CET 10:42:02 - 18/02/2010

مقالات مختارة

بقلم: أسامه أنور عكاشه

مثلما راجت في السنوات الأخيرة حكاية اطلاق تسميات فرعية علي نوعيات متعددة من جذر كلمة ثقافة‏,‏ أراني مضطرا لاتباع نفس الأسلوب وأنا أتحدث عما أسميه ثقافة التنازل‏.
 
واذاكانت ثقافة الشيء الفلاني تعني وجود أو انعدام أسس بعينها يتم التعامل وفقها فيما يخص ذلك الشيء كما يحدث حين نستخدم مصطلح ثقافة الحوار أو ثقافة الاختلاف أو ثقافة الاستسلام وعكسها ثقافة المقاومة فإن ثقافة التنازل لم تلق مثل هذا الرواج كاصطلاح مستخدم وربما كنت انا أول من يستخدمه‏.‏
يبدو أن ظاهر الاسم يعطي رنينا سياسيا حين يستخدم‏,‏ وقد ينسحب الفهم الي معني التنازل في قضايا سياسية أو وطنية أو قومية الأمر الذي لم يرد بخاطري ولا أقصده اليوم فاناببساطة أتحدث عن الفن‏..‏ ولنبدأ الحديث من أوله‏.‏

كان لي حظ مشاهدة حلقة من برنامج تليفزيوني متميز تقدمه الاعلامية المتميزة رولا خرسا وبأسلوبها الرصين المتمكن الذي يشير دائما الي بعد ثقافي شامل‏..‏ بهذا الاسلوب أدارت حوارا ممتعا وشيقا مع داوود عبدالسيد اسمحوا لي أن اتحدث قليلا عن هذا الرجل الذي أعتبره ـ خاصة بعد رحيل يوسف شاهين وصلاح أبوسيف وعاطف الطيب ـ يأتي في مقدمة مخرجي السينما المصرية المحترمة والتي لم يتبق من كوادرها مع داوود غير قلة تعد علي الاصابع مثل يسري نصرالله وأسماء البكري وهالة خليل وكاملة أبوذكري ومجدي أحمد علي‏....‏ هذا بالطبع بعد صمت أو اختفاء مجموعة الشباب الذهبي ـ أصبحوا جميعا شيوخا الآن خيري بشارة ومحمد خان وبدر خان والقليوبي وهم وفقا لقواعد البحث في علم النفس الاجتماعي يشكلون المجموعة التجريبية التي تقابلها مجموعة داوود والآخرين‏.‏

وشرح المسألة يبدو شائكا لأقصي درجة ولكننا لا نملك إلا أن نعبر خلاله أيا كان مردوده من الأذي‏..‏ فعلي ارض الواقع الذي نراه ونلمسه نري أن الازمة تتصل بالصراع بين قوانين السوق التجارية وقوانين الفن وهو صراع قديم قدم دخوله صناعة السينما الي مصر في وقت مبكر من القرن الماضي وكان ترمومتر الصراع يعلو وينخفض طبقا للحالة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها مصر فمازلنا نذكر علي سبيل المثال تلك الأفلام التي أنتجت بين الحربين أو بمعني أدق مقدمات الحرب العالمية الثانية وما تلاها من نوعية شديدة التواضع صدق أن نطلق عليها أفلام الحرب شأنها شأن فنون الفترة جميعا التي شهدت حالة من التردي والاسفاف مازلنا نضرب بها المثل حتي الآن لكن الأمر يختلف اليوم اختلافا جذريا ومع أن البواعث متشابهة وأهمها وجود حالة من التردي وانهيار الذوق العام علي مستوي البلد كله فإن هناك فارقا يجب أن تنتبه اليه ففي موجة الاسفاف التي أنتجتها ظروف الحرب ووجود عساكر الاحتلال إلا أن كوادر العمل السينمائي كانت في معظمها اجنبية قد تفتقد الدافع الوطني للإبداع وتؤدي عملها من زاوية المعرفة التكنيكية التي لا يساندها وعي اجتماعي أو ثقافي يمكن أن ينتج فنا وطنيا جيدا أما اليوم‏(‏ اليوم هذا يمتد من اوائل التسعينيات وحتي اليوم الي إشعار آخر‏),‏ فلم تتهيأ للسينما المصرية في تاريخها هذه المجموعة الزاخرة من الكوادر الفنية المتعلمة والمثقفة في مختلفة فروع الفن السينمائي وكلها كوادر لا تنقصها الموهبة‏,‏ إذن فماذا حدث لتسود اليوم سينما التقاليع والمتاجرة بالتشوهات الاجتماعية والخلقية وتحويل تلك المتاجرة الي حالة عامة تنتعش فيها القيم السلبية وتفقد السينما أجمل ما فيها وهي قدرتها السحرية علي الامتاع الوجداني والارتقاء بالذوق العام‏.‏

وكتب علينا أن نكتوي بنار سينما العشوائيات التي ترتدي من باب التزوير والتدليس رداء الواقعية وملامسة اللحم الحي لأبناء هذه الفترة وبات لزاما علي من يريد أن يدقق ويتحقق لكي يصدق هؤلاء السادة مفتكسي تيار السينما الجديدة‏..‏ علي هؤلاء أن يذهبوا بأنفسهم الي قلعة الكبش ومنشية ناصر والجيارة وعزبة الوالدة وغيرها من الخدوش التي ترسم خلفية المنظر القاهري معبرة عن حالة فقر موجودة لدرجة الفضيحة ولا يستطيع أحد أن يجادل في وجودها ولكن هل نتذكر ماذا فعل الهنود بعشوائياتهم في الأفلام التي حصدوا بها الجوائز العالمية أم نذكر بأفلام روسيلليني وديسيكا في الافلام الايطالية بعد الحرب؟ والمذهل منها اطار هذا المناخ التجاري الذي تحكمه قاعدة‏:‏ أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من الاسواق وان يحدث هذا التأكيد الفظ لهذه القاعدة وعلي عينك يا تاجر ولنتل عليكم أطرافا في حدث لنذكركم والذكري تنفع المؤمنين‏:‏

انتظر شاعر السينما المصرية شادي عبدالسلام أكثر من عشرين عاما ليجد منتجا ينتج له تحفته الثانية اختاتون ثم يئس ومات قهرا وبقي السيناريو الذي أذهل كل من قرأه حبيس الأدراج‏!‏ وجلس كل من محمد خان وخيري بشارة وداوود عبدالسيد ويسري نصر الله ومجدي أحمد علي ورضوان الكاشف وغيرهم من العباقرة البكر‏..‏ جلسوا جميعا في بيوتهم يتفرجون علي نجوم الاخراج الاشداء أصحاب اللمبي وانا وخالتي وكلم ماما وحاحا وتفاحة والولد الذي ذهب الي الصين ليعلمهم الطبيخ والآخر الذي ذهب الي تايلاند ليمارس السرقة في بانكوك بعد أن ضاقت عليه القاهرة‏.‏

ولا شك أن هناك استثناءات قد نجت من المقصلة مثل أفلام أسامة جرجس فوزي وهاني خليفة وبعض الشباب المجتهدين الذين حددوا اختياراتهم منذ البداية ولكنهم لا يمحون الاساءة ولا يغفرون الخطيئة التي تضعنا جميعا في قفص الاتهام لتحاكمنا ضمائرنا تحت سؤال يلخص المأساة بأسرها‏:‏ لحساب من وتحت أي تبرير يجلس داوود عبدالسيد في بيته بالسنوات ليخرج فيلما كلما سمحت الظروف ويظل طوال هذه السنوات يجري بين المكاتب والردهات ليحرك الرجول الخدلانة وما أكثرها يحدث هذا في الوقت الذي يجب فيه أن تحتفل المحافل والأوساط الثقافية والفنية بأي انتاج يبدعه هذا المخرج الفذ‏.

ان داوود عبدالسيد كما نعرف جميعا ليس مخرجا يقف وراء الكاميرا أو يعكف علي ديكو باجه وتقطيع مشاهده واختيار زوايا التصوير ولكنه مفكر يكتب بالقلم أولا ثم بالكاميرا أي انه فنان سينما بالمعني الكامل وأنا لم يتح لي حتي الآن أن أستمتع بتحفته الأخيرة رسائل البحر ولكني حتما سأراها وان كنت أقيس رأيي المبدئي علي ابداعات داوود السابقة انه لمن العار حقيقة ان يخضع فنانون لفخ الاختيار الصعب بين ثقافة التنازل وثقافة الصمود واتساءل في النهاية‏:‏ كيف يحدث هذا وهناك كيان ثقافي ضخم هو وزارة الثقافة التي نعدها شاءت أم أبت وأيا كان من قراراتها السابقة بالتخلي عن السينما ـ نعدها المسئول الأول فلا يمكن لجهة ما أن تتنازل ـ كده بمزاجها ـ عن مسئولية فن يقع في صميم واجباتها والتزاماتها‏.‏

نقلا عن الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع