بقلم: د. صبري فوزي جوهرة
تفضل المشرفون على الإعداد لمؤتمر عالمي لوضع رؤيا مستقبلية لحقوق الأقباط، تقرر انعقاده في مدينة فينا بالنمسا في السابع عشر والثامن عشر من نوفمبر, بدعوتي ضمن نشطاء الأقباط والمنظمات القبطية الأوربية والأمريكية والكندية للمشاركة في هذا اللقاء الذي أرجو له كل نجاح. وقد حالت ظروف عملي والدعوة المفاجئة وخضوعي للعلاج الطبي حاليًا دون إمكاني الاستجابة إلى هذه الدعوة الكريمة.
وأنا إذ أعرب عن شكري الجزيل لأصحاب الدعوة لتفضلهم بإفضاء شرف المساهمة في العمل على الحصول على حقوق الأقباط في مصر على شخصي غير المستحق, أقدم أيضًا اعتذاري المخلص على غيابي القهرى عن الاجتماع, فشرعت في كتابة هذا المقال راجيًا أن يصلهم محتواه كأقل ما استطيع المساهمة به لنجاح مساعيهم النبيلة.
قد يتساءل البعض عن جدوى هذه اللقاءات بكافة أوصافها ومسمياتها وينظرون بعين التشاؤم والعدمية لهذه الجهود.
وبصرف النظر عن إن الحديث العلني عن القضية القبطية كان من المحظورات منذ أقل من أربعة عقود من الزمان, فأصبح مادة يومية تتداولها وسائل الإعلام الشريفة وما أقلها والساقطة وما أكثرها في مصر, إلى جانب الصحف والإذاعات و الهيئات المهتمة بحقوق الإنسان في كافة أرجاء العالم بعد صمت مخزي امتد عبر أربعة عشر قرنًا من الزمان.
لا شك إن على الإنسان المنصف أن يعترف بالدور المحوري الذي لعبته الصرخات القبطية الخافتة الصادرة عن هذه اللقاءات إلى جانب جهود وتضحيات الزعماء المصريين العظام أمثال الدكتور شوقي كراس ورفاقه من المؤسسين المخلصين, والمهندس عدلي أبادير وغيرهم من الشرفاء الذين لا يقبلون الظلم والضيم لأنفسهم أو لأبناء جلدتهم, ذلك بالطبع دون المدعين الباحثين عن المكاسب الزائلة وممارسة جنون العظمة. كان لهاتين الظاهرتين الحديثتين: اللقاءات والزعماء الكبار كل الفضل بتعريف العالم المتحضر بما يجرى في مصر من اضطهادات للأقباط مبرمجة ومدعمة من الدولة سواء بالإهمال أو النفي أو الصمت أو التآمر الخفي أو سائر هذه الوسائل الوضيعة.
للقاءات الأقباط المماثلة إذًا دور حيوي في إبلاغ العالم بما يجرى لأحفاد صناع الحضارة الأول وكيف تكالبت قوى الجهل والعدوان والنرجسية والعنصرية للقضاء على وجودهم في عقر دارهم. هذه المؤتمرات ما هي سوى محاولات لجذب انتباه الضمير العالمي وإيقاظه ليرى ويسجل سقوط العقل وفساد الضمير وشر المقاصد التي يمارسها ويتبناها العنصريون الإرهابيون, فيعمل العالم المتحضر -إن أراد- على إيقاف هذا الأذى الجسيم والضرر البالغ الذي يلحقه زبانية الجحيم وجنود الشيطان بمسيحيي مصر أولاً ثم بكافة شعوب العالم المتطلعة إلى السلام والرخاء و الازدهار والتغلب على تحديات جيوب المرض والفقر والجهل الباقية وما أكثرها.
لقاءات الأقباط هي أيضًا تعبير متحضر عن رفض أقباط مصر للإذلال المتعمد الذي يتجرعونه في بلادهم يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة. لقد منعتنا عقيدة السلام والمحبة التي بذل أجدادنا من قبلنا وإخوتنا في هذا العصر المظلم من تاريخ مصر أرواحهم للحفاظ عليها من إتباع طرق العنف والعدوان كما يوحي الشيطان لأتباعه, فلم يبقى لنا من سبل الاحتجاج عمّا نعاني سوى التعبير بالقول بشجاعة وقوة ومثابرة وصبر ورجاء وثقة. أما إذا تقاعسنا عن ارتياد هذا السبيل فلا لوم لأعدائنا على التمادي في شرورهم بل اللوم والخزي والعار يقعون على رؤوس عديمي النخوة والشرف، لهذا كانت هذه اللقاءات لتؤكد للعالم أن الأقباط ما زالوا أحياء ينبضون بالإباء وعزة النفس ومعرفة القدر بالرغم مما يلاقونه من محاولات جنود إبليس.
ينادي البعض -وأنا من أوائلهم- بضرورة تأسيس "كونجرس" قبطي عالمي يضم أقباط المهجر في كافة أرجاء المسكونة, بالإضافة إلى من استطاع منّا من الباقين في الوطن. ولكني أرى إن تحقيق هذا الحلم العزيز لن يجيء قريبًا.
يرجع هذا إلى أسباب عديدة أولها: عدم تمرسنا واعتيادنا كأشخاص أو كجماعات على الأساليب والممارسات الديمقراطية في مختلف مجالات الحياة الخاصة والعامة, هذا إلى جانب قلة الرجال المخلصين القادرين على العمل بروح التضحية والخدمة وإنكار الذات إلى جانب ما يجب أن يتحلى به القائد الناجح من التحلي بالأخلاق والمبادئ القويمة في حياته الشخصية والقدرة على العمل والنظر الدائم إلى الهدف وعدم إغضاء النظر عنه ووضوح الرؤيا وبعد النظر والحكمة والخبرة والمعرفة والشجاعة والحفاظ على وحدة الجماعة وحسن معاملة الجميع والانفتاح للآراء المغايرة وقبولها وتبنيها عندما تكون أكثر صوابًا ورفض "الشللية" وفتح أبوابه وقلبه للجميع وعدم الاستسلام للإحباط واليأس.
فإذا أضفنا إلى هذا الضعف الذاتي فينا جبروت وتجبر العدو وحيازته لأموال طائلة هي أول وأخر محركات هذا العالم, واندساس المدعون الخونة والباحثين عن المال والجاه والشهرة بين صفوف القلة المخلصة التي تسعى بحق إلى استرجاع حقوقنا في بلادنا, وإصابة الغالبية العظمى منّا بالسلبية والخوف المتراكم عبر قرون القهر والعدوان والاستسلام للظلم وقبوله وانعدام العدالة في مصر وتقلب أهوائها.
كل هذه عوامل سلبية تحد من قدرتنا على العمل الجماعي.
فهل ينتظر ذوينا في مصر إلى أن "يفرجها ربنا علينا" ونسلك الطريق الصحيح؟ كلا وقد تدنت الأوضاع سريعًا في مصر إلى هذا القدر وما زالت في انحدار متسارع. الحل العاجل والمطلوب أن تعمل كل جماعة بإخلاص لإرساء حقوق الأقباط في وطنهم وإن كانوا متفرقين.
ولي حديث آخر عما أرجو أن يحققه مؤتمر فينا القادم. |