الرجال فى سوق الرجالة، يجلسون على الأرصفة وفى الشوارع وتحت الكبارى وبالمزلقانات محملين بالفقر والعوز والهم بوجوه شاحبة بها خطوط وتجاعيد خطها الخوف من الغد، واضعين أمامهم معدات العمل التى تضم شاكوشاً وأجنة وأزميلاً يلفها فى كيس من القماش، وفى يده الأخرى كيس بلاستك يضع فيه غيارا آخر من الملابس، حيث يجلسون فيها بجوار بعضهم البعض منذ الخامسة فجرا وعيناهم جاحظة على السيارات الغادية والرائحة حتى إذا ما تتباطأ أمامهم هبوا إليها مندفعين إلى صاحبها، ليختار منهم ما يريد، ويبدأ التفاوض على الأجر من أجل عمل ليوم واحد، غالبا ما يترواح بين 30 جنيها وخمسين جنيها تلك هى حال عمال الترحيلة كل يوم، وبعد ثورة رفعت شعار حرية كرامة عدالة اجتماعية.
اليوم السابع، ذهب إلى سوق الرجالة ليرصد الصورة عن قرب الظروف الإنسانية والاجتماعية لهم.
يقول سليمان إبراهيم 28 سنة من أسيوط: مشكلتنا نحن عمال الترحيلة، "إن محافظاتنا لم توفر لنا فرصة عمل، وبسبب الحياة ومشاكلها اضطررنا المجئ للقاهرة من أجل الحصول على عمل نسد به حاجتنا ونربى به أولادنا لكن صدمنا بالظروف الصعبة وقلة العمل".
وأضاف: نحن أكثر من 12 فردا نسكن فى غرفة واحدة، وللأسف لم نجد من يرحمنا من هذا العناء والشقاء، والحال لم يتغير بعد الثورة بل ازداد الأمر سوءً، وأقول للرئيس مرسى "يا ريت متنساش الغلابة".
ويحكى محمد المنياوى 45 سنة "المنيا" "أنه ترك أسرته بدون أكل ولا شرب منذ 15 يوما والحياة فى القاهرة بهدلة لكن البيوت محتاجة وظروف العمل صعبة والعائد قليل ولا نسلم من سخرية الناس وتهكمهم، لكن ماذا نفعل؟ ومنا من ينام على الرصيف ويستحم فى الجوامع، علشان مش قادر يدفع أجرة السكن".
لا حقوق.. ولا ضمانات.. ولا تأمين
ويقول محمد حسانين 44 سنة المنيا، "أنا عندى 5 أولاد وبنت وكلهم فى المدارس، وليس لدى مصدر رزق فى بلدتى، وحاولت أن أجد فرصة عمل، لكن للأسف تعرضت لظروف صعبة اضطرتنى للسلف ولا أدرى متى أسدد ديونى، وإذا تعرضت للمرض لا أجد من يعالجنى فليس لى تأمين صحى، وعيالى ما "تلقيش" تأكل، وهو ده حالنا نحن عمال الترحيلة".
وحال عم فكرى، لا يختلف كثيرا عن بقية عمال الترحيلة فيقول: "والله حرام اللى إحنا فيه ده أنا سنى بقى 55 سنة وعندى 7 أولاد ومريض ومحتاج عملية فى ظهرى منذ 3 سنوات، ورحت مستشفيات وما فيش حل لأن كل حاجة بالواسطة وأنا راجل غلبان، ولم يسأل أحد فينا لا الحكومة ولا غيرها، وكأن لم تكن هناك ثورة والزمن لا يرحمنا، والحياة بقت صعبة، وكل شوية يكلمونا عن الدعم ولا فى دعم ولا غيره، والأسعار بقت نار، فلا حقوق ولا ضمانات ولا علاج والله العظيم حرام!!"
ويكمل حسين عبد السلام 42 سنة أسيوط، قائلا: "إحنا الصعايدة اللى خلينا مرسى رئيس، علشان يهتم بينا، لكن للأسف الرئيس ضحك علينا، وما عملش حاجة، وأحب أقول له كفاية تمثيل يا سيادة الرئيس على الغلابة، إحنا مش لاقين نأكل، ويا ريت ما تفتريش علينا بعد ما أخدت صوتنا".
أما أحمد صالح المنيا حاصل على دبلوم ثانوى تجارى 26 حداد مسلح، فيقول "للأسف عمال الترحيلة يمروا بظروف صعبة جدا ويتعرضوا للمخاطر بشكل يومى، ويضيف قائلا: "أنا شهدت زملائى فى المهنة يسقطون من أسطح المنازل أثناء تركيب الأسياخ الحديدة، أو من على الثقالات، ومنهم من لقى مصرعه، ومنهم من أصيب بعاهة مستديمة، وأصبح قعيد فى بيته دون عمل".
