بقلم:د. عبد المنعم سعيد
تتغير بلدان العالم بوسائل شتي, فبعضها ينقلب حاله نتيجة ثورة سياسية واجتماعية, وبعضها الآخر تتبدل أحواله نتيجة التقدم التكنولوجي والاقتصادي الذي لا يبقي وضعا ولا أمرا علي حاله, وبعضها الثالث لا يعود كما كان نتيجة غزو أجنبي أو هزيمة عسكرية تدفعه إلي الاستسلام كما حدث مع ألمانيا واليابان, وبعضها الرابع, وهو الغالبية من الدول, فإن التحولات الكبري لا تأتي فجأة, أو بسبب تطورات عنيفة لغزو أو ثورة, وإنما نتيجة تراكم تاريخي في عناصر اقتصادية واجتماعية وثقافية متنوعة تجعل البلد ليس كما كان.
وتنتمي مصر إلي هذه الطائفة الأخيرة من الدول, وقيل في كتب كثيرة أن مولد مصر الحديثة في عهد محمد علي جاء من تراكمات جرت قبلها وقبل وقت طويل من الحملة الفرنسية علي مصر إبان العصور المملوكية المتأخرة. ومن المؤكد أن إرسال البعثات العلمية المصرية إلي الخارج في مطلع القرن التاسع عشر, وتغير نظم الملكية الزراعية في عهد الخديوي سعيد, وإدخال القطن إلي الزراعة المصرية في نفس المرحلة الزمنية, وتوارد مخترعات حديثة مثل الصناعة وطرق الري الحديثة والسكك الحديدية وكل وسائل المواصلات التي تلتها والتلغراف والصحافة ومن بعدها الإذاعة والتليفزيون وحتي ظهور الإنترنت, كلها تركت بصماتها علي الحالة المصرية. وبينما كان ذلك كله يجري في بر مصر ويغير من البشر والحجر, فإن ذلك كله كان يعبر عنه بأشكال مختلفة من القلق جاء بعضها أثناء المواجهة مع المستعمر, أو الاستجابة لأشكال مختلفة من' الثورة' آثر معظم القائمين عليها إلي العودة مرة أخري إلي تحقيق تراكم وراء الآخر.
فلم يحدث لدينا في أي من العصور الليبرالية والاشتراكية أن بذل جهد لإنهاء الأمية في البلاد مثلا كما فعلت اليابان قبل أكثر من قرن وبعد ثلاثة عقود فقط من نهضتها أو جرت نقلة كيفية في توزيع السكان كما حدث في الولايات المتحدة عندما ذهب الناس يبحثون عن الذهب في الغرب, أو انقلبت البلاد من الزراعة إلي الصناعة كما جري في معظم الدول الأوروبية.
والأمثلة علي كل ذلك كثيرة, أما في مصر فقد تغير المصريون ومعهم أرض مصر تدريجيا, فحتي بعد أن استولي المستعمرون علي قناة السويس فإن ذلك لم يمنع من بناء ثلاث مدن حديثة هي السويس والإسماعيلية وبورسعيد, وثلاثتهم يقعون الآن في مقدمة المحافظات المصرية من حيث مؤشرات التنمية البشرية. وعندما تم بناء السد العالي تغير مجري النهر, ومعه تغير صعيد مصر لأول مرة, وأصبحت أسوان مدينة حديثة أخري بعد أن كانت من المنافي البعيدة, وباتت بلاد النوبة علي حال آخر, أما بقية مصر فقد بات عليها أن تتعامل مع قدر أكبر من الكهرباء, ومساحة أكبر للزراعة, وعدد أكبر من المحاصيل لزراعتها.
شيئا من ذلك يجري الآن في مصر عندما تغير مجموعة من المشروعات العملاقة من جغرافية البلاد وديموغرافيتها. وإذا كان نهر النيل يحمل الحياة من قلب أفريقيا جنوبا وحتي دمياط ورشيد شمالا, وفي هذه الرحلة يصب المياه علي مدن وحضارة واسعة; فإن الاتجاه المعاكس, من الشمال للجنوب, بات يحمل الآن' الطاقة' التي تفجر الصناعة, وتجعل للزراعة شكلا ومضمونا آخر, وتوزع النور والخدمات علي مدن وقري ونجوع لن تعود علي حالها مرة أخري. والمسألة ببساطة هي أن وزارة البترول أعدت إستراتيجية طويلة المدي واسعة النطاق, ترتكز علي مد خطوط الغاز لجميع أنحاء مصر من وحدات سكنية ومصانع وبعض محطات الكهرباء ومنتجعات سياحية وفندقية. وفي هذا الإطار, يمثل مشروع خط غاز الصعيد أطول خط في شبكات خطوط الغاز المصرية, ومؤخرا تم الانتهاء من تنفيذ أصعب مرحلة فيه, حيث سيمر الخط أسفل قاع نهر النيل عند أسوان بعرض1750 مترا, وبعمق20 مترا من سطح المياه.
وكان هذا المشروع قد طرح في عقد الثمانينيات من القرن الماضي بغرض توصيل الغاز إلي مجمع كيما الصناعي بأسوان وأجريت دراسات مختلفة بشأنه وانتهت جميعها إلي صعوبة تنفيذه سواء عبر وادي النيل أو عن طريق البحر الأحمر, حتي تم البدء في تنفيذه منذ عشر سنوات, وتدرج مرحلة وراء مرحلة, من دهشور إلي الكريمات, ومن بني سويف إلي أبو قرقاص, ومنها إلي أسيوط ثم إلي جرجا بسوهاج ثم إلي أسوان. ويؤدي المشروع لتوفير الطاقة النظيفة والآمنة للاستخدام المنزلي والصناعي علي طول مساره بدءا من دهشور وحتي أسوان التي غيرها السد العالي من قبل والآن سوف نري المدي الذي يصل إليه المشروع الحالي.
وشهد تنفيذ خط غاز الصعيد العديد من الصعاب والتحديات الجغرافية من تربة صخرية تمت إزالتها بكميات وصلت إلي550 ألف متر مكعب, والمرور في مناطق زراعية ذات تربة رخوة بلغ طولها350 كم. كما بلغ إجمالي أعمال تحريك التربة من حفر وردم وتمهيد مسار إلي5 ملايين متر مكعب, بخلاف تنفيذ عدد800 تعدية متنوعة تشمل الطرق والسكك الحديدية والترع والمصارف. وبلغت التكلفة الإجمالية للمشروع5.7 مليار جنيه, تحمل تدبيرها قطاع البترول, حيث قام بتوفير التمويل من بنك الاستثمار الأوروبي وصندوق الإنماء العربي وبعض البنوك المصرية, ويبلغ طوله930 كيلو متر, وأنجز في فترة زمنية قياسية ومن خلال أيدي عاملة مصرية ـ ودونما الاستعانة بخبرات أجنبية ـ وبواسطة شركات البترول المصرية, لاسيما فيما يتعلق بالمرحلة الممتدة من المنيا إلي أسوان.
ويعطي هذا المشروع أولوية لتنمية محافظات الصعيد, فقد وصل الغاز الطبيعي إلي محافظات بني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج, وستشهد كل من قنا والأقصر وأسوان وصول الغاز إليها قبل نهاية العام الحالي, بهدف حصولها علي نصيبها العادل من الاستثمارات والإسهام في رفع مستوي معيشة مواطنيها. فلم يعد الغاز الطبيعي حكرا علي قاطني القاهرة والدلتا فقط, بل صار لأهل الصعيد نصيب منه, وهو ما يسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية. فطاقة هذا الخط تبلغ10 مليارات متر مكعب سنويا, سوف تزيد إلي14.4 مليار متر مكعب سنويا بعد سبع سنوات من الآن.
