CET 00:00:00 - 22/10/2009

مساحة رأي

بقلم: فرانسوا باسيلي*
قبل سنوات قليلة كان الجدل في مصر هو هل الحجاب فرض؟ (تخيل أن هذا الجدل يحدث بعد ظهور الإسلام بألف وستمائة سنة!) وفي غياب وغيبوبة المسئولين عن الثقافة والوعي الديني والسياسي في مصر انتصر الفكر الإخواني وفرض الحجاب على نساء مصر بعد قرن من التنويري الرائد قاسم أمين!
واليوم نرى أن الجدل قد أصبح عن النقاب! وقد قامت حملةٌ ضاريةٌ ضد شيخ الأزهر لأنه قال إن النقاب عادة وليس عبادة. فلم يكن الحجاب سوى خطوةٌ نحو النقاب. ولن يكون النقاب سوى خطوةٌ نحو طرد المرأة كلية من الشارع ومن الحياة، وهي خطوةٌ نحو الدولة الدينية في مصر.
وكنت قد كتبت مقالاً عن جدل الحجاب قبل سنوات أرى أنه ينطبق اليوم على النقاب بتعديل طفيف. هذا هو:

الحجاب ليس فريضة إسلامية
هذا ما كتبه الشيخ مصطفى محمد راشد في روزاليوسف، ومن قبل أثار وزير الثقافة المصري زوبعة بتصريحه أن الحجاب عودة إلى الوراء وأن شعر المرأة كالورود الممتعة للنظر، اشتعلت على إثرها ردود فعل متشنجة في مجلس الشعب المصري قام فيها نواب الحزب الوطني الحاكم بالمزايدة على نواب جماعة الإخوان المسلمين "المحظورة"! في سباق لإثبات من الأكثر ورعًا وأشد إيمانًا وتقوى، بما في ذلك صرخات تعلن أن "الشعب المصري كله مسلمين"! ماحين بذلك من الوجود ملايين المواطنين الأقباط، دون أن يقوم رئيس مجلس الشعب الموقر بالتدخل للتصحيح حتى لا يعلو صوته على صوت حفلة الزار المنتصبة في الشارع المصري المهتاج دينيًا منذ ثلث قرن!
واليوم نرى أن الجدل قد أصبح عن النقاب!

