CET 09:04:29 - 28/10/2009

مقالات مختارة

بقلم: خيري شلبي

برغم الفراق كانت الآنسة ساييكي وحبيبها يتراسلان يومياً‮ ‬وهما علي يقين من أن اتحادهما معاً‮ ‬غير قابل للكسر،‮ ‬وحينما صارت الآنسة ساييكي في التاسعة عشرة من عمرها كتبت قصيدة ولحنتها وغنتها علي البيانو‮. ‬كان اللحن حزيناً‮ ‬وبسيطاً‮ ‬وجذاباً‮. ‬أما الكلمات فكات رمزية تأملية يصعب فهمها‮. ‬فأضفي هذا التناقض علي الأغنية بعض الروحانية والحميمية‮. ‬وبالطبع كانت الأغنية بكلماتها ولحنها تعبر عن النداء المكتوم في داخلها لحبيبها البعيد‮. ‬ولقد‮ ‬غنتها مرات قليلة أمام الناس إذ كانت بطبيعتها خجولة،‮ ‬ولكنها محبة للغناء،‮ ‬فانضمت إلي فرقة موسيقي بوب في الجامعة،‮ ‬وقام أحد المعجبين بالأغنية بتسجيلها علي شريط كاسيت وأرسلها إلي صديق له يملك شركة تسجيلات موسيقية،‮ ‬فأحب الأغنية وأقنع ساييكي بأن تسجلها في الاستوديو الخاص به في طوكيو‮. ‬وكانت زيارتها الأولي لطوكيو حيث التقت حبيبها هناك فنهلا من الحب حتي الثمالة‮. ‬ثم إذا بالألبوم يحقق نجاحاً‮ ‬كاسحاً،‮ ‬بيع منه ملايين النسخ وحقق لساييكي ثروة هائلة تكفيها مدي الحياة تنفق ببذخ كيفما تشاء‮.

‬كان هذا حوالي عام ‮٠٧٩١ ‬حينما أذيعت الأغنية في جميع محطات الراديو،‮ ‬يعني قبل أن يولد كل من أوشيما وكافكا‮.‬ تلك هي الحكاية التي حكاها أوشيما لكافكا‮. ‬لقد أدهشته،‮ ‬ولكن دهشة كافكا بلغت ذروتها المذهلة حينما سأل أوشيما عن اسم تلك الأغنية ففاجأه أوشيما قائلاً‮: »‬عنوانها‮: ‬كافكا علي الشاطئ‮«. ‬ردد كافكا العنوان مذهولاً‮: ‬كافكا علي الشاطئ؟‮! ‬قال أوشيما‮: »‬نعم كافكا علي الشاطئ كافكا تامورا‮! ‬اسمك أنت صدفة عجيبة أليس كذلك؟‮!«. ‬يرد كافكا‮: »‬ولكن كافكا ليس اسمها الحقيقي ومع هذا فتامورا هو اسمي الحقيقي‮«. ‬قال أوشيما‮: »‬لا يهم فقد اخترت أنت اسم كافكا أليس كذلك؟‮«. ‬فأومأ كافكا‮: »‬لقد حسمت أمري منذ فترة أن كافكا هو الاسم الصحيح لشخصيتي الجديدة‮«. ‬فيعلق أوشيما‮: »‬وهذا هو بيت القصيد‮«. ‬ثم يستطرد مواصلاً‮ ‬سرد بقية القصة‮: ‬مات حبيب الآنسة ساييكي وهو في العشرين من عمره ميتة مجانية عبثية بشعة،‮ ‬في الوقت الذي كانت فيه أغنية كافكا علي الشاطئ في أوج نجاحها الباهر‮. ‬مات الحبيب في مظاهرة طلابية،‮ ‬حيث اشتبه فيه زملاؤه فداسوه بالأقدام ومزقوا جثته‮. ‬فتوقفت ساييكي عن الغناء نهائياً،‮ ‬عزلت نفسها عن الناس تماماً،‮ ‬وانقطع ذكرها حتي أبواها لا يعرفان عنها أي شيء سوي أن ثروتها العالية من حصيلة الأغنية،‮ ‬تكفيها للعيش حياة كريمة في أي مكان‮.
 
‬قيل لقد حاولت الانتحار في الأدغال فأودعت في مصحة نفسية‮. ‬وقيل إن البعض شاهدها تعمل في بعض المؤسسات‮. ‬وقيل بل تزوجت وأنجبت طفلاً،‮ ‬وبعد خمسة وعشرين عاماً‮ ‬ظهرت الآنسة ساييكي مرة أخري في مدينة تاكا مانسو بعد وفاة والدها،‮ ‬ثم بعد رحيل أمها باعت المنزل الذي ولدت وتربت فيه وانتقلت إلي شقة في وسط المدينة،‮ ‬ثم إنها تحدثت مع شقيق حبيبها الذي أصبح كبير العائلة،‮ ‬فعينها مديرة لمكتبة كوميورا‮. ‬وها هي ذي لا تزال إلي اليوم رشيقة وجميلة كما في صورتها في‮ ‬غلاف ألبوم كافكا علي الشاطئ ولكن بعد فقدان ابتسامتها وإشراقتها أصبحت تحيط نفسها بجدران عالية تبعد الآخرين عن اقتحامها‮. ‬كل عالمها منحصر في الشقة والمكتبة وسيارتها الفولكس فاجن‮. ‬وطوال وجودها في مكتبها بالمكتبة لا تكف عن الكتابة ولا أحد يدري ماذا تكتب،‮ ‬ولما كانت الآنسة ساييكي صديقة لأم أوشيما فقد أعجبت بحبه للقراءة والموسيقي،‮ ‬فألحقته بالمكتبة مساعداً‮ ‬لها،‮ ‬وبفضل هذه الصداقة احتفظت أم أوشيما بنسخة من ألبوم كافكا علي الشاطئ،‮ ‬وبأريحية نزل أوشيما علي رغبة كافكا الحارقة فأتي له بالألبوم ليسمعه،‮ ‬بل استطاع أن يستنسخ له النوتة الموسيقية للحن‮.‬ ولكن لماذا كانت المكتبة مهمة بالنسبة للآنسة ساييكي كأنها المعبد بالنسبة للمتدين الورع؟ الواقع أن حبيبها كان دائم الإقامة فيها يقرأ بشغف ونهم،‮ ‬ويبيت في هذه الغرفة التي يبيت فيها كافكا الآن‮. ‬

وكانت ساييكي تزوره فيها كل يوم يمارسان الحب ويدرسان ويستمعان إلي الموسيقي،‮ ‬ثم يقول أوشيما‮: »‬توقفت حياة ساييكي بشكل أساسي وهي في العشرين حين مات حبيبها،‮ ‬دفنت عقارب الساعة في روحها وتوقفت هناك،‮ ‬الوقت الخارجي طبعاً‮ ‬يمضي حولها كالمعتاد لكنها لا تتأثر به‮. ‬بقيت دائماً‮ ‬جذابة صبية يحوطها لون من الغموض الساحر الجذاب هو الآخر‮«.‬ وإذاً‮ ‬فهذه الغرفة البديعة الموحية كانت مهد العشق في عز صباه وعنفوانه بين الآنسة ساييكي وحبيبها الفقيد‮. ‬ولئن كان كافكا تامورا قد انجذب إلي الآنسة ساييكي وعالمها السحري الغامض فإنه بعد أن استمع إلي قصتها من أوشيما انبثقت في داخله وشائج راح يتوقف عندها طويلاً،‮ ‬منها هذه الصورة المعلقة في برواز علي الحائط لطفل يقف بالمايوه علي شاطئ البحر،‮ ‬تكاد تتطابق مع صورة مماثلة تركها في بيتهم هي الصورة التي جمعته بأخيه علي الشاطئ،‮ ‬ولعل الطفل الذي في هذه الصورة وحده علي الشاطئ هو كافكا بطل الأغنية،‮ ‬هو حبيبها طفلاً،‮ ‬والأرجح أن يكون هو نفسه‮: ‬كرو أو كافكا تامورا‮. ‬ثمة شعور داخلي‮ ‬غامض يوحد بينه وبين الصورتين ومن هذه الوشائج كذلك أن الفترة التي‮ ‬غابتها ساييكي عن مدينتها وأهلها هي نفس الفترة التي تزوج فيها أبوه‮. ‬إن عيشها في طوكيو،‮ ‬وزواجها،‮ ‬وإنجابها طفلاً،‮ ‬وعودتها إلي أهلها،‮ ‬كل ذلك يشي بأن الآنسة ساييكي هذه ربما تكون أمه التي ـ بنفس الغموض ـ تزوجت من أبيه ثم أنجبته وأخته ثم انفصلت وغادرت بشكل مبهم لا يعرف كافكا أسبابه ولا أي شيء عن ظروفه‮. ‬شيء ما في قلبه يوشك أن يقنعه بأن هذه الشخصية هي تلك‮.

