CET 23:14:10 - 31/10/2009

مساحة رأي

بقلم: د. السيد نصر الدين السيد
شهدت الأمة المصرية عبر تاريخها الطويل العديد من الآزمات التى تمكنت بشكل أو آخر من تجاوزها. لذا لايكون مستغربا أن تواجه أمتنا المصرية هذ الأيام العديد من الأزمات التى يتعلق بالهموم الحياتية للمواطن البسيط. إلا أن أخطرتلك الأزمات هى تلك التى تتعلق بوحدة الوطن ووجوده. إنها، فى إيجاز شديد، أزمة تسيد "ثقافة الملة"، بما تنطوى عليه من إنغلاق على الذات وإستكبار على مشاعر الآخر وتجاهل لإحتياجاته، على "ثقافة الوطن"، بما تعنيه من إنفتاح على الآخر وإستيعاب له فى شركة الأرض والحياة. وهى أزمة تتعدد مظاهرها ما بين مناوشات كلامية على الإنترنت، إلى إحتقانات طائفية ما نكاد نتجاوز أحداث واحدة حتى تدهمنا واحدة أخرى، ومرورا بتعقيدات بيروقراطية لامبرر لها فى أغلب الأحيان. أما على مستوى علاقة بعضنا بالبعض الآخر فنرى "ثقافة الملة" وقد راحت تنشئ حدودا نفسية مصطنعة بين أعضاء جسد أمة واحدة هى الأمة المصرية. فهى من ناحية تحد من قدرة البعض على الإقتراب من الآخر سعيا وراء تفهم همه الذاتى. وهى من ناحية أخرى تدفع  بالآخر إلى الهروب إما داخليا بالإنكفاء على الذات أو خارجيا بهجر الوطن.

 إن خطورة هذا الأمر تنبع من أنه يتعلق بوحدة وتماسك الكيان المصرى الذى لم يعرف، منذ نشأته كأول "أمة – دولة" فى تاريخ الإنسان على أيدى الفرعون مينا منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، أية تشقق أو تصدع فى بنيته. وقد كان تماسك وتجانس الكتلة البشرية للأمة المصرية عبر تاريخها الطويل واحدا من أهم الملامح الفريدة التى تميزت بها هذه الأمة. هذا التجانس الذى يقول عنه جمال حمدان فى دراسته الموسوعية عن شخصية مصر: "منذ فجرالتاريخ، يبرز الشعب المصرى كوحدة جنسية واحدة الأصل ... متجانسة بقوة فى الصفات والملامح الجسمية. وقد ظل محافظا على هذا التجانس إلى يومنا هذا دون أى إبتعادات ملموسة عن النمط الأول أو تتنافر معه تخصصات محلية ضيقة". ولقد أدت وحدة وتماسك الكيان المصرى إلى نشوء مفهوم "الوطن" كواحد من أول وأهم الإكتشافات العبقرية التى أهدتها الأمة المصرية لحضارة الإنسان. مفهوم "الوطن" الذى ينتمى إليه كل أفرادها ويدينون له بالولاء فتجاوزت بذلك ضيق الإنتماء إلى القبيلة والعشيرة أو الطائفة الذى مازال يحكم سلوك مايجاورها من الأمم. ويذكر لنا التاريخ أن تعدد آلهة المصريين فى الزمان الأول لم يؤد إلى تقاتلهم، كما كان الحال عند شعوب أخرى، بل حولته الذهنية المصرية إلى نظام يحفظ تعدد الأدوار وتناغمها فى إطار موحد هيأ تلك الذهنية لتقبل فكرة التوحيد.

ولقد كانت هذه الأزمة نتيجة لعدة عوامل من أهمها ما صدرته لنا مجتمعات منغلقة على نفسها من أفكار مغلوطة ورؤى متعصبة، والنظرة التجزيئية/التقطيعية لتاريخ الأمة، والرؤية أحادية البعد للكيان المصرى. فأحد هذه الأفكار، على سبيل المثال، يتمثل فى مقولة أن الوطنية والإنتماء للوطن والإخلاص له هو أمر يتعارض مع صحيح الدين وينتقص من كمال الإيمان. وهى الفكرة التى تروج لها بشراسة تيارات الإسلاميون الجدد الذى تدعمه أموال البترول. إذ لايعترف هذا التيار إلا بقومية واحدة هى "قومية الدين" التى لاتعترف بـ "قومية الوطن" المرتكزة على فكرة الولاء للوطن وعلى مفهوم المواطنة. وهم بذلك يدعون لنوع من "العولمة الثقافية" التى تقوم على الدين والتى تعتبر أن الوطنية والإنتماء للوطن والإخلاص له هو أمر يتعارض مع صحيح الدين وينتقص من كمال الإيمان. ويصل الأمر بأحد رموزهم إلى التصريح بأنه لا مانع لديه أن لا يحكم مصر غير مصرى طالما كان مسلما ويمضى إلى حد سب مصر قائلا " طز فى مصر.. وأبو مصر.. واللى فى مصر...". ولقد نسى أو تناسى أصحاب هذه المقولة قول العزيز الحكيم ﴿وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾ (13 م الحجرات 49) وقوله تعالى ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة﴾ (84 م المائدة 5). وأغفلوا أو تغافلوا عن قول رسول الله صلعم قبل هجرته من مكة إلى المدينة "والله إنك أحب أرض الله إلى الله، وإنك لأحب أرض الله إلى، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ماخرجت".