في هذا الإطار أطرح الملاحظات والأفكار التالية:
الطريق إلى الله

في نفس اللحظة التي كانت فيها مصر بأوساطها السياسية والدينية والثقافية والإعلامية منهمكة في معركة الحجاب، في حشد عظيم للآيات المؤيدة والأخرى المعارضة وفي كر وفر وتهديد ووعيد يصل دائمًا في المعارك الدينية إلى حد التكفير وما يصحبه من حل للدم وتهديد للحياة.. في نفس تلك اللحظة كانت مركبة الفضاء الأمريكية الجديدة تنطلق من قاعدة كاب كانافريل بولاية فلوريدا تحمل عددًا من رواد الفضاء الذين ما أن أفلتوا من جاذبية الأرض حتى وصلوا إلى محطة الفضاء الدائمة السابحة في الفلك فخرجوا من مركبتهم الفضائية وراحوا يقومون بأعمال الصيانة والتجديد والإصلاح لأجهزة وكابلات المحطة لكي تزداد قدرتها على أداء مهامها من رصد للكواكب ومتابعة لحركة الأفلاك والبحث عن أسرار الكون والحياة.
ومادامت الحياة المصرية والعربية قد أصبحت في حالة انجذاب ديني مستمر بشكل خرج عن الطبيعي والسوي وأصبح حالة من المرض النفسي - إجتماعي الذي يستوجب الفحص والعلاج فدعنا نسأل سؤالاً دينيًا إذًا: أيهما أكثر اقترابًا من الخالق عز وجل: الجالسون على كراسيهم في حجرات فاسدة الهواء وعلى مقاهي مفتوحة طوال الليل والنهار يتجادلون حول مساحة ما يجب أن يُغطى ويظهر من شعر المرأة أو وجهها أو جسدها –وهو نفس الجدال الذي كان اجدادهم ينشغلون به في مصر منذ قرن من الزمان– أم الآخرون الفالتون من الجاذبية الأرضية المنطلقون في الفضاء الكوني الهائل يشيدون به محطات دائمة ويستكشفون به أسرار الكون وقوانين وجوده وحكمة خالقه فيه، ثم يعودون إلى الأرض لمواصلة المغامرة الإنسانية لابتكار حضارة تتجدد وتتقدم كل يوم؟
هل يمكن أن يتصور أحد أن الخالق العظيم سيسعد أكثر بؤلائك الخاملين الفارغين إلا من الكلام والضجيج والتهديد والوعيد مهما راحوا يسجدون له ويرددون صلوات لا تثمر شيئًا في حياتهم ولا تتحول إلى سلوك جاد جميل ولا إلى عمل مفيد للإنسان؟
إن الفهم الطفولي للدين وما يطلبه الله من الإنسان -وهو الفهم السائد في الثقافة العربية اليوم- قد جرد الدين من معانيه ومقاصده.. وحوله –على أيدى دعاة وأمراء جماعات وشيوخ جلهم غير متعلم– إلى سلسلة لا تنتهي من العبادات والطقوس والأوامر والنواهي والفتاوى التي تُطال أدق تفاصيل الحياة اليومية، والتي يتحول فيها الإنسان إلى "عبد" ذليل ليس عليه سوى الطاعة العمياء. فعليه قبل أن يدخل من باب أن يستفتي شيخه إن كان من الحلال أن يخطو بقدمه اليمنى أم اليسرى! إن الفكر الأصولي يريد تحويل العربي المسلم -تحت نير الثقافة الدينية اللغوية السلطوية السائدة- إلى إنسان مخصي العقل، لا يملك أن يفكر في أي أمر من أمور حياته، فالشيخ وحده هو من يحل ويربط له، فكيف لإنسان كهذا في حالة العبودية العقلية والتبعية الشخصية هذه أن يبدع أو ينجز أو يبتكر أو يخترق حواجز المتداول المتعارف عليه لكي يحقق السبق والفوز في أي مجال من مجالات الحياة؟
إن البحث العلمي هو أنبل صلاة يمكن أن يرفعها انسان، والمعادلات والرياضيات هي أجمل الآيات.