‬ثم إن انجذابها إليه والرقة في التعامل معه إلي حد التباسط وإلغاء الحواجز،‮ ‬ودعوتها له للجلوس إليها كلما قدم لها قهوة المساء،‮ ‬واستماعها إليه بأريحية،‮ ‬كل ذلك يشعره بأن الدم يحن إلي نفسه إذا وجد نفسه في شخص آخر مجهول الهوية بالنسبة له‮. ‬ولقد شجعه ذلك علي البوح لها بهواجسه،‮ ‬فراح يلف ويدور حول الموضوع بأسئلة ملفوفة يوجهها إليها‮.
‬فلما عرف منها أنها كانت في طوكيو تجري بحثاً‮ ‬اجتماعياً‮ ‬عن مخلفات الحرب علي الجنود وأهاليهم في طوكيو،‮ ‬تذكر أن أباه هو الآخر كان معنياً‮ ‬بهذا الموضوع عناية فائقة،‮ ‬وإذاً‮ ‬فلابد أنهما تلاقيا علي سكة ذلك البحث ثم قام الاستلطاف بينهما فتزوجا،‮ ‬إلا أنها في تحليله ـ حسب ما فهمه عن شخصيتها بعد استماعه إلي قصتها ـ لم تكن مستعدة نفسياً‮ ‬لإعطاء نفسها لشخص آخر‮ ‬غير حبيبها الفقيد الذي كان وهي روحا واحدة في جسدين،‮ ‬وبناء عليه شعرت أنها تكذب عاطفياً‮ ‬علي زوجها،‮ ‬فكانت صادقة مع نفسها حينما تأكدت من استحالة التواؤم المستقر مع شخص آخر،‮ ‬فانفصلت بقوة وبحسم لا يقبل التراجع لدرجة أنها تخلت في سبيل الانفصال عن ابنها البالغ‮ ‬من عمره أربع سنوات،‮ ‬ولعلها رفضت الطفل لأنه ليس من صلب حبيبها وإن كانت قد تعاطفت مع الابنة فأخذتها ولابد أنها انفصلت عنها بدورها أو لقيت مصيراً‮ ‬مجهولاً‮. ‬

جعل يصرح بخواطره هذه شيئاً‮ ‬فشيئاً،‮ ‬فإذا بها تقول له بوضوح‮: »‬إن نظريتك هذه التي تريد أن تثبت بها أنني ربما أكون أمك ليست صحيحة‮«. ‬ولكنها ـ في نظره ـ لم تكن مقنعة في قولها،‮ ‬لم يكن صوتها ينضح بالصدف بل باللباقة في التخلص من مأزق الخوض في هذا الموضوع من أساسه بما أنها لا تقبل الخوض في سيرتها الذاتية من قريب أو بعيد،‮ ‬فهي لا تنفي ولا تؤكد،‮ ‬ولا تظهر عليها أي عاطفة،‮ ‬الأمر الذي وضع كافكا بين شعورين كلاهما جامح وعنيف‮: ‬الجنس والأمومة،‮ ‬وكلاهما من مصدر واحد،‮ ‬فحرمانه من الأمومة لا يضارعه في القوة سوي حرمانه من الجنس،‮ ‬غير أن احتياجه للأمومة كان هو الأقوي بطبيعة الحال،‮ ‬لقد كان ولوعاً‮ ‬باكتشاف أمه بقدر ولعه بالرغبة في التحرر من الأسرة برمتها‮!‬  

 نقلا عن الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع