CET 08:31:07 - 29/11/2009

مقالات مختارة

بقلم: خالد القشطيني

 كتبت في مقالتي السابقة عن التراث الفاسد في عالمنا العربي، تراث السرقة من الناس ومن الدولة. وأود أن أكتب اليوم عن التراث الناقص. وأقصد بذلك خلو تراثنا من فكرة الوطنية. هذا في الواقع مفهوم جديد في تاريخ الإنسان. كان البشر يتقاتلون دفاعا عن أنفسهم وعوائلهم ثم تطوروا للقتال باسم القبيلة وأخيرا تحت رايات الدين. لم يفكروا بهذه الرقعة الواسعة باسم الوطن. حاولوا غرس هذه الفكرة الجديدة في أذهاننا بأن حفظونا قصيدة ابن الرومي:

ولي وطن آليت ألا أبيعه

ولا أرى غيري له الدهر مالكا

كنت صبيا صغيرا وحفظت القصيدة وأعجبت بذلك الشاعر الذي تمسك بالوطنية في ذلك الزمن الغابر. ثم اكتشفت أن ما كان يقصده ابن الرومي بالوطن هو بيته الذي كان يسكن فيه وحاول آخرون استملاكه وإخراجه منه. لا أكثر ولا أقل. وكانت هنة صغيرة من الوطنجية الذين أوحوا لنا بأن المتنبي كان قوميا متعصبا للقومية العربية، ربما لا يضاهيه أحد غير صدام حسين.

نشأت الوطنية بنشوء الرأسمالية عندما شعر أصحاب الأعمال بالحاجة لقوة عاملة كبيرة ومساحة واسعة تمدهم بالمواد الأولية وعناصر الطاقة، ولأسواق ضاربة يصدرون إليها منتجاتهم. ما لبثوا حتى وجدوا أنفسهم في نزاع مع رأسماليين من دول أخرى. فخاضوا حروبا دامية معهم باسم الوطنية، بما حمل المفكر البريطاني الشهير الدكتور جونسن إلى القول بأن الوطنية هي الملاذ الأخير للأرذال. وأنا بدوري سبق لي أن سميت في هذه الزاوية الحركة الوطنية عندنا بأنها حركة الحرامية. وعلى كل، فقد نشأت هذه الحركة في أوروبا. لم يكن لنا فيها أي شأن. فقد كان أجدادنا يقاتلون من أجل الدين. وعندما وقف أبناء المنتفق والفرات بقيادة أعجمي السعدون وحاربوا الإنجليز في الحرب العظمى لم يفعلوا ذلك دفاعا عن العراق وإنما باسم الإسلام والسلطان العثماني. ولكن لورنس والإنجليز صدروا لنا الفكرة، لا حبا بنا وإنما ليجندونا لمحاربة الأتراك.

أوردت كل ذلك لبيان أن الوطنية ليست جزءا من تراثنا. وهي ما زالت في القشرة. استنفد الأوروبيون عدة قرون ليمتصوها في دمائهم. أمامنا طريق طويل لنغذي عقلنا الباطن بها ونحولها إلى جزء من شعورنا ولا شعورنا. فنفهم ونعمل على أساس أن مصلحة الوطن هي مصلحة كل فرد منا. وهذا ما يفسر لنا كيف نتساهل ونغض النظر عن كل هؤلاء الخونة والعملاء ومن تجسسوا للأجنبي. لا نشعر بأنهم قاموا بأي شيء مشين. نستمع لكلامهم ونرحب بهم في مجالسنا ونسند لهم أعلى المناصب والكراسي الجامعية ليعظوا طلبتنا عن.. إي نعم، عن الوطنية. تراث السرقة يفتح لنا أبواب الفساد وغياب تراث الوطنية يفتح الأبواب للخيانات.

نقلا عن : جريدة الشرق الاوسط

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع