ، بدلا من الثوره على قوات الاحتلال الرومانيه .
وبعد التبشير بالمسيحيه فى مصر كانت الفتره بين اعلان"ميلانو" المشهور عام 313 بالسماح لرعايه الامبراطوريه الرومانيه باعتناق الديانه المسيحيه بدون اضطهاد ، وبين ظهور بوادر الصراع الدينى المسيحى / المسيحى بسبب بدعه" اريوس" ، هى فتره زمنيه قصيره ( بضع سنوات ) لم تسمح بظهور موقف المواطنين المصريين من الاحتلال الرومانى ، حتى بعد اعتناق اباطرته العقيده المسيحيه ، وحتى بعد اعلان هذه العقيده دينا رسميا للامبراطوريه .لذلك ارتبطت العلاقه بين اغلب المصريين والاحتلال الرومانى بالعقيده المسيحيه ، سواء فى فتره القرون الثلاثه الميلاديه الاولى ، التى اتسمت باضطهاد المصريين المسيحيه لاعتناقهم العقيده الجديده ، او فى الازمنه اللاحقه التى عاصرت اضطهاد المصريين المسيحين الذين يعتنقون مذهبا مسيحيا مخالفا لمذهب الامبراطور الرومانى ، الى حد قيام الامبراطور الرومانى بتعيينه بطريرك للمصريين تابع له وجود البطريرك المصرى المنتخب من المصريين .
واذا كان لرجال الدين المصريين المسيحين تأثيرهم الملحوظ فى بقيه المواطنين المصريين ، فإننا لانستطيع ان نعفى طائفه منهم كان من الواجب عليها ان تقود المسيحيين دائما فى طريق المحبه والتسامح ، وهو الطريق الذى يشكل الدستور الاساسى فى حياه المسيحيين ، فلا يندفع بعض المسيحيين المصريين بقياده بعض الرهبان الخارجين على قانون المحبه المسيحى هذا الى الاعتداء على الفيلسوفه السكندريه والمشهوره ، ذات الاصل الاغريقى ، "هيباتشيا " عام 414م ، الى حد سجلها فى شوارع الاسكندريه ثم الاجهاز عليها . واذا كانت محاولات الزج باسم البابا كيرلس ( عمود الدين ) فى سجل المسئوليه عن هذه الحادثه البشعه هى محل بحث دقيق للوقوف على حدود مسئوليه بالفعل ، الااننا فى جميع الاحوال لايمكن ان نتغاضى عن مسئوليه عدد من رجال الدين المسيحى السكندريين عن هذه الواقعه غير المقبوله بكل المعايير .
وقد كان " كيرلس " الحاكم البيزنطى على مصر ، والمعروف فى التاريخ العربى الاسلامى باسم " المقوقس " ، يحكم البلاد باعتباره واليا (سياسيا) وبطريركا (دينيا) فى نفس الوقت ، ومن ثم كان له ان يقرر تسليم مصر الى قائد الغزاه العرب "عمروبن العاص" ولكن الامر الذى يدعو للامعان هو موقف البطريرك المصرى المنتخب من الشعب " الانبا بنيامين " ، الهارب من وجه الاضطهاد البيزنطى ، ذلك ان الرعب الذى سببه هذا الاضطهاد البطريرك المصرى كان كفيلا بجعل هذا القائد الدينى المصرى يأخذ موقفا سلبيا من الصراع بين طائفتين من الغزاه . وهذا الموقف السلبى كان من شأنه ان يصب فى صالح الغزاه العرب ، وهو الامر الذى اوحى بأن البطريرك المصرى قد رحب بهم ، ثم صار التعميم المخل بالحقائق ، وهو ان المصريين / الاقباط قد رحبوا بالغزو والعربى الذى خلصهم من الاضطهاد الرومانى ، وهو امر لايذكره الا كتاب التاريخ العربى الاسلامى ومن يحذر ضدوهم ، ولعل السبب فى شيوع هذه المقوله هو ماعرف عن المصريين بأنهم يتركون قيادهم الدينوى ( العالمى / العلمانى ) فى يد رجال الدين بصفه عامه ، وهو الامر الذى رأينا ان حكام مصريسعون لتكريسه منذ زمن طويل . وعلى كل حال فإن اى مصرى رحب بالغزو العربى ليحل محل الغزو الرومانى هو قد ارتكب خطيئه فى حق هذا الوطن ، فالأجنبى المحتل لاصفه له الا انه اجنبى محتل ، وهو لايقبل من المواطن المصرى الا مقاومه هذا الاجنبى المحتل .
