شأن أى «شعب عجوز» فإن للمجتمع المصرى منظومة أخلاقية غير مدوّنة، لكنها تبدو أكثر صرامة حتى من الدساتير والقوانين، من حيث عمق رسوخها فى الوجدان الشعبى. وأحد عناصر هذه المنظومة أن المجتمع لا ينظر باحترام للرجل الذى يخوض فى سيرة زوجته بعد أن يطلقها، والأمر ذاته ينطبق على صديقين اختلفا لسبب أو آخر، وأتصور أن المعنى ذاته ينسحب حتى على علاقات العمل، فليس من مكارم الأخلاق أن يطعن المرء فى جهة عمل بها وجعلها الله سبباً لرزقه يوماً، ثم انقطعت هذه الصلة بصرف النظر عن الأسباب أو الملابسات التى أحاطت بالأمر.
حتى الحروب ـ وهى أبشع صور الخلافات التى عرفتها الإنسانية ـ فإن للخصومة أيضاً أخلاقها، وقد وصم الرسول الكريم (ص) المنافق بأنه «إذا خاصم فجر».. حذر الحكماء من «فُحش الخصومة»، واعتبروها دليلاً على تدنى الخّلق، لكن السلوك الفاحش ضرب كثيراً من مظاهر حياتنا فى مصر على نحو واضح، فأصبحنا نرى أزواجاً يقفزون على ما كان يعتبر خطوطاً حمراء، فيخوضون فى أدقّ تفاصيل علاقاتهم بشركائهم الذين استحالت بينهم العشرة،
وصرنا نشاهد البعض يوجهون سهامهم صوب مؤسسات عملوا بها سنوات، وأصبحت جزءاً من تاريخهم، وبعد أن انتهت تلك الصلة راحوا يمارسون بطولات مجانية على حساب تلك المؤسسات، «التى أطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف»، ولو كانوا فعلوها أثناء عملهم بها لأمكن تفهم الأمر، لكن أن يحدث ذلك بعد فوات الأوان، فإنه يصبح مشوباً بشهوة الانتقام أو سعياً لمكسب غير مستحق.
ولعلى لا أذيع سراً حين أشير لعملى ضابط شرطة زهاء ١٤ سنة، ثم صحفياً بمؤسسة الأهرام لمدة مقاربة، ويعلم الله أننى قاومت إغراءات مادية ومعنوية حتى لا أتورط فى خصومة فاحشة مع أى من المؤسستين، الأمنية والصحفية، رغم ما يمكن أن أكون قد كابدته هنا أو هناك، وبعيداً عما قد أراه من مظالم حاقت بى، لكن هذه مسألة أخرى يمكن الحديث عنها فى إطارها، دون الانزلاق لأكون أداة لمحاولات اغتيال تلك المؤسسات معنوياً، ومرة أخرى وجدت نفسى أمام خيار وجودى جديد اقتضى أن أدفع ثمن إصرارى على الاستقلالية.
وتضعنا هذه الخبرة الإنسانية أمام الإشكالية الشهيرة للتمييز بين «الدولة والنظام»، فالدولة كيان سرمدى وبديلها هو الفوضى، أما الأنظمة فهى بطبيعة الحال متغيرة بحكم قانون الزمن، والأمر ذاته ينطبق على المؤسسة والإدارة، إذ يمكن للمرء أن يختلف مع مديره وهذا مقبول وربما مطلوب أحياناً، لكن ما لا يمكن تفهمه أن يتورط المرء فى خصومة مع المؤسسة، لأن من مجمل هذه المؤسسات تتشكل الدول.
وبعد تجارب إنسانية عميقة صرت على قناعة راسخة بأن الرجل الناضج لا ينبغى أن يخجل من تاريخه، فكاتب هذه السطور أمضى أجمل سنوات شبابه المأسوف عليه بعدة مواقع أمنية مهمة، ولأسباب تتعلق بالرغبة فى الاتساق مع النفس ووضع نهاية للعبة «د. جيكل ومستر هايد»، قرر صاحبكم الاستقالة من الشرطة طائعاً مختاراً، مع أنه كان يعمل فى موقع مرموق بمكتب وزير الداخلية، من أجل احتراف الصحافة، وبالفعل التحق بمؤسسة الأهرام محرراً يبدأ الطريق من الخطوة الأولى.
ومنذ اللحظات الأولى وجد صاحبكم نفسه متهماً من الجانبين، فالأمن يراه منحازاً للصحافة وواقعاً تحت تأثير شهوة النشر، بينما يراه زملاؤه الجدد فى الشارع الصحفى «ضابطاً»، دفعت به جهات أمنية لاختراق عالمهم، وبدلاً من أن يتسق صاحبكم مع ذاته كما كان يأمل، وجد نفسه ممزقاً بين صورتين نمطيتين لا ذنب له فيهما، فلو كان حقاً يرغب بدور أمنى، فلماذا يستقيل ويقبل دور «المخبر» بعد أن كان ضابطا؟
ولو كان صاحبكم يرتضى لنفسه «علاقة التبعية» لأى جهاز، فإنه - وبمنطق الأرباح والخسائر - لن يكون قد أنجز شيئاً، إذ كان حرياً به أن يبقى فى موقع صانع القرار، بدلاً من أن يصبح مجرد «أداة» رخيصة، بيد من هم دونه سناً وخبرة ووعياً بحقائق الأمور..
|