ويعد خط غاز الصعيد أحد أهم المشروعات الإستراتيجية المصرية خلال الأعوام الأخيرة, وسيكون له دور رئيسي في تطوير خريطة الاستثمار وفتح آفاق جديدة في محافظات جنوب مصر, وفقا للبرامج الزمنية المحددة, حيث يساعد الغاز الطبيعي كمصدر رخيص للطاقة علي حماية البيئة من أي مصادر ملوثة إلي جانب رفع كفاءة العمل بالشركات القائمة ودعم الأنشطة التجارية المختلفة وجذب المشروعات الاستثمارية وتشجيع القطاع الخاص علي إقامة مشروعات جديدة توفر المزيد من فرص العمل لأبناء الصعيد ويقلل من أسباب انتقالهم لمحافظة القاهرة أو حتي لخارج البلاد. فالهدف النهائي هو تنمية الصعيد بالاستثمار والصناعة, وبعث نطاق جديد من الجغرافيا والديموغرافيا إلي مجال التطور العام للبلاد.
والآن يصبح السؤال لقد وصل الغاز إلي الصعيد, ومعه سوف تجري واحدة من أكبر عمليات التغيير الاجتماعي والاقتصادي في نطاق سكاني محافظ علي الأرجح أنه سوف يتعرض لنفس عملية التغيير التي جرت في أسوان ومدن القناة المختلفة التي أشرنا لها من قبل. ومما يعزز عملية التغيير هذه أنها تجري في الوقت الذي بدأت فيه عمليات التنفيذ لإنشاء طريق البحر الأحمر الذي يربط محافظات الصعيد خصوصا محافظات سوهاج وأسيوط وقنا بميناء سفاجا ويختصر بالتالي المسافة بين هذه المحافظات والبحر الأحمر, إذ تبلغ المسافة الراهنة بين سوهاج وسفاجا217 كيلو مترا, وسوف يساعد المشروع باختصاره للمسافات علي اختصار وقت السفر بين المدينتين إلي ساعتين ونصف الساعة, بينما تصل المسافة الحالية بين أسيوط وسفاجا إلي328 كيلو مترا, وسوف يؤدي المشروع إلي تمكين المسافرين من قطع المسافة بين المدينتين في ثلاث ساعات فقط.
وينقسم الهيكل العام لهذا المشروع التعميري الضخم إلي مشروعات استثمارية متعددة حول محور الصعيد- البحر الأحمر ويتم تأسيس هذه المشروعات في وادي قنا وخمس مناطق في نطاق محافظة أسيوط, وكذلك منطقة وادي شيخ الذي يقع في المسافة بين أسيوط وسوهاج ومنطقة شرق سوهاج ومنطقة أولاد شرق بين سوهاج وقنا. أما مشروعات الصناعة والتعدين فسيتم تأسيسها في مناطق غرب سفاجا ومنطقة المطامير الصناعية شرق وصلة سوهاج وشرق وصلة أسيوط ومنطقة جبل الجير شرق وصلة قنا.
الحديث هنا إذن موصول مع ما ذكرناه في مقالات سابقة حينما أشرنا إلي مكامن الثروة الطائلة القائمة في البلاد, وحينما نوهنا بما يجري بالفعل من جهود لإطلاق هذه الثروة من عقالها لأنها الطريق الذي لا بديل عنه للتطور والتقدم وتوسيع الطبقة الوسطي التي هي مكمن التطورات الديمقراطية في كل بلدان العالم. فالمسألة المطروحة ليست النظر فيما هو مفقود وضعيف وفقير في البلاد, ثم بعد ذلك البكاء عليها ولطم الخدود حولها, لكن النظر في كل ما هو بناء, وكل ما يفجر الثروة والمعرفة ويحقق تراكما حقيقيا يساهم في تحقيق نقلة نوعية في هذه المسيرة الطويلة والتي طالت أكثر مما ينبغي.
لقد وصل الغاز إلي أهل الصعيد, في ذات الوقت الذي وصلوا فيه إلي البحر, وما بين النهر والصحراء والبحر تتولد حاجات أخري لتطوير البشر أنفسهم لكي يرتفعوا إلي قامات المكان الذي تغير كثيرا عن كل العصور السابقة. والحديث متصل دائما بقضية مصر كلها.
نقلا عن الأهرام
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=10041&I=263