بقلم: المستشار نجيب وهبة
للعادات سلطان، فإن أطعتها فأنت أطوع لها وصرت أشبه بعابد الصنم يُبخر لصنع يديه. العادات ليست سوى استمرار الناس في ممارسة وجه من وجوه المعيشة على نمط واحد ووتيرة واحدة.
لا تعجب لقولي هذا، فأنا أرى الحياة نورًا هادئًا يشع في القلب، وأرى العادات سحابة كثيفة تحجبه عن البصر والبصيرة. بل أرى الحياة خيالاً طليقًا لا تحدّه حدود ولا تقوم في وجهه سدود، وأرى العادات أبدًا تحاول حصره في قفص أو حظيرة، ولو أنها اكتفت بذلك لهان الأمر، لكنها بسحر الاستمرار توهمك بأن السحاب هو هو النور، والحظيرة هي هي الحرية.
لم تَدَع العادات جانبًا كبيرًا أو صغيرًا من جوانب الحياة البشرية إلا واحتلته وهيمنت عليه.
خذوا الولادة مثلاً: هل في السماء والأرض ما هم أدعى إلى التخشع والصمت والعبادة من سر الولادة، سر انبثاق الحياة من الحياة؟ وما هي الولادة عند الناس؟ مدعاة للضجة والولائم والتهاني. فأين التخشع وأين العبادة؟
أيضجّ النسر أم يولم الولائم عندما ينقف فرخة من بيضته؟
ولمن التهاني؟ أتهنئ الأشجار في البستان شجرة مثمرة؟
وأنتَ مًن أنتَ أيها الوالد، وأنتِ مَن أنتِ أيتها الوالدة، لتحسبا أن الحياة شرفتكما بأكثر مما تشرف به النبتة أو الطائر أو البهيمة؟ لقد اختارتكما منفذًا لمقصد من مقاصدها. فلتكن وليمتكما في تفهّم ذلك المقصد. وأنتما عندما تفهمانه تؤثران الصمت على الضجة والصلاة على التهاني. أما في فرقعة الولائم ودندنة التهاني فلن تجداه ولن تفهماه.
خذوا الزواج، ليس فيه ما يدعو إلى الزهو واللهو أو إلى الهرج والمرج، بل إلى الدهشة والتأمل. ويا ليت الناس يقتدون بالطيور التي تتزاوج جيث لا يدري بها أحد حتى من عشيرتهم.
خذوا الموت، هي رهبة لا توازيها رهبة أن يصبح ما هو كائن كأنه لم يكن، وهو جمال ما بعده جمال أن تتحول الحركة المشوشة إلى سكون سري. لكنها رهبة حولتها العادات إلى مواكب من الناس تتظاهر بالحزن وتسير من بيت الميت إلى المقبرة، ولكنه جمال كفّتنه العادات في توابيت بسيطة ومزركشة وغيّبته في مدافن بعضها تهزأ بالقصور.
خذوا رجلاً أقامه الناس مرشدًا عليهم، هم يغدقون عليه الألقاب الضخمة، ويمطرونه وابلاً من النهاني الرنانة بريائها. ولو فقهوا لأمطروه وابلاً من التعازي الدامعة بإخلاصها، لأنه انتُدب ليرشد الناس قبل أن يتعلم كيف يُرشد نفسه، ومَن كان كذلك كان أحرى بالشفقة والتعزية منه بالتبجيل والتهليل.
خذوا عادات الشرف والمجد والحرية والعدل والفضيلة والعلم وسواها، تجدوها كلها أكفانًا للجوهر الذي تحاول تثبيته. مزقوا الأكفان أولاً.
الشرف الرفيع لا يسلم من الأذى... حتى يراق على جوانبه الدم، ليس شرفًا وليس رفيعًا، إن هو إلا ناب وحش ينشب في جلد وحش آخر، أما الشرف الذي هو شرف فلا يناله أذى ولا يغتسل بدماء الغير بل يستحم بدم القلب.
المجد ليس أن تمشي إلى غاياتك الأرضية على أكتاف الناس، إنما المجد أن تحملهم على كتفيك إلى غاياتهم السماوية.
الحرية ليست أن ترى شيئًا واحدًا عقبة في سبيلك فتزيل العقبة بالقوة أو بالدهاء.. إنما الحرية أن توسع نطاق خيالك إلى حد أن تراك في كل شيء وكل إنسان.
العدل ليس أن تأخد ما لك وتعطي ما عليك.. فكل ما لك عليك، وكل ما عليك لك.. إنما العدل أن تعرف أنك أفقر من أن تعطي وأغنى من أن تأخذ.
الفضيلة ليست في حفظك للوصايا.. إنما الفضيلة أن تحاسب نفسك كما لو كنت تجهل كل شيء إلا الوصايا، وتحاسب غيرك كما لو كنت لا تعرف حرفًا واحدًا من الوصايا والعلم. |