إذا قلبنا في الصحف المصرية كلها سيدهشنا ويحيرنا ذلك التفاوت الرهيب بين ما ينشر في الصحف العامة والصحف الخاصة، كما لو أن مصر عالمان مختلفان، وأحيانا متناقضان.. كل منهما يتحرك في مدار، له أهله ومشكلاته وحكومته ودنياه وجرائمه وعلاقاته!
مصر في الصحف العامة انجازات تخرق عين الشمس..لا يسئ إليها بعض الفساد الذي لا تخلو منه دولة في العالم، ولا يقلل من قيمتها بعض "الأزمات" القادمة من العالم الخارجي علي أجنحة العولمة كالانهيار المالي والكساد، والأسعار العالمية الملتهبة!
مصر في الصحف الخاصة والحزبية حالها يصعب علي الكافر وحكومتها تضع يدها في الماء البارد ولا تحس بمعاناة الناس!
نعم لدينا مصران.. مصر المشرقة مع بعض الأحزان الموجعة.. ومصر المتشحة بالسواد مع بعض البقع البيضاء.. فأيهما الأصدق والأصح؟!
ما هذه الفوضي المربكة؟! بالرغم من أهمية هذا السؤال..إلا أنه ليس مربط الفرس.. فالأكثر أهمية منه: كيف يمكن أن يختلف واقع المصريين في صحيفة عامة عن صحيفة خاصة؟!
صحيح أن الحقيقة لها أكثر من وجه لكونها فكرة فلسفية تتلون بنفسية صاحبها وثقافته.. لكن الواقع أحداث مجردة..
فلماذا يتلون الواقع؟! لأن الصحافة لا تحاول أن تري الواقع كما هو، وإنما تنتقي منه ما يثبت وجهة نظرها فقط، وتتجاهل أي وقائع أخري أو تحاصرها في النشر.. هذا هو المأزق الذي يكاد يطيح بها من سوق المنافسة الإقليمية تماما، كما لو أنها مصاب بإنفلونزا الخنازير التي يفر منه الأصحاء!
وهذا عيب مهني فادح يزرع قدرا من الشك وعدم الثقة بين الصحافة وجمهورها.. ويحد من تأثيرها علي الرأي العام وقيادته.. ولهذا نجد اتهامات دائمة للصحافة العامة بأنها لا تجيد التعبير عن النظام السياسي والحكومة، واتهامات للصحافة الخاصة بأنها تسود عيشة الناس وتلعب علي أوتار مشاعرهم وتبتزها..
صحافة ترقص علي السلم، لا السادة راضون عنها ولا الناس يصفقون لها..وأكبر دليل علي ذلك هو تراجع توزيع الصحف والمجلات، دون إنكار لتأثيرات الإنترنت والفضائيات عليها!
وكنت قبل أيام مع دبلوماسي غربي ومر قطار الحوار بيننا علي محطات كثيرة: سياسة واقتصاد وعلاقات دولية، ثم انتهي إلي الصحافة..
فقال لي: الجرائد العربية خاصة التي تصدر من لندن أصبحت ذات ثقل كبير في العواصم الغربية، يفوق أي جريدة مصرية..
قلت له: لكن أحيانا تنقل وكالات الأنباء الغربية مقالات رؤساء تحريرالصحف المصرية!
فقال: شيء عادي.. فمثل هذه المقالات تكشف لنا اتجاهات السلطة في مصر، لكن في القصص الإخبارية نحن نهتم أكثر بـ"الشرق الأوسط" و"الحياة"!
قلت: هذه جرائد إقليمية.. بينما الصحف المصرية محلية في الغالب!
قال: هذا عيب لا يتفق وحجم مصر.. ثانيا.. توجد جرائد عربية محلية أفضل مهنيا كالنهار البيروتية!
شعرت بحزن بالغ وصل إلي حد تقلصات شديدة في معدتي، فمصر عرفت الصحافة قبل أي دولة عربية بأكثر من قرن، وأول جرائدها صدرت في عشرينيات القرن التاسع عشر، وعندها أقدم جريدة يومية في المنطقة..
