انظر حولك مرة ثم انظر فى داخلك مرتين ستجد مستبدا صغيرا جالسا فى أعماقك ينتظر لحظة سانحة يظهر فيها كى يمارس استبداده، وانظر حولك مرة ثم انظر فى داخلك مرتين ستجد عادلا صغيرا جالسا فى أعماقك ينتظر من يحرك عدله ليكون العدل هو منهج حياتك، وبين عدلك واستبدادك يضطرم صراع أبدى سيظل قائما إلى أن يشاء الله.
كنت قد قرأت فى فترة مبكرة من حياتى كتابا رائدا فى موضوعه، متميزا فى تصنيفه هو كتاب ''طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد'' لعبدالرحمن الكواكبى، وقد استعرض الكواكبى، رحمه الله، فى كتابه شرحا وافيا لطبائع الاستبداد وطبع المستبد، وأوضح أن المستبد جُبل على الخوف والجبن.. ذلك أن خوف المستبد من المحكومين وحرصه على ذاته يدفعه قدما نحو الاستبداد، ومن خلال ذلك أفاض الكواكبى فى شرح تفصيلى عمن هم أعوان المستبد، وهل يمكن أن يتحمل المحكوم المغلوب على أمره ذلك الاستبداد؟ وإلى أى مدى يكون هذا التحمل؟.
وقد شخّص الدكتور كمال أبوالمجد عندما تحدث عن ''ظاهرة المستبد الكبير والمستبدين الصغار''، هذه الآفة التى تُنبت دائما رأياً واحداً للأمور، ويكون هذا الرأى هو وجهة نظر المستبد الأكبر التى فكر فيها وحده، ورأى أنها تحقق غاياته وترضى غروره، ويستشرف المستبدون الصغار من أتباعه– أو قل حوارييه– وجهة نظره فيتكالبون على ما يراه، ويستحسنون ما يفعله، ويتحول لديهم إلى معصوم، فيصبحون فى معيته هم بدورهم معصومين، ويكون من نتيجة ذلك أن يجمد الفكر ويتحول إلى ''قوالب جاهزة'' أو ''أفكار معلبة''.
فى تلك البيئة الاستبدادية يتكاثر المنافقون من أتباع المستبد الأكبر حتى إنهم يسدون من كثرتهم عين الشمس، ويتحولون إلى صور ممسوخة مشوهة لا تبحث عن حق ولا تستشرف عدالة، أما الأبشع من المستبد المنفرد فهو ذلك المستبد الذى له جماعة ترفع شعارات الدين، إذ يصبح تصور مراجعة القرارات والمناهج والأفكار لدى هذا المستبد تصوراً غريباً وممقوتاً، ويصبح من يدعو إليها مارقاً مهرطقا لا هوادة فى مواجهته، فالمستبد هو الحق فى عيون أتباعه فأنـَّى لنا أن نراجعه، لذلك عندما قال فرعون لقومه ''أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون'' إذا بالأمر يتطور معه إلى أن يصبح رأيه هو الحق الذى ليس من حق غيره، وكلامه هو الرشاد الذى ليس من رشاد سواه، حينئذ ''قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد'' فكانت العاقبة أن انهار مجتمع هذا الفرعون المستبد وتهاوى أتباعه من المنافقين الذين كانوا لا يرون إلا ما يرى، ولا يفكرون إلا عندما يفكر ويلقى إليهم بالتوجيهات، من أجل ذلك كانت: كلمة حق عند سلطان جائر هى أفضل الجهاد عند الله.
ومن بعدها صار فرعون مثلا للاستبداد والمستبدين، وعنوانا لهم، وأصبح كل حاكم مستبد إذا ما أراد أن يحث الخطى إلى أعماق الاستبداد فإنه يقول لشعبه: أنا أعرف ما لا تعرف وأرى ما لا ترى، وأبحث عن المصلحة والحق والرشاد! دون أن يفصح لشعبه عن هذا الذى يعرفه، أو هذا الذى يراه.
ورغم أن المظاهر قد تبدو أمام الناظرين وكأن المستبد سيظل بطغيانه، جاثما على أنفاس من يحكمهم أو يقودهم، إلا أن انهيار هذا الطاغية المستبد وانهيار حكمه هو أمر حتمى بل هو من نواميس الكون، ولن يستطيع طاغية أبدا مهما طال به العمر أن يخلد فى حكمه، لأن استبداده سيقضى عليه حتما، وقد قضى الاستبداد على القياصرة والأباطرة والفراعين المستبدين، فها هم قوم عاد قد أشار الله لنا عليهم ودعانا إلى أن نتفكر فى مصارعهم فقال فى كتابه الكريم (ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يخلق مثلها فى البلاد) أما فرعون المستبد وجماعته (الذين طغوا فى البلاد * فأكثروا فيها الفساد) فكانت عاقبتهم (فصب عليهم ربك سوط عذاب) وما ذلك إلا لأن (إن ربك لبالمرصاد).
بقلان عن الاهرام |