عمال الترحيلة من حملة المؤهلات أيضا..
ولم تقتصر عمال الترحيلة على الأميين فقط لكن هناك الكثير من عمال الترحيلة يحملون شهادات عليا، ومتوسطة مصطفى بدوى 27 سنة بكالوريوس خدمة اجتماعية بنى سويف الذى قال: "والله حرام بعد الثورة ما لقيش شغل أمال إحنا عملنا ثورة ليه بقى أنا دخلت الجامعة علشان اشتغل فى المعمار، وأشيل الطوب والحجارة".
قاطعه حسن عبد العليم من بنى سويف خريج معهد دراسات تعاونية، قائلا: "أنا نسيت إنى معى شهادة أصلا، وفقدت الأمل فى كل شئ، وللأسف فرحت بالثورة، وقلت أكيد الأمور هتتغير لكن للأسف ما فيش حاجة تغيرت وربنا معانا".
ومن جانبه، قال صلاح هريدى 33 سنة المنيا: "نحمل الطوب على أكتافنا ونناول المعلم ولا أحد يقدر يكلم المقاول وإلا خصم مننا نصف اليومية، وبنعيش حياة صعبة، ونشتغل يوم وخمسة لا، وبنروح كل شهر لبيوتنا بـ 300 أو 400 لما يبقى فى شغل، وأحيانا بنروح بـ100 و150 جنيها".
أما محمد خلف17 سنة طالب بدبلوم ثانوى زراعى، "أنا أعمل فى إجازة نهاية العام ونصف العام، وأروح كل 15 يوما، أحضر يومين ولا 3 أيام فى المدرسة، وبصرف على نفسى وعلى أسرتى لأن أبويا متوفى وأنا أكبر أخوتى فاضطر للعمل فى رفع الطوب والرمل".
الثورة القادمة ثورة الجباع..
وفى لهجة ساخرة يقول عيد فؤاد 48 سنة الثورة "القادمة ثورة الجياع، لأن رئيس الحكومة مش سيبانا فى حالنا ومستكثر العيش على الغلابة، ويحدد لنا 3 أرغفة فى اليوم، واحد الصبح والثانى بالغداء والثالث فى العشاء، ويستهزئ بحريمنا، مش كفاية اللى إحنا فيه من فقر وجوع ومرض، وفى النهاية يحسدونا عليه، ويا بخت الغلابة برغيف العيش، والله حرام!!!".
آراء شركائهم فى المهنة..
أما المعلم هريدى 55 سنة مقاول أنفار، يقول: "هذه المهنة اختلفت عن زمان فكان المعلم يأتى بالعمال من القرى والصعيد ويتولى رعايتهم فى المسكن والمأكل والمشرب، وكان هناك بركة أم الآن فالعمال يحبوا المقاولة والمساومة، ويرفضون أى عمل بأجر بسيط، فمثلا لو أتيت بشغلانة 300 جنيه وتحتاج إلى 4 أفراد، وتعرض عليهم لكل فرد 50 جنيها، يرفضون ويصرون على 60 أو 70 جنيها، ويطالبوك بالفطار والغداء، فأضطر أن أرفع السعر على صاحب العمل، وبمجرد من أن يجمع العامل 300 أو 500 يترك العمل وهذه مشكلة كبيرة".
وأوضح الحاج جمال كامل صاحب عقار 62 سنة، "أن كل مهنة بها الجيد والسيئ وكذلك مهنة طائفة المعمار، لكن الغريب أن منهم من يدعى الحرمان والفقر والعوز وعندما تطلبه للعمل يرفض أو لا يرضى إلا بأجر عالى، ويفضل المقاولة عن العمل المستمر، ومن هنا لا يهمه جودة العمل ولا إتقانه، ولابد أن تقف على رأسه أثناء العمل لأن الكثير منهم ليس عنده ضمير، ناهيك عن عدم احترمهم للمواعيد أو الاتفاقيات فمن الممكن أن يرجع فى اتفاقه بسهولة، ولو تركتهم ممكن يسرقوا الأسمنت أو مواد البناء، وهذا حدث معى، وكل اللى يهمه هو الأجر فقط".
وأكمل خالد محروس 42 مديرا بشركة مقاولات، قائلا: "للأسف أن الكثير منا يعتقد أنها فئة مظلومة، ولكن سلوكهم وتصرفاتهم وتفكيرهم يدل على أنهم فئة انتهازية لا يهمها إلا الكسب السريع، أما مصلحة العمل فليس لهم علاقة بها، فأنا أعرف كثير من شركات المقاولات أفلست بسبب تصرفات العمال وسلوكهم السلبى والسيئ، لكن هذا لا يمنع أن هناك عمالا بالفعل مظلومون".
أما المواطنين فيرون الموضوع من ناحية أخرى، فيقول الحاج محمد رمضان 60 سنة: "أنا كل ما أرى هؤلاء العمال يصطفون على الرصيف بهذا الشكل بحمد ربنا، وأتمنى أن الحكومة تساعدهم لأنهم غلابة بجد".
ورد سالم فتحى 32 مدرس "ناس ظروفها صعبة وتركوا بلادهم وأهاليهم من أجل لقمة العيش، وحكم عليهم الزمن بالفقر، ونرجو من الحكومة أن تساعدهم وتقف بجانبهم".
وقاطعه محسن خليل 35 سنة مندوب مبيعات، قائلا: "هؤلاء الفئة يحبون العمل بشكل متقطع وغير مستمر فيقبلوا أى عمل بأجر عالى ويرفضوا أى عمل حتى ولو كان مستمر بأجر متوسط، وليس لديه مشكلة فى أن يجلس طول النهار على الرصيف المهم أنه يصطاد شغلانة يقاول عليها تغنيه عن العمل لمدة 4 أيام أو أسبوع".
ردود أفعال المختصين
كشف الدكتور على سليمان أستاذ الصحة النفسية بجامعة القاهرة، أنه من المحزن أن الدولة ليس بها قاعدة بيانات لهؤلاء العمال ومن هنا ضم هذه الفئة إلى طابور البطالة غير حقيقى، فمنهم يعمل تحت الاستنزاف الانفعالى مستغلا عاطفة الشعب المصرى واهتمامه بالمظهر لا الجوهر، ولذلك تجد منهم من يمتلك أملاك فى بلادهم، ومن هنا يحب على الدولة أن تستفيد منهم من خلال وجود قاعدة بيانات سليمة، وبإنشاء مراكز أو مكاتب للعمل فى كل حى يستطيع المواطن إذا أراد عاملا يذهب إلى هذا المكتب، لنقضى على ظاهرة الاستغلال بين المواطنين، ونقنن من وضع هذه الفئة حتى لا يكون هناك حقد طبقة أو مظهر غير حضارى بالمجتمع، ونأمن من سلوكهم غير السوية ونرحمهم من الإدمان والتسول، أما ترك هذه الفئة فى الشارع سيقتل الانتماء والولاء والإيجابية عندهم، وسيكونوا عرضة للإدمان والتسول.
وقال شعبان محمد حسين محامى، "إن هذه الفئة لم تأخذ حقها القانونى فلا نقابة لهم تحميهم، ولا رابطة تستطيع أن تدافع عن حقوقهم القانونية والاجتماعية، مضيفا أنهم بالفعل يحتاجون إلى تشريعات قانونية جديدة تكفل لهم حقوقهم فى التأمين والعلاج، فهم بالفعل فئة مهمشة قانونيا واجتماعيا".
ونصح الدكتور السيد الفقى المستشار العام للمركز الكندى للتنمية البشرية وشقيق الدكتور إبراهيم الفقى عمال طائفة المعمار بأن لا يستهينوا بأعمالهم ومستواهم، وعليهم أن يرتقوا بمستواهم من خلال التدريب والتعلم من خلال توفير جزء من أموالهم من أجل التدريب، مستشهدا بقول الدكتور إبراهيم الفقى مش المهم أين تبدأ المهم هتنتهى فين، وذاكرا جزء من قصة حياة الدكتور إبراهيم عندما سافر إلى كندا وعمل فى فندق بغسيل الصحون، حتى انتهى به الحال ليكون مديرا عاما لهذا الفندق، ومن أهم علماء التنمية البشرية فى العالم".
ويقول الدكتور أمين على أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة، "إنه من المؤسف أن كثيرا من حاملى المؤهلات العليا والمتوسطة الدخول ضمن هؤلاء العمال، وهذا السوق، والمشكلة تكمن أن ليس لهم رابطة تحميهم ولا نقابة تطالب بحقوقهم، وأن العمل لا يتلاءم مع شهادتهم، ونجد أيضا كثير من هؤلاء العمال من الفلاحين وأهل الصعيد تاركين زراعتهم بسبب ارتفاع تكاليفها، ونتيجة لذلك نجد الإحباط واليأس يجتاح هؤلاء العمال مما يزيد من حالات الانتحار بين هؤلاء العمال، ويكون أيضا الشباب عرضة للإدمان وتناول حبوب الترامادول، كمسكن للإرهاق فى البداية، ثم يدمنه لكى ينسى تعبه وهمومه فى آن واحد، ويضيف د. على أنهم معرضون أن يكونوا مجرمين بسبب الحقد الطبقى والاجتماعى، فتجد منهم السارق والبلطجى أو المتسول فى الشوارع، ولذلك يجب على الدولة أن تجد لهؤلاء العمال حلول لمشاكلهم".
|