CET 09:45:25 - 02/11/2009

مساحة رأي

بقلم: نبيل شرف الدين
لأسباب تتعلق بشبهة الادعاء والنفاق الاجتماعى السائد، يمكننى القول إنه ليست هناك عبارة تثير حفيظتى وتجعل كيانى كله كالوتر المشدود، مثل لافتة «مغلق للصلاة»، التى باتت تطاردنا فى كل مكان من بر مصر المحروسة، فتجدها فى المحال التجارية والشركات الخاصة بقدر لا يقل شيوعاً عنه فى دواوين الحكومة وعلى نحو ظاهر للعيان، لا ينكره سوى مكابر أو أعمى البصيرة.

فمثلاً قرأنا جميعاً فى المتابعات الخبرية لحادث «قطار العياط» أن «عامل التحويلة» المنوط به تنظيم حركة القطارات ترك مكانه، مما تسبب فى الكارثة، وقال فى التحقيقات التى أجرتها النيابة إنه كان يؤدى فريضة الصلاة حينها، فهل يستساغ عقلاً أو شرعاً أن نقبل عذراً كهذا حتى لو تمسح العامل بالصلاة؟

وخذ عندك هذه التجربة الشخصية، ففى جهاز «مدينة الشروق» التى اخترت أن أقيم فيها «حلم العمر» وهو ببساطة منزل ريفى صغير أنيق، يطلق عليه رسمياً لقب «فيلا»، وداخل غرفة تعج بالمكاتب التى يجلس عليها موظفون انحشرت وسط أكثر من عشرين رجلاً، تبدو من سيماهم أنهم من ذوى الشأن أو علية القوم، وكنا جميعاً نسعى لإنجاز سلسلة من الإجراءات المعقدة لاستصدار التراخيص والتعديل عليها وغير ذلك من الأمور، حين هتف بنا الساعى مطالباً إيانا بالخروج من المكتب، لأن «الست الريسة» - فى إشارة لرئيسة المكتب - ستذهب لأداء فريضة الصلاة مع بقية الموظفين، ولابد أن يغلق المكتب لأنه سيلحق بهم.

نظرنا لبعضنا البعض، ونكسنا رؤوسنا فى الأرض، وخرجنا مؤثرين السلامة، بدلاً من إثارة المشاكل والتورط فى جدل فارغ حول مصالح الناس ووقت العمل الذى ينبغى أن يكون لقضاء حوائجهم، وليس لجمع الحسنات ومحو السيئات على حسابهم.

قصة أخرى بطلها رجل أثق بصدقه، قال إنه يضطر شهرياً لدفع إكراميات لموظفين فى مصرف حكومى كبير حتى لا تتعطل أعماله المرتبطة بالبنك, وبالتالى قد تتأخر رواتب العاملين فى شركته، وحتى هنا وهذه قصة أصبحت عادية فى مصر، لكن المثير فى الأمر هو تأكيد الرجل أن جميع هؤلاء الموظفين تعلو جباههم «الزبيبة» إياها، ويغلقون مكاتبهم «جماعة» من أجل أداء الصلاة فى زاوية مجاورة لفرع البنك، فكيف تتسق الرشوة مع مظاهر تدين كهذه؟!

حتى فى وزارة الخارجية, مدرسة الدبلوماسية الأكثر عراقة فى المنطقة، فعمرها أقدم من معظم دول الشرق الأوسط, شاهدت بعينى التى سيأكلها الدود، عدداً لا بأس به من السادة السفراء، وهم يسيرون فى إحدى طرقات المبنى الفخم وقد «تقبقبوا»، وشمروا ملابسهم ليصلوا فى الردهة خلف رجل يبدو من سمته العام أنه ربما كان عاملاً أو موظفاً متواضعاً، فكيف ستكون صورة مصر كلها لو تصادف وصول ضيف أجنبى لمقر الخارجية المصرية فى هذا الوقت ورأى هذا المشهد الغريب؟!

المصيبة أن الظاهرة لم تنج منها حتى المؤسسات السيادية التى اشتهرت بالانضباط، فصرنا نرى كبار المسؤولين بها، وقد علت جباههم «الزبيبة»، وهو مظهر لم يكن موجوداً من قبل، وبالطبع لا يمكن لعاقل معارضة حرص الناس على أداء شعائر دينهم، لكن هل يستساغ أن تتحول الصلاة إلى «فسحة» للتهرب من واجبات العمل وتعطيل مصالح خلق الله، وبدلاً من أن يكون الالتزام الدينى وازعاً لبناء الضمير، يتحول إلى مجرد وسيلة لغسل السمعة والتطهر الكاذب، دون الإحساس بأى غضاضة فى قبول الرشوة والامتثال للمحسوبية، ناهيك عما ينطوى عليه هذا الهوس الدينى، ولا أقول «التدين الجدى» من شبهة نفاق صريح؟

أما أن تخترق هذه الظاهرة ساحات العدالة، فقل على الدنيا السلام، ولا أريد الاستطراد هنا أكثر، لأنى بصراحة «مش عايز أتحبس» بتهمة التعرض للقضاء، والانتقاص من مكانته السامية لا سمح الله.

ثمة أسئلة لا تنتهى ولا يحتاج الجواب عنها لمعضلات أو معجزات، بقدر ما يتطلب قدراً من المكاشفة ونقد الذات، لكن يبقى السؤال الأهم باختصار هو: «إحنا رايحين على فين بالظبط؟».

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٨ تعليق