فماذا حدث؟! الصحافة المصرية منذ خروجها إلي شمس الحياة وهي تحمل في بنيتها "تشوهات" التنشئة، ولم تستطع عبر أجيالها المتعاقبة أن تعثر علي علاج له، وهي تشوهات سهلت لرجال ثورة يوليو حين قامت، أن يؤمموها ويقصوا أجنحتها، فتحولت إلي جارية في البلاط، بعد أن كانت صاحبة جلالة تنحرف أحيانا!
وبالطبع كلما تدخلت الحكومة في نشاط إنساني أفسدته، وجابت "عاليه واطيه"، ولم تخرج الصحافة المصرية عن القاعدة التي حكمت القطاع العام، حتي لو قيل إنها تتمتع "بوضع" خاص، فمجلس الشوري هو المالك الظاهر للأعين، لكن مركز السلطة في الدولة هو المالك الحقيقي الذي يمسك كل الخيوط من خلف الكواليس، فالصحافة للنظم غير الديمقراطية أو ذات الهامش الديمقراطي هي واحدة من أهم وسائل السيطرة والحكم والتحكم، بها تعيد تشكيل أفكار الناس علي النحو الذي تريده، وتدفع بهم إلي اهتمامات أو انشغالات تري فيها مصالحها، وتستغلها جسرا للطاعة والصبر والقناعة كنز لا يفني ونشر التصريحات عن الأحوال الوردية!
وإذا كان الرقيب الحكومي قد لعب دورا في تأديب وتهذيب وإصلاح الصحف حتي منتصف السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن هيئة تحرير الصحف بعد إلغاء الرقابة صارت أكثر براعة وحنكة في أداء هذا الدور الخطير!
وتدريجيا حدث تراجع هائل في الصحافة المصرية : فكريا ومهنيا.. تراجع يمكن رصده بسهولة، وإنكاره هو نوع من "العناد الغبي" الذي يبقي الأوضاع المائلة علي ما هي عليه، يكفي أن أقول إنه ولا صحيفة عامة في مصر تصدر إلكترونيا من الألف للياء، ومازال أغلب المحررين يكتبون بالقلم والورقة حتي هذه اللحظة، مع أن هذا النوع من التحرير قد اندثر ولم يعد له وجود، ليس في العالم المتقدم فقط، ولكن في عدد كبير من الدول العربية..
والمسألة ليست في التقنية فقط، بالرغم من أهميتها، ولكن في "جوهر" الأداء الصحفي نفسه، لأن معايير الكفاءة والنجاح توارت وحل محلها قانون الشلة وأهل الثقة وأبواق الدعاية، لم تعد الموهبة لها قيمة أو ثمن إلا في النادر، وارتفعت قيمة الدسائس والمؤامرات وتكبير "الودان" ونقل الكلام الخبيث وتشويه السمعة من تحت لتحت!
هرست تقاليد مهنية عظيمة تحت الأقدام..وشاع قانون الصراع والبقاء للأكثر خبثا وقربا وتنفيذا للأوامر! وهو ما رصده العبقري فتحي غانم في روايته البديعة "زينب والعرش".. في هذه الأجواء تشنق معايير الأداء المهني علي أعمدة النفاق والطاعة والولاء، وتدخل أجيال جديدة تتعلم قواعد اللعبة، لا يهم الاجتهاد والابتكار والمثابرة..
ولكن الأهم هو نسج الخيوط القوية مع رجال السلطة والقادرين علي الدفع بمن"يخدمهم" إلي الصفوف الأولي.. وحين ظهرت الصحافة الخاصة وتوسعت وتمتعت الصحافة عموما في السنوات الأخيرة بقدر كبير من الحرية، لم تتمكن من استغلالها في "الارتقاء" بأدائها ودورها إلا قليلا وبطريقة غير مكتملة..
والمدهش أن البعض منها عاد إلي لغة الردح والسب التي كانت عليها في فترة ما قبل ثورة يوليو..
نقلا عن جريدة الوفد |