واذا كان التاريخ يذكر ان هناك من المصريين المسيحيين من اعتنقوا الاسلام بسبب عدم قدرتهم على دفع الجزيه ، خاصه مع سلسله الاضطهادات الدينيه المتواليه ، الا ان امر اللافت للانتباه ان بعضا من هؤلاء المصريين قد اعتنق الديانه الاسلاميه طمعا فى الحصول على المزايا التى كان العرب المسلمون يخصون انفسهم بها . ولكن المثير للدهشه فى هذا الموضوع هو ان بعضا من هؤلاء الطامعين اكتشف عنصريه العرب الغزاه ، كعنصريه قبليه اكثر من كونها عنصريه دينيه ، او تتساوى معها على الاقل ،لذلك لجأ هذا البعض من المصريين المتحولين الى الاسلام الى التنصل من حقيقه اصله المصرى ( القبطى بلغه العرب ) ، ويسعى لكى ينسب اصله الى غزاه وطنه من العرب ، ومن امثله هؤلاء ماتذكره كتب التاريخ العربى والاسلامى فى مصر من ان عائله تسمى عائله الحرمون ( هكذا تذكر اسمها الكتب ) تحولت الى الدين الاسلامى عام 185 هجريه ( أثناء خلافه هارون الرشيد ) ثم لجأوا للحصول على وثيقه "مفبركه" تفيد بأن هذه الاسره تنتسب الى قبيله عربيه من قبائل اليمن بجنوب شبه الجزيره العربيه .
وتذكر نفس كتب التاريخ ان الغزاه العرب لم يعترفوا بهذا النسب ، ليس لاعترافهم بتزويره بقدر ماهو بسبب شده عنصريتهم القبيليه ، حتى ان هناك اشعارا عربيه تهجو المصريين الذين يحاولون الانتساب للعرب على الرغم ان اعتناقهم الاسلام . وفى كل الاحوال يبقى ان هناك من اجدادنا المصريين من ثما هو غزاتهم الى حد إنكار اصولهم الوطنيه والانسحاق امام الممثل بادعاء نسبتهم الى هذا المحتل .
وعلى الرغم من محاولات تزييف تاريخ المصريين فى موقفهم من الغزو العربى ،فإن كتب التاريخ العربى والاسلامى فى مصر تعلن حقيقه انتفاضات او "هبات" القبط (اى المصريين ) وكيف قابل الغزاه هذه الانتفاضات الوطنيه بكل وحشيته ، بدءا من عام 107 هجريه ومرور بأعوام :121، 135 ، 150 ، 156 هجريه ، حيث ينتهى الامر فى اغلبها الى القمع ، وذلك الى ان يصل المصريون ( القبط ) الى ثورتهم الكبرى المعروفه باسم . "ثوره البشموريين " (216-217 ه ) التى لم يستطيع اى من الولاه العرب المسلمين ان يقمعها ، فقد كان الثائرون يقومون بالاجهاز على ايه قوات عسكريه عربيه تحاول الدخول الى مناطقهم فى ارض البشمور ، الى ان جاء الخليفه العباسى " المأمون " بنفسه ، على رأس جيش من بغداد (عاصمه خلافته ) ، وكان الجيش قوامه مائه الف جندى ، اخمد بهم ثوره البشموريين مع تصفيتهم عرقيا ، وذلك يقتل جميع الرجال مع سبى النساء والاطفال وحتى خدام الكنائس الى بغداد ة، و‘إحلال بعض من قبائل العرب محلهم . ولكن الامر اللافت للانتباه فى هذه الوقائع هو ان القياده الدينيه للاقباط المسيحين تقبل وساطه الغزاه بقياده " المأمون " ، فتنصح المصريين بعدم رفع السلاح فى مواجهتهم ، وان كان المفهوم من ذلك هو محاوله وقف سفك الدماء للجميع ، الا انه فى جميع الاحوال فإن هذه الوساطه غير مقبوله ، لانه كان على القياده الدينيه للمسيحيين المصريين ان تدرك ان المقاومه الوطنيه للمحتل هى احدى صوره مالقيصر ، الذى اصى السيد " المسيح " بفصله عن " مالله " فمن المهم ان نعرف ان " مسالمه رجال الدين " للغزاه ، فى ذلك الوقت ، لاتعنى استسلام الوطنيين لهم وقبولهم لواقع الغزو وكأنه إراده الهيه لاراد لها .
( وللحديث بقيه ) |