أما النظرة التجزيئية/التقطيعية لتاريخ الأمة  فتنظر إلى تاريخ الوطن وكأنه سلسلة من الحقب المنفصلة عن بعضها البعض، فكل منها مقطوع الصلة بمن يسبقه ولاتأثير لأى منها على مايعقبه. وهى بذلك تهمل، إهمالا مريبا، عناصر الإستمرارية والتواصل فى تاريخنا الطويل. وهى العناصر التى ترتكز على المقومات المؤسسة والثابتة  للأمة المصرية بدءا من الموقع بإطلالته على البحرين وإمتداده عبر القارتين وإنتهاءا بالموضع بنيله وواديه. وهكذا يختزل تاريخنا، من منظور هذه الثقافة، إلى حقبة واحدة ويقتطع من تاريخ هذه الأمة أكثر من ثلثيه ليصبح بذلك شأن أقدم كشأن أحدثها ظهورا وتكوينا ... ! ... ومكمن الخطورة فى هذه النظرة أنها تفضى إلى الرؤية أحادية البعد للكيان المصرى. وهو الكيان الذى نشأت شخصيته وتطورت عبر مئات القرون كمحصلة لتفاعل حضارات مختلفة، فرعونية ويونانية وقبطية وإسلامية وحديثة، تمثلتها الأمة وهضمتها لتفرز خصوصيتها المتميزة. فقد قال قائل، وقد صدق، "إن مصر وثبقة من جلد الرق، الإنجيل فيها مكتوب فوق هيرودت، وفوق ذلك القرآن، وخلف الجميع لاتزال الكتابة الفديمة مقروءة جلية". فهكذا تشكل الكيان المصرى لتكون شخصيته شخصية مركبة ومتعددة الأبعاد، ولكن فى وحدة وتكامل غير منقوصين. وهذا التعدد هو فى حقيقة الأمر هو رصيد قوتها الكامنة والمتجددة، وهو سر قدرتها على البقاء وتجاوز الأزمات، وهو محرك آلياتها للإبداع وللتكيف مع الجديد. وأى رؤية تختزل أبعاد هذه الشخصية ليست فى نهاية الأمر إلا خصما من هذا الرصيد.

إن تسيد "ثقافة الملة" على "ثقافة الوطن"، بما تعنيه من إستلاب الوعى بمفهوم الوطن وبجوهر المواطنة، وتحت أية حجة كانت، لن يؤدى فى نهاية المطاف إلا إلى إضعاف "الجهاز المناعى الحضارى" للوطن، وتدعه يقف مجردا من أى دفاع تحت رحمة تيارات وافدة وغير مبرأة تهب عليه من كل الإتجاهات وهى حاملة فى طياتها قيما غريبة عن صلب تكوينه، وساعية بخبث ودأب على غرسها فيه لتغيب هويته ولتفتيت تماسك بنيته. إن إحساس المصريين، الواضح الذى لالبس فيه، إنتمائهم لكيان قائم ومحدد الملامح هو الأمة المصرية لهو من الشروط الضرورية لتعزيز الولاء والإنتماء للوطن الأم ... مصر ... ولتعزيز وتأكيد مفهوم المواطنة والإعلاء من شأن عبارة "الدين لله والوطن للجميع".

أستاذ إدارة المعرفة – جامعة كونكورديا – كندا

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق

الكاتب

د. السيد نصر الدين

فهرس مقالات الكاتب
راسل الكاتب

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

مواضيع أخرى للكاتب

أمة فى خطر: مصر بين ثقافة الوطن وثقافة المِلة

لغتنا الجميلة ومين ياخد باله منها ... ؟

جديد الموقع