جسد المرأة وشرف الرجل
قبل زوبعة الحجاب لوزير الثقافة المصري بقليل تناقل الإعلام الدولي تصريحًا لمفتي استراليا يلقي فيه اللوم في جريمة اغتصاب على النساء لأن لحمهن العاري يثير غرائز الرجال ويدفعهم للاعتداء عليهن، وقال ما معناه كيف نلوم الذئاب أو الكلاب المسعورة إذا مانهشت اللحم العاري؟ وقال أن هدفه النبيل هو حماية المرأة لذلك يرى وجوب أن تتحجب وتستر لحمها.
هذا الفكر الذي يلوم الضحية ويوقع على المرأة اللوم فيما تتعرض له من اعتداءات من قبل الرجل هو فكر قديم. فتاريخ البشرية هو –في إحدى أهم صوره- تاريخ تسلط الرجل على المرأة في الإطار الأوسع لتسلط القوى على الضعيف، وهي شريعة الغاب التي جاءت الحضارات المتتابعة لتغييرها والرقي بها بإدخال قوانين تحمي الضعيف من بطش القوى في مساواة للجميع أمام القانون.
في مجتمعات سيادة القوة الغاشمة والبلطجة المقنعة وغير المقنعة امتلك الرجل المرأة كجزء من ممتلكاته، وكان يقوم بتوزيعها كما يشاء على أقرانه كزوجة أو جارية أو خادمة أو عشيقه. وتحكم الرجل في زواج ابنته وكثيرًا ما باعها لمن يدفع أكثر. وتحكم الزوج في زوجته وقام بتقنين القوانين التي تحافظ على ملكيته للمرأة مثل عقوبة الموت بالرجم للزانية والحرق للمارقة والضرب للناشزة والحبس في بيت الطاعة للمحتجة المتمردة والتطليق على الهوى وأصناف أخرى من الإذلال والتعذيب والاضطهاد والاستعباد.
وقام الرجل بإسباغ هالات من القداسة والشرف والحرمة على جسد المرأة لكي لا تمسه يد رجل آخر، فاعتبر أن شرف المرأة هو جسدها. فالفضيلة الأسمى لدى المرأة وشرفها الأعظم والأوحد ينحصر في جسدها. أما شرف الرجل ففي كلمته وهيبته وشجاعته ورجاحة عقله. وهكذا قام الرجل -واضع القوانين ومفسر الشرائع والمفتي بالحلال والحرام للبشر- بتحويل المرأة إلى جسد –أو شيء من الأشياء- يمتلكه ويتحكم فيه ويضربه ويقتله ويضاجعه ويبيعه ويشتريه على هواه متى شاء وأينما شاء، وروج لملكيته هذه بتفسيره للشرائع والآيات والأحاديث وبتحويله لتفسيراته إلى قوانين وأعراف وعادات.
وكان من أهم مظاهر تأييد إمتلاك الرجل للمرأة أنه فرض عليها ما تلبسه وحرم عليها رؤية رجال آخرين، فهو يريدها ملكًا خاصًا له وحده تشبعه غذائيًا وجنسيًا وتمنحه الخلف من الأولاد أساسًا ومن البنات اضطرارًا، وكان العرب في الجاهلية يوأدون البنات حتى جاء الإسلام محرمًا ذلك. ولكن بقيت معظم العادات البدائية الأخرى المتعلقة بامتلاك الرجل للمرأة يمارسها الرجل في ارتياح وكثيرًا ما يلجأ للوي معاني الآيات والأحاديث لتبرير استمرار تسلطه على المرأة وتحكمه في سلوكها.
مع تطور الحضارات في المجتمعات الغربية راحت تتراجع ببطء شديد فكرة حصر شرف المرأة في جسدها، ومع عصر النهضة وحركة التنوير تحررت المرأة تدريجيًا من تسلط الرجل وأصرت على تغيير المفهوم البدائي الذي يحصر شرفها فيما بين فخذيها وطالبت بالمساوة الكاملة مع الرجل. واستطاعت المرأة في الحضارة الغربية أن تقطع أشواطًا هائلة نحو المساواة الكاملة وأصبحت هي -وليس زوجها– من تملك جسدها. ولم تعد المرأة تتبع الأوامر الدينية التي يلقيها عليها رجال الدين المسيحي طاعة عمياء، وكثيرًا ما ترفض هذه الأوامر فنجد أن الأغلبية من النساء من الكاثوليك يستعملن أقراص منع الحمل رغم ان الكنيسة الكاثوليكية ما تزال مصرة على تحريم ذلك، وهكذا راحت المرأة الغربية تمارس حريتها وملكيتها لجسدها بشجاعة وجرأة حتى في وجه تحريم واضح من الكنيسة.
ولأن المجتمعات العربية الإسلامية ما تزال خاضعة خضوعًا كبيرًا للتسلط الديني الذي يمارسه من يريد التسلط على الآخرين من أمراء الجماعات أو من الدعاة المتشددين أو من منظمات متشددة مثل الإخوان المسلمين أو من حركات متشددة كالوهابية، نجد أن المرأة المسلمة ما تزال تعاني من تسلط ثقافة ذكورية سائدة تتسلح بأشد التفسيرات الدينية تزمتًا ورجعية لتبقى على تبعية المرأة للرجل وخضوعها له. ويأتي الحجاب الذي قام الإخوان المسلمين بنشره في مصر وبقية المجتمعات العربية حلقة أخرى من حلقات الصراع التاريخي بين المرأة وآسريها.
ولتأكيد تسلطهم على المرأة يقدم المتزمتون والإخوان المسلمون عددًا من الأساطير على أنها حقائق وثوابت من ثوابت الدين ليصادروا حق الآخرين في التفكير والاعتراض كما أرادوا مع وزير الثقافة المصري. وهذه هي بعض هذه الأساطير:

الحجاب حرية شخصية:
يقول لنا الذين لا يؤمنون بحرية الإنسان في تغيير دينه ومعتقداته –لأنهم يؤمنون بوجوب حد الردة الذي يقضي بقتل المرتد عن الدين- يقولون أن الحجاب هو شأن شخصي يتعلق بالحرية الشخصية للمرأة في اختيار ما تلبس وما لا تلبس.
هذا في نفس الوقت الذي يطالب فيه نواب الإخوان في مجلس الشعب بإلغاء مسابقات الجمال في مصر رغم أن النساء المشاركات بها يفعلن ذلك بمحض إرادتهن دون إرغام من أحد كما أن الذين يشهدون هذه العروض يفعلون ذلك أيضًا بإرادة حرة. فأين احترام الحرية الشخصية هنا؟
وأتفق مع من يعتبر الحجاب أمرًا يتعلق بحرية المرأة في اختيار ما تلبس، على شرط أن تكون المرأة حرة فعلاً في الإختيار، ولكن الأمر الذي حدث في مصر ليس كذلك، فقد كان الإخوان يروجون الرأي القائل أن الحجاب فرض ويتهمون بالكفر من يقول بغير ذلك، وكانت النساء في مصر يتعرضن لضغوطات هائلة لكي يتحجبن، كما كانت الأموال تتدفق من السعودية الوهابية لشراء الحجاب ومنحه مجانًا للمصريات غير القادرات ماديًا، هذا بينما أجبر الكثير من الأزواج زوجاتهن وبناتهن على التحجب، وهناك من يحجب بناته في المدارس الابتدائية! فكيف يُقال مع هذا كله أن المرأة لديها حرية الاختيار؟ إن حرية المرأة في اختيار حجابها في مجتمع إسلامى ذكوري متسلط هي أسطورة من الأساطير.

الحجاب من أركان الإسلام
كنا ندرس في حصص الدين واللغة العربية في المدارس المصرية أن الإسلام له خمسة أركان هي النطق بالشهادتين والصلاة والصوم والزكاة والحج لمن استطاع له سبيلاً. ولكن اليوم أضاف المتشددون -على ما يبدو- ركنًا سادسًا هو الحجاب ثم النقاب!
وليس لي الدخول في مناقشة فقهية ولكن من حقي ملاحظة أن معظم فتيات وسيدات مصر في مدنها الكبرى في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين لم يكنّ محجبات. أعرف ذلك لأنني رأيته بعيني! فهل من المعقول أن ملايين المصريين لم يعرفوا فرضًا أساسيًا من فروض دينهم في تلك الفترة؟ هل معقول أن يكون الحجاب فرضًا ولا يقول ذلك شيخ الأزهر ووزير الأوقاف وكبار دعاة مصر وقتها؟!
المعقول هو أن الحجاب فرض فرضه الفكر الإخواني - الوهابي وليس الإسلام. وهناك علماء ودعاة ومتخصصون إسلاميون كبار يقولون أن الحجاب ليس فرضًا ومنهم المفكر الإسلامى المعروف جمال البنا شقيق حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين والشيخ مصطفى محمد راشد. وأصدر الشيخ السوداني حسن الترابي تصريحات تجيز السفور وزواج المسلمة من غير المسلم.
ولكن الجماعات الإسلامية والدعاة المتشددين يسارعون إلى تكفير هؤلاء وإخراجهم من الملة لكي لا يفسدوا عليهم حالة التسلط الذكوري التي يمارسونها على نساء مصر. فهم يصادرون ويكفرون الفكر الآخر ولا يحترمون حرية رأي ولا حرية شخصية حقيقية.

الحجاب يصون المرأة من شهوة الرجال
يحاول المتشددون تقديم الحجاب والنقاب على أنهما مثال الفضيلة للمرأة وتقرأ لهم عبارات الهيام التي يصفون بها كل محجبة ومنقبة، وكأن النقاب قد حوّل المرأة إلى قديسة من جنس الملائكة الأطهار، ولا شك أن هذا أحد أساليب الترغيب التي يتبعونها. ولكن فكرة أن الحجاب تعبيرعن الفضيلة فكرة قديمة جدًا ولم تعد ذا معنى في عصرنا هذا. فنحن نعرف الآن أن الفضيلة هي خلق وشخصية سليمة وقدرة حازمة على ضبط النفس وإدارة العلاقة مع الآخرين وأنها هي الصدق مع النفس ومع الآخر وأنها هي المعاملة الحسنة والمحبة والرحمة والأمانة، وكل هذا لا علاقة له بما ترتديه المرأة ولا بمساحة ما يظهر من جلدها. إن حجاب المرأة في الغرب الأوروبي والأمريكي يزيد من لفت نظر الرجال وليس العكس. فكيف يكون هذا من أجل حماية المرأة من نظرات الرجل؟!
أما فكرة أن المرأة التي تُظهر شعرها أو ذراعيها تثير غرائز وشهوات الرجال وتدفعهم إلى الاعتداء عليهن فهي فكرة بدائية هي الأخرى. فإذا كان هذا صحيحًا فكيف لا نجد الشواطئ الأوروبية والأمريكية وقد أصبحت مسرحًا لحوادث الاغتصاب الجماعي؟!
إننا هنا نرى النساء شبه عاريات تمامًا مستلقيات تحت الشمس في استرخاء كامل والرجال حولهن في كل مكان ومع ذلك لم نشاهد رجلاً واحدا يخرج فجأة عن طوره ويصيبه الهياج الجنسي ويهجم على سيدة راقدة عارية أمامه لكى يغتصبها! إن آلاف الشواطئ في مئات المدن الغربية ومئات الملايين الذين يترددون عليها كل صيف هي الإدانة الفاضحة للفكر البدائي الذي روج له المفتي الأسترالي من أن لحم النساء العاري هو الذي يثير شهوة الرجال ويدفعهم لإغتصاب النساء. إن هذه أسطورة اخرى من الأساطير التي يطلقها الفكر الإخواني – الوهابي المنغلق المبتعد تمامًا عن كل ما هو واقعي وعصري وطبيعي ومتحرر في عالمنا اليوم.
والغريب أن المروجين للحجاب والنقاب يقولون دائمًا.. وهل الأفضل هو أن تتعرى المرأة وتظهر مفاتنها للجميع كالعاهرات؟ وهذا اعتراض سخيف ومتهافت. فهل ليس أمام المرأة سوى اختيارين هو إما أن تتحجب و تتنقب وإما أن تتعهر؟ ألا يرى هؤلاء الملايين من النساء في مئات المدن الغربية والشرقية وهن في أماكن عملهن في المكاتب والمصانع والمدارس في ملابس معتدلة أنيقة لا هي بالمتزمتة ولا هي بالمتبرجة؟
ألا توجد حالة وسط كانت هي واقع الحال في مصر نفسها منذ ثلث قرن فقط، قبل أن يسود فكر الإخوان المتشدد والمعادي للحرية الحقيقية وللفكروالعلم والإبداع والفنون؟
وقد يسأل البعض: ولكن لماذا كل هذا الهجوم على الحجاب والنقاب؟ ولماذا تسارع دول عربية مثل تونس وأوربية مثل فرنسا بمنعه أو الحد منه في أماكن بعينها؟ ما الضرر في أن مسلمات مصر قد تحجبن أو تنقبن وعدن إلى ما قبل عصر فاطمة رشدي وقاسم أمين، حتى لو كان هذا بسبب ضغوط من الإخوان؟
والرد هو أن نجاح الإخوان في ترهيب وترغيب نساء مصر ومجتمعات إسلامية أخرى في ارتداء الحجاب والنقاب –بأساليب الترهيب والترغيب التي ذكرتها– يعنى نجاحهم في فرض رؤيتهم الدينية المتشددة على هذه المجتمعات، ومسيرة الحضارة هي مسيرة التحرر من التزمت الديني ولهذا فالعودة إلى ذلك التزمت هي فعلاً عودة إلى الوراء كما قال وزير الثقافة المصري دون أن يشرح فكرته هذه أو يساندها بالحقائق التاريخية والقرائن المنطقية. وسبب عجزه عن هذا أن الثقافة في مصر اليوم لم تعد تسمح بحرية حقيقية للفكر المتحرر أو للاجتهاد الديني المستنير. فسيف التكفير مشهور أبدًا، والاغتيال الجسدي أو المعنوي –أو التهديد بهما– أمر واقع تشهد عليه عملية اغتيال فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ والتهديد باغتيال سيد القمني. لقد نجح الإخوان في فرض فكرهم الديني المتشدد على الشارع المصري منذ أن شجعهم السادات على ذلك ولم يقدم نظام الرئيس مبارك فكرًا بديلاً قادرًا على أن يكون خيارًا حقيقيًا أمام الشباب المطحون الصاعد. فإذا بالجيل الجديد في مصر يصبح أكثر تشددًا من جيل والديه، ورأينا فتيات تتحجبن رغم أن أمهاتهن لم تكنّ محجبات. وهكذا ولأول مرة في التاريخ، يجيء جيل بأفكار وبأسلوب حياة أكثر محافظة وتشددًا دينيًا من جيل والديه، بينما حركة التاريخ في بقية مجتمعات العالم هي في اتجاه التحرر المتزايد لكل جيل عن الجيل السابق.

فى النهاية، الأمر ليس درجة الإيمان أو مدى التدين، فهذه بين الإنسان وربه، ولكن الخطير أن الحجاب يستخدم كشعار ديني - سياسي معًا، وهو رمز للإثنين -حتى ولو لم يقل الإخوان هذا– فنحن هنا أمام شأن سياسي يتعلق بمستقبل مصر وطبيعة المجتمع والدولة، وهل ستصبح مصر دولة دينية أم دولة تفصل الدين عن السياسة وتعامل جميع المواطنين على أسس المواطنة الحديثة؟.
إن كل مجتمع ذا صبغة دينية هو عودة إلى القرون الوسطى، ولم يعد أسلوب الحضارة الحديثة يسمح لأي مجتمع تكبله أغلال التزمت الديني بالنجاح في أي مجال، لأن التزمت يقتل حرية الإنسان ويقتل بالتالي قدرة الفرد –والجماعة- على الإبداع والإنجاز وتحقيق التفوق والتجاوز في جميع المجالات. فالسؤال ليس هو كم بوصة من جلد المرأة يحل لها أن تظهر أو تخفي؟ السؤال هو كيف نساعد الشباب الصاعد على تحرير فكره وكسر أغلال استلابه العقلي لكي يجرؤ على مناقشة الموروث ومحاسبة السلطات الدينية والسياسية وتأكيد حريته الذاتية وفرض اختياراته الشخصية ضد السائد والمتسلط الذي يرهبه باسم الدين ويحرم عليه الحياة بكل مافيها من وعود الإبداع والخلق والتحرر والتجاوز الحضاري البهي.

* كاتب من مصر يقيم في نيويورك
fbasili@gmail.com

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٤ تعليق