CET 09:22:30 - 10/02/2010

مقالات مختارة

بقلم: شيماء البردينى

قبل ٥ سنوات، كان المعهد القومى للأورام أحد أماكنى المفضلة، مرة بحكم أننى إنسان، وأخرى بحكم عملى الصحفى، الأولى أعترف بأنها لم تكن بكثرة الثانية، فزياراتى الإنسانية للمعهد كانت ترتبط بوجود ما يمكننى أن أقدمه من جنيهات كتبرع، أما زياراتى الصحفية فكانت أكثر من اللازم بحكم أنه - أى المعهد - نبع لا ينضب من الموضوعات والقصص الإنسانية.
ظل الوضع هكذا، كل ما اتزنق فى موضوع أطلع على المعهد وأعود بعشرة موضوعات، وكلها تلقى مساحة كبيرة فى النشر وتحظى بإعجاب رئيس القسم، إلى أن التقيتها، طفلة فى التاسعة من عمرها، تدعى شيماء أيضاً، رأس وذراع وقدم واحدة، ملقاة على سرير.. إنه كل ما تبقى من شيماء والباقى مبتور، بفعل سرطان لعين أخذ يعبث فى جسدها، ويأكل كل ما يمر عليه، فأكل مع الجسد المستقبل والأحلام التى يمكن أن تحملها طفلة فى مثل عمرها.
لم أتحدث كثيراً مع شيماء.. فقط نظرت إليها، فإذا بها تضحك وتقول لى: «أوعى تعيطى.. إحنا ما بناخدش منكم غير عياط، لو عايزين تساعدونا شوفولنا علاج».. كان لكلماتها تأثير قاتل، جعلنى أكثر إصراراً على البكاء، وخرجت من المستشفى وأنا أفكر فى كل مظاهر الترف التى يمكننى الاستغناء عنها وتحويلها إلى أموال ربما تفيد فى العلاج، أو على الأقل تقلل من الألم.

بعد أسبوع واحد عاودت زيارة شيماء، فإذا بشيماء أخرى مكانها، وإذا بالأولى راقدة فى جنات نعيم دون حساب، لتشهد، وقبلها مئات راحوا بالطريقة نفسها، على هؤلاء الذين اغتالوا براءتهم وطفولتهم بمبيدات وتقاوى مسرطنة وذلك عندما يقفون بين يدى الله.
بعد أيام من البكاء والنحيب والشعور القاتل بالمسؤولية ووخز الضمير - دون أن أعرف لماذا - عادت الأمور إلى مجاريها، عدا مجرى واحد، لم أعد أذهب إلى المعهد، وقطعت على نفسى عهداً بأننى لن أدخله لا زائرة ولا مريضة، وأصبحت أدعو فى كل صلاة «والنبى يا رب ما تحكمش علىّ ولا على أهلى».. وتعاملت معه بمنطق «لا تأذينى ولا أأذيك».

ولأن اللى يخاف من العفريت يطلع له، طلع لى المعهد من جديد، فهو بطل الخبر الأساسى فى أغلب الصحف، بعد الشروخ والتصدعات التى أصابت أحد مبانيه، وهو بطل أيضاً كل حوارات التنظير فى برامج الليل الفضائية.. وفى عز أزمة المعهد – واسمحوا لى أن أقول عز - تذكرت شيماء وهى تقول لى: «مابنخدش منكم غير عياط.. لو عايزين تساعدونا شوفولنا علاج»..
 وشعرت لأول مرة بأن العلاج الذى قصدته شيماء قبل أقل من أسبوع من وفاتها، ليس للمرض الذى اقتحمها وغيرها من الأطفال، بل للفساد الذى أدى إلى ما نحن فيه، الفساد الذى بدأ بوزير استقدم مبيدات ومواد مسرطنة وخلطها بطعامنا، واستبدل خطاب حكومته للمواطن من «بالسم الهارى» إلى «بالسرطان الهارى»، بحيث لم يعد دعاء «مطرح ما يسرى يمرى» نافعاً، لأن واقعه تحول إلى «مطرح ما يسرى يورم».

وللحق لم يكن الوزير ليفسد بمفرده، لأن الفساد بطبيعته زى الأكل «يحب اللمة»، لذا جمع الوزير معه كل من أراد أن يفسد، من مسؤولين فى وزارته ووزارات أخرى وكونوا معا ائتلافاً عصابياً تحت شعار «تعالوا نفسد سوا».. لا أعتقد أنه قصد بائتلافه إراقة كل هذه الدماء وإزهاق هذه الأرواح، بقدر ما قصد أن يجمع أموالاً ستجعله قادراً على علاج نفسه إذا ما أصيب - لا قدر الله - باكتئاب أو وخز ضمير نتيجة لأفعاله.
فساد من بنى وصمم المعهد القومى للأورام، لا يقل عن فساد من أدخل وعمم أكل «السرطان»، وإن كان فساد الأول مقدوراً عليه، فهو فى النهاية مبنى من حجر وأسمنت وليس أرواحاً، لذا لن أنضم إلى من يطالبون بمحاسبته، وسأطالب بتعميم منطق «إن سرقت إسرق جمل، وإن حاسبت حاسب رأس الفساد».

نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع