CET 10:13:49 - 10/10/2009

مساحة رأي

بقلم: فرانسوا باسيلي
في الجزء الأول من هذا المقال رأينا كيف تقوم جماعة الإخوان المسلمين بدور ضخم في مأساة توريث مصر، دون قصد منها، وذلك بمجرد وجودها في حد ذاته، إذ يستخدمها رجال النظام كفزاعة يرهبون بها المواطنين بالداخل والدول الغربية بالخارج قائلين لهم: إما أنا أو الإخوان! وبذلك أصبح الإخوان هم أهم أسلحة النظام في معركته لتأمين توريث مصر من الرئيس حسني مبارك لإبنه جمال مبارك.

وأنتقل هنا إلى دور الأقباط، والقيادات الكنسية في توريث مصر. ونجد أنه بخلاف الموقف المذبذب للإخوان المسلمين بين مؤيد تارة ومعارض تارة، فإن موقف القيادة الكنسية للأقباط كان واضحًا وثابتًا في تأييد التوريث –وإن لم يستخدموا هذا التعبير-. إذ صدرت تصريحات وأقوال لقداسة البابا شنودة نفسه، وأخرى لبعض مساعديه من الأساقفة، تتحدث عن "حب الشعب كله" لجمال مبارك، و"لا يوجد من هو أفضل منه" ولا يعكس هذا موقفًا قياديًا مختلفًا عن موقف الأغلبية من أقباط مصر فواقع الأمر أن أغلبية الأقباط داخل مصر وخارجها لا يمانعون من استلام جمال مبارك للحكم، وإن أعلن بعض الأقباط منفردين بمعارضتهم لمبدأ التوريث. ولكي نفهم موقفهم هذا علينا أن ندخل بشكل أعمق في السيكولوجية القبطية عبر التاريخ القبطي - المصري الحديث.

وطنية الأقباط

في أدبيات تاريخ البابوات الأقباط المعاصر نجد هذا الموقف للبابا بطرس الجاولي في حادثة شهيرة له مع قيصر روسيا أيام حكم محمد علي. فقد خشيت روسيا القيصرية من النفوذ المتصاعد لمحمد علي في الشرق الأوسط والذي بدا قريبًا من تهديد تركيا وجاراتها في الشمال، فأرادت روسيا أن تلعب لعبة الاستعانة بالأقليات لإضعاف الجبهة الداخلية للبلدان بالمنطقة، فأرسل قيصر أميرًا روسيًا لمقابلة بطريرك الأقباط -بطرس الجاولي– وعرض عليه وضع الأقلية القبطية في مصر تحت حماية قيصر روسيا العظيم، فابتسم البطريرك القبطي وسأل الأمير الروسي قائلاً: هل قيصركم العظيم يمكن أن يموت؟ فأجاب الأمير في دهشة: بالطبع يا سيدي، إنه يموت مثل سائر البشر. فقال البطريرك بطرس: ولماذا إذًا تريدني أن أدخل في حماية ملك يموت، بينما نحن نعيش في حماية ملك الملوك الله الحي الذي لا يموت! فانصرف الأمير مبهوتًا. وعندما ذهب لمقابلة محمد على باشا سأله عما أعجبه في مصر، وهل أعجبته آثارها، أجاب الأمير: نعم ما أعظم أبو الهول والأهرام ولكن ما أثار إعجابي هو بطريرك الأقباط! وعلم محمد على بعد ذلك بما حدث فقابل البطريرك وشكره.

وليس هنا مجال ذكر العشرات من المواقف الوطنية الناصعة المماثلة للعديد من قادة الأقباط الروحيين والسياسيين عبر القرنين الماضيين في مقاومة الإستعمار والتمسك بالوطن مصر ووحدته وكرامته. وصولاً إلى البابا الحالي الأنبا شنودة الثالث بمواقفه الشامخة دفاعًا عن الوطن ووحدته، بل وبمواقفه المؤيدة للحقوق العربية والفلسطينية، حتى أطلق عليه البعض لقب "بابا العرب"، وقد رفض البابا شنودة الذهاب مع الرئيس السادات إلى القدس في رحلته الشهيرة، وقال أنه لن يدخل القدس إلا ويده في يد إخواتنا المسلمين، ومن المعروف أن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان لا يزور مصر إلا ويزور البابا شنودة، وقد شاهدت مؤخرًا على يو تيوب فيديو تاريخي لإحدى هذه الزيارات.

ولهذا كله جاءت تصريحات قداسة البابا شنودة عن حب الشعب لجمال مبارك مثيرة لدهشة البعض من المصريين -وصادمة للبعض الآخر-، حتى أن بعض المفكرين المصريين المعروفين بدفاعهم عن حقوق الأقباط في المواطنة الكاملة -مثل الروائي علاء الأسواني- كتبوا معترضين على موقف البابا مطالبينه بالابتعاد بالكنيسة عن السياسة.

فما الذي يدفع بالقيادة الكنسية القبطية المشهود لها بالمواقف الوطنية التاريخية الصلبة حتى في أحلك فترات التاريخ باتخاذ موقف يبارك توريث مصر في اللحظة المصيرية الراهنة؟

من محمد علي إلى السادات

لا تستطيع "الأغلبية" في أي شعب أن تدرك إدراكًا كاملاً مشاعر "الأقلية" التي تشاركها الوطن، لأنها لا ترى هذه الاقلية إلا من الخارج -فتراها مشوشة– والأغلبية المسلمة في مصر-بما في ذلك النخبة المثقفة- لا تفهم مشاعر الأقلية المسيحية بشكل عميق، وعلى من يريد مخلصًا معرفة مشاعر الأقباط في مصر إدراك أن الأقباط لم يشعروا بتهديد حقيقي يمس وجودهم ودينهم ومستقبلهم في مصر ومنذ عهد محمد علي كما يشعرون منذ مطلع سبعينات القرن الماضي وإلى اليوم. فمحمد علي كان زعيمًا وطنيًا يسعى لمصلحة مصر -رغم أنه ليس مصريًا- عبر رؤية عصرية ترتكز على الأخذ بأسباب التقدم والحداثة من علوم وفنون بغض النظر عن الدين والجنس، واستطاع بذلك أن يضع مصر على طريق التقدم والنهضة حتى أصابه الغرور وراح يهدد أوروبا فانكسر أسطوله على سواحلها. وتحت رؤية كهذه يشعر الأقباط بالأمان ويقدمون كل ما لديهم للوطن، وتحت الإحتلال الإنجليزي لمصر كان للأقباط دور قيادي باهر لحركة المطالبة بالاستقلال حتى قام الإنجليز بنفي أربعة من زعماء الأقباط وثلاثة من زعماء المسلمين (لاحظ النسبة) وكانوا يتذمرون دائمًا من أن الأقباط لا يستجيبون إطلاقًا لمحاولات التفرقة الدينية، ومن يشاهد صورًا تاريخية لمصر في تلك الفترة يرى دائمًا صورة الصليب داخل الهلال في الشعارات واللافتات المرفوعة بشكل وطني بالغ الجمال. وكان للأقباط زعماء وطنيون ينظر إليهم المسلمون على أنهم زعماءهم أيضًا مثل السياسي الوفدي الكبير مكرم عبيد والقس سرجيوس الذي كان يخطب ضد الإنجليز في الجوامع والكنائس على حد سواء.

وعندما قام عبد الناصر بانقلابه العسكري لم يكن بين مجلس قيادة الثورة قبطي واحد. وإن كان عبد الناصر بعد ذلك قد وضع أقباطًا كوزراء للتموين والمواصلات وغيرها. ولكن دور الأقباط السياسي بدأ في الإنحسار في عهد الثورة بسبب انتهاء دور الأحزاب وموت الحركة السياسية الداخلية بشكل عام. ولكن الثورة لم تستهدف الأقباط كأقلية وإن كانت قرارات التأميم قد أضرت بمصالحهم الإقتصادية بشكل ربما أكثر –نسبيًا– مما أضرت المسلمين.. ولكن لم يشعر عامة الأقباط بالغبن أو الاضطهاد في عهد الثورة إذ كان توجه الثورة علمانيًا بشكل عام-دون استخدام هذا التعبير- وكان اليسار العلماني في مواقع السلطة الثقافية والاجتماعية مما أدى إلى تحرر اجتماعي سريع ومدهش في الخمسينات والستينات صاحبته حركة ثقافية وفنية باهرة ومثيرة، شارك الأقباط في كل هذا بشكل طبيعي بسبب غياب الإخوان ورؤيتهم الدينية العتيقة عن الساحة بعد إطلاقهم الرصاص على عبد الناصر الذي ضربهم بعدها ضربة أبعدتهم عن التأثير في مصر لما يقرب من عشرين عامًا. ولم تحدث حوادث عنف ضد الأقباط في عهد بعد الناصر وتبرعت الدولة لبناء كنيسة الكاتدرائية وهي أكبر كنيسة قبطية في مصر، ولم يكن يستطيع أحد أن يكتب أو يعلن من على المنابر تكفيرًا للأقباط أو النصارى، وبذلك لم يشعر الأقباط إلا بالأمان والمشاعر الوطنية الخالصة مثلهم مثل المسلمين تمامًا، وعلى هذا شاركوا في حروب مصر عام 67 وحرب الاستنزاف ثم حرب العبور عام 73 حيث اشترك عشرات الآلاف من الأقباط جنودًا وضباطًا وعلى مستوى اللواء والقائد جيش واستشهد منهم الآلاف بجانب أخوتهم المسلمين (الفريق فؤاد عزيز غالي.. قائد الفرقة 18 التي حررت مدينة القنطرة شرق ودمرت أقوى حصون خط بارليف عُيّن قائدًا للجيش الثاني الميداني ومُنح رتبة لواء)

صدمة التطرف

ما أن انتهت حرب العبور بالانتصار المصري المشرف حتى بدأت الأقلية القبطية تسمع ما لم يسمعه الكثيرون من الأغلبية المسلمة، وهي عبارة "النهاردة السبت وبكرة الحد"، ومعناها أننا انتصرنا اليوم على اليهود أصحاب السبت وغدا سننتصر على أصحاب الأحد -أي المسيحيين-! وهكذا بدأت نعمة الكراهية والعداوة والتعصب البغيض ضد الأقباط تعلو في سبعينات القرن الماضي، تغذيها رؤية دينية متطرفة للجماعات الإسلامية التي راحت تفرخها جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن أطلق لها نظام السادات العنان وشجعها على الاستيلاء على النقابات واتحادات الطلاب والاتحادات المهنية والجامعات واستطاعت الرؤية الإخوانية السلفية أن تسيطر على الشارع المصري بمزيج من الترغيب والترهيب. وفي خلال سنوات قليلة وجد الأقباط أنفسهم يعيشون في مجتمع راحت فيه الأغلبية المسلمة من شركائهم في الوطن تتغير تغيرًا سريعًا وظاهرًا ومحسوسًا وبشكل مرعب حقًا على جميع الأصعدة.

لكى تفهم مشاعر الأقباط الدفينة ضع نفسك مكان ذلك المواطن القبطي الذي يرى جيرانه المسلمين الرجال الذين كانوا يشبهونه في الملبس والمظهر والسلوكيات وحب المرح والحياة قد بدأوا يرتدون الجلباب الأبيض ويطلقون لحاهم السوداء بشكل ضخم ويحملون المسابح والمسواك ويقحمون الآيات في كل شيء ويمتنعون عن الضحك ويمتنع البعض منهم حتى عن إلقاء السلام أو تحية الصباح عليه، بينما يرى جيرانه من النساء المسلمات وقد بدأن يلبسن الحجاب والبعض منهن النقاب، وامتنعن عن مصافحة الرجال بالأيدي كما كن يفعلن ببساطة وتلقائية من قبل! يحدث هذا بشكل متزايد حوله بينما يرى جيرانه يطربون ويستمعون بنشوة وقبول لشيوخ ووعاظ في الجوامع يمطرون بلعناتهم "الكفار من اليهود والنصارى" في ميكرفونات تصم الآذان، ثم يرى أن محلاً تجاريًا في البيت الذي يسكن فيه قد تحول إلى زاوية أو مصلى وأن ميكروفونًا هائلاً قد نُصب أمام نافذته مباشرة، ثم يسمع هذا القبطي -الذي كف زملاءه وأصدقاءه القدامى عن دعوته لمنازلهم- عن حوادث العنف المتتالية ضد الأقباط في القاهرة والإسكندرية والصعيد وكل مكان، ثم حوادث أسلمة الفتيات حتى القاصر منهن، ثم مذابح الزاوية الحمرا ثم مذبحة الكشح، ثم حرق الكنائس ومطاردة المصلين الأقباط. إن هذا المواطن القبطي الذي يرى كل هذا يحدث حوله بشكل متزايد متسارع لا بد أنه سيشعر بالتهديد الخطير له ولعائلته ولمجتمعه ولوطنه كله، لذلك لم يكن غريبًا أن بدأ الشباب القبطي يهاجر من مصر بأعداد متسارعة، مما حدى بالبابا شنودة أن يقول بأسلوبه المرح المعروف واصفًا هذه الحالة الخطيرة وكانت أيامها جماعة التكفير والهجرة تنشر الرعب والعنف في أنحاء مصر "هم لديهم التكفير والهجرة، وأحنا عندنا التفكير في الهجرة".

ربما لا يفهم المثقفون المسلمون معنى أن يرى الأقباط أن مصر قد تحولت في خلال بضع سنوات إلى مجتمع مصاب بلوثة التشدد الديني إلى حد يقترب من الهوس والمرض، وبشكل طارد للقبطي الذي لم يعد يجد له مكانًا في الساحة المصرية العامة التي احتلها الإسلاميون بصخبهم الديني بالغ الإزعاج والتهديد لغير المسلمين بل وللمسلمين المعتدلين أيضًا، فاضطر المواطن القبطي إلى أن يهجر ساحة المواطنة المشتركة ويلجأ إلى كنيسته يحتمي بها من طغيان وصخب وهوس الشارع المصري الذي لم يعد مصريًا وإنما صار شارعًا إسلامويًا وهابيًا أفغانيًا باكستانيًا، ولكن بالتأكيد ليس مصريًا. فازدحمت الكنائس بالأقباط الفارين من مجتمع طارد لهم، فضاقت بهم واحتاجوا إلى مئات الكنائس الجديدة لاستيعابهم ولكن الدولة لا تمنهم تصاريح بناء فيصلون في البيوت فيلاحقهم "إخوانهم في الوطن"! هائجين ثائرين غاضبين ويقومون بإشعال النيران في المكان كما حدث، ومازال يحدث، في عدة مدن وقرى مصرية!

في هذا المناخ المرعب للأقباط يقدم النظام نفسه باعتباره الملاذ الوحيد من خطر الإخوان المسلمين المسئولين عن دروشة المجتمع المصري وتحجيب نسائه وحرمانه من الإبداع والفنون والتقدم والحياة العصرية، فكيف يستطيع الأقباط في هذا المناخ أن يعادوا النظام الذي يحميهم من خطر الدولة الدينية الذي بات على الأبواب؟!

إن المجتمع المصري قد صار مجتمعًا دينيًا لأول مرة منذ قرنين ولم يبق سوى النظام الحاكم وحده لم يرفع اللافتات الدينية، وأن كان بعض قياداته قد فعل ذلك وسار في الزفة مثل غيره، وأصبح الأقباط في وضع تحاصره المخاوف من كل جانب، وواضح أن قياداتهم الكنسية قررت أن تختار أهون الشرين. وهو استمرار النظام القائم رغم أن الكثيرين يحملونه مسئولية تدهور الأحوال في مصر في كل اتجاه -بما في ذلك تدهور العلاقة بين الأقباط والمسلمين- وفشل النظام في تقديم بديل وطني فعال لما يطرحه الإخوان من رؤية ما تزال هي المؤثرة في الشارع المصري.

كنت أتمنى ألا يكون هذا هو حال مصر اليوم

كنت أتمنى والحال على هذه الصعوبة، لو إختار الأقباط وقياداتهم الروحية أن يقفوا موقفًا وطنيًا ناصعًا يُضاف إلى مواقفهم التاريخية التي سجلها التاريخ بأحرف من ذهب. مطالبين بسمتقبل أفضل لمصر تتخلص فيه من فساد الاستئثار بالسلطة والحكم العائلي، وفيه تمتنع القيادات الكنسية عن الزج بنفسها في الصراعات السياسية، بينما يدخل فيه المواطنون الأقباط إلى المعترك السياسي بشجاعة وحماس وإيمان بأن مصر لن تسقط أبدًا في مستنقع التطرف الديني. وأن عليهم أن يضعوا أيديهم في أيدي إخوتهم من المسلمين المعتدلين، والعلمانيين، والليبراليين، واليساريين، والوطنيين المخلصين لانتشال مصر من الهوة الحضارية التى سقطت بها في ثلث القرن الأخير

ومازال هذا ممكن التحقيق... ولكِ يا مصر السلامة.

